للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مرتكزات للفهم والعمل

الخشوع

منزلته، موجباته، آثاره

بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال

الخشوع: ضراعة القلب، وطمأنينته وسكونه لله (تعالى) ، وانكساره بين

يديه، ذلاّ، وافتقاراً، وإيماناً به وبلقائه.

ومحل الخشوع: القلب، وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا

ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء،

تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فيمثل الخشوع إذن: الانقياد التام لأوامر الله

ونواهيه، والعكوف على العمل من غير توانٍ ولا فتور.

منزلة الخشوع من الإيمان:

الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب،

وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب،

ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد

قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.

والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سلم الإيمان، ودرجات اليقين،

ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على

ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛

عاتبهم فقال: [أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ

وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ

فَاسِقُونَ] [الحديد: ١٦] ، وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة

أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال

عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.

ثم قطع الله دابر اليأس، وبَعَث الأمل؛ فإن القلب القاسي يمكن عودته إلى الله

وإقباله عليه؛ كالأرض يحييها الله بعد موتها، قال (تعالى) : [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ

يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الحديد: ١٧] ، خاطبهم

بكل ذلك؛ ليزدادوا قرباً منه (تعالى) ، فتوجل قلوبهم لذكره، وتسكن قلوبهم لأمره؛

ليكونوا من المخبتين، فيتأهلوا لدار كرامته، ويصيروا من أهل النفوس المطمئنة

لتُنادى بالنداء الكريم العظيم: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ

رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي] [الفجر: ٢٧ -٣٠] .

هذا هو خشوع الإيمان الذي يريده الله من عباده، ليس منه الزعيق والصياح، ولا الرقص والتصفيق، ولا ضرب الخدود وشق الجيوب. وشتان بين خشوع

الإيمان وخشوع النفاق الذي يبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً ومراءاة، مع كون

القلب غير خاشع، والنفس منطوية على إرادة الشهوات [١] .

وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين، الذي كان له في

الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره

أزيز كأزيز الرحى أي الطاحون من البكاء [٢] ، وربما بكى فبلّ حِجْرَه، ولحيته،

والأرض تحته [٣] ، وكان كثير الذكر والاستغفار والتوبة، وكذا صاحبه الصديق

(رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى [٤] ، وأما الفاروق

فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!

وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.

ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من

شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في

واقع حياتنا [٥] .

مكانة الخشوع وفضائله:

والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان

يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن

القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.

وهذا العلم النافع هو أول ما يرفع من الأمة، كما في الحديث: (أول ما يرفع

من الناس الخشوع) [٦] ، وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر

يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.

وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع

صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة.

ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله

(تعالى) ، وأعظمها: حصول البشرى [وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ] [الحج: ٣٤] ، وبه ... ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ] [المؤمنون: ١، ٢] ، ثم قال: [أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ (١٠) الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [المؤمنون: ١٠، ١١] .

مواطن الخشوع [٧] :

وهي كثيرة، ولكنه ارتبط بالصلاة أكثر من غيرها، فلا يُذكر إلا وينصرف

الذهن إليها؛ لأن أعمالها تتضمن الذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والركوع،

والسجود، وهي مواطن الخضوع والبكاء والخشية والتخشع.

وقد أمر الله (تعالى) بإقامة الصلاة، وإقامتها تعني: أداءها كما أمر الله

ورسوله، بتوجه القلب والجسد كلية إلى الله (تعالى) ، وبالخشوع فيها يجمع

المصلي بين طهارة الظاهر والباطن، ثم إن المغفرة وتكفير السيئات ورفعة

الدرجات مرتبة على قدر الإحسان في أداء الصلاة، وقد بلغ من منزلة الخشوع فيها

أن الله (سبحانه) جعل الصلاة الخاشعة أول صفات المؤمنين المفلحين الوارثين

للفردوس، حتى اختلف الفقهاء في الاعتداد بالصلاة التي لا خشوع فيها! ! ، وإن

كان يسقط أداؤها، لكن الأجر بعيد.

والصلاة مرآة لإيمان المصلي، فخشوعها الباطن مرآة القلب، وخشوعها

الظاهر مرآة الجوارح، وفي بيان صلة الخشوع بالإيمان قال (تعالى) : [قَدْ أَفْلَحَ

المُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ] [المؤمنون: ١، ٢] ، وكما أن كل

زيادة في الإيمان تزيد في الخشوع، فإن الصلاة من أعظم أعمال الإيمان،

وخشوعها يزيد الإيمان.

إن تفاعل المسلم مع صلاته لا ينبغي أن ينفصل عن تفاعله مع بقية إسلامه:

علماً، وعبادة، ودعوة، فالذي يعيش الإسلام، ويعيش للإسلام، ويحاول أن

يستأنف حياة إسلامية في شخصه ومجتمعه، تنفتح له آفاق من الخشوع عند الصلاة

والذكر والتلاوة والتفكر، لا تنفتح لغيره، فيجد لعبادته هذه حلاوة.

موجبات الخشوع (الطرق الموصلة إليه) :

إن مما يحصّل به المسلم الخشوع:

١- تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو

رأي.

٢- الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع،

ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء

وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.

٣- الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.

٤- مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لاطلاعه على تفاصيل ما في

القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف

والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.

٥- طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.

٦- ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته

العلا.. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب

بالله.

وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً

وخِيفة، ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم،

والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله (تعالى) .

ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة،

وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى) ،

والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله

القرآن الكريم.

وأما الصلاة: فإن تفصيل الطرق الموصلة إلى الخشوع فيها يطول، ولكن

هذه بعض مفاتيحها:

١- العلم بمنزلة الصلاة، والإلمام ببعض أسرارها، وهو الأمر الذي لا يهتم

به إلا قليل من الناس.

٢- المحافظة على آدابها الظاهرة حال التطهر والاستعداد لها والخروج إليها،

والاعتدال والاطمئنان في كل أركان الصلاة وأجزائها، مما يحقق خشوع الظاهر،

فيساعد على خشوع الباطن.

٣- التحقق بخشوع القلب، وتجريده من الرياء، فإنه لا خشوع بلا إخلاص، ولا بد منهما جميعاً، فإن ذهاب أحدهما يتعلق به ذهاب الآخر، قال (تعالى) : ... [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ] [الماعون: ٤ - ٦] .

أما الوساوس والخطرات فأفضل شيء لها: التخلص من الشواغل قبل

الدخول في الصلاة، والتحصن ضدها بعد الدخول في الصلاة، وذلك أمر يحتاج

إلى طول المجاهدة وإدامة الصبر حتى يبدأ القلب في الخشوع مرة تليها ثانية، حتى

يصير الخشوع صفة من صفات القلب اللازمة له، والله المستعان.

٤- تدبر معاني الأقوال، وأسرار الأفعال في الصلاة، وهي مجال خصب

وبحر لا ساحل له.

٥- النظر في سير الخاشعين أحياءً وأمواتاً.

٦- قيام الليل، وهو مدرسة تعلم الخشوع والإخلاص.

علامات الخشوع:

وهي أمارات يتعرف بها الإنسان على حال قلبه، ومنها:

حب الصلاة والاشتياق إليها، والمسارعة إليها، وكونها سهلة خفيفة تشرح

الصدر ويطمئن لها القلب.

حضور القلب عند تلاوة القرآن، والذكر والدعاء، وسماع المواعظ

والخطب، وتدبر كل ذلك بيسر وسهولة.

دوام الشكر عند حصول النعم واندفاع النقم، وبقاء القلب على وجل من كون

ذلك استدراجاً.

دوام الصبر عند وقوع البلاء وتلقيه بالرضى والاستسلام والطمأنينة.

كثرة التدبر والتأمل والتفكر في مخلوقات الله، وفي حال النفس، وأحوال

العصاة، والشفقة عليهم، وسؤال الله العافية.

ومما ذكر الله من صفات الخاشعين: الخوف من الله بمجرد ذكر اسمه،

والبكاء من خشيته، وعند سماع كلامه، والصبر، وإقامة الصلاة، والإنفاق،

وتعظيم شعائر الله، واليقين بملاقاة الله (تعالى) ، والمسارعة في الخيرات، ودعاء

الله رغَباً ورهَباً.

آثار الخشوع:

يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:

١- أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.

٢- أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.

٣- المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم

والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٤- توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لاشريك له،

فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك:

إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا

يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم

من تعظيم الله ومحبته وخشيته.

وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة

عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

نسألك يا مقلب القلوب أن تُلزم قلوبنا خشيتك، وأن تعمرها بتعظيمك،

وتملأها بالذل لك [*] .


(١) انظر: الروح، لابن القيم، ص ٥٢٠، ٥٢١.
(٢) سنن أبي داود، ح/٩٠٤، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/٧٩٩.
(٣) أخرجه ابن حبان، ح/٦٢٠، وصحح محققه إسناده.
(٤) صحيح مسلم، ح/٤١٨.
(٥) انظر رسالة قيمة لعبد الملك القاسم بعنوان (والثمن الجنة) ، فقد ملأها من مثل تلك المواقف.
(٦) أخرجه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، ح/ ٢٥٧٦.
(٧) كُتب كثيراً عن الخشوع في الصلاة، ومما استفدت منه استفادة كبيرة: رسالة د محمد عز الدين توفيق (الخشوع في الصلاة) ، فما رأيت أنفع منها.
(*) من مراجع هذا الموضوع المهمة أيضاً: مدارج السالكين، لابن القيم، الجزء الأول مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة الخشوع وأثره في بناء الأمة، سليم الهلالي.