ثمة بعد بدهي يتعذّر تجاوزه يَتمثّل في قداسة النص القرآني وقدرته على مباشرة الوظيفة الإيقاظية، من خلال تنظيم إيقاع الحياة، وقدرته على الجدلية ـ بحسبه فاعلاً ـ مع متباين السياقات الزمانية ـ بوصفها منفعلاً ـ دون أن يفقد شيئاً من ماهيّته، ملبياً آفاق الإنسان وطموحاته عبر تقديمه للمثل الأعلى ـ على نحو خالٍ من التعقيد المنهجي ـ الذي يتمركز حوله النشاط الجمعي العام. ولو تأملنا في الخطاب القرآني على نحوٍ معمَّقٍ لألفيناه ـ كرسالة شمولية عامة تتعالى عن الحدود الزمانية والمكانية ـ يزخر بالعديد من التوجيهات العامة الرامية إلى إفساح المجال للفاعل الفقهي ليباشر الفعل التأويلي ويتحرك داخل النص وفق أصول منضبطة، وفي ظلال المقاصد العامة للشريعة، وفي إطار حاجات المجتمع المسلم. الممارسة التأويلية لا تجري على نحو عشوائي، بل هي محكومة بمنهج، ومقيّدة بنص، ومؤطَّرة بضوابط معرفية، ومطالَبة باستقطاب المنتَج التأويلي العام المتمخض عن الذهنية السلفية المعتبرة للتماهي معه والالتزام بأنظمته ومحدداته؛ التي يفضي تجاوزها إلى ضرب من الخيال التأويلي، والترجمات غير الأمينة التي لا تتناغم والقيدَ الموضوعي؛ كما نلاحظ في كثير من السلوكيات التأويلية التي تتعاطى مع النص بانفتاح تأويلي لا نهائي ـ كإجراء يخترق النظام العقدي ـ؛ فهي تباشر الفعل التأويلي وفق الهندسة المفاهيمية المستوحاة من الجغرافيا الفكرية ـ المنحرفة ـ التي تنتمي إليها؛ فتتعاطى مع مفردات النص، باعتبارها لا تركن إلى دلالة ثابتة بقدر ما هي متعالية على التحديد، عبر انفتاحها على حقل دلالي متنوع، يحيل النص إلى مساحة رحبة للعمل العقلي على نحوٍ ناءٍ عن الشرط المعرفي المعتبر.
هذه الذهنية ـ المنشقة على الأسس الموضوعية ـ ترى أن التعددية الدلالية، وتدفق المعنى الفائض هو الأصل الذي يدفع الفاعل التأويلي إلى تجاوز المعاني المباشرة للتشكيل اللغوي في بنية النص إلى البنية العميقة لاستجلاء ما أضمر من أي كمون إيحائي، ودفع النص للبَوْح بكل معطياته المتوارية! هذا القالب يمارس الفعل التأويلي التقويلي على النص عبر تحميله لدلالات نائية عن طاقته المعنوية، انطلاقاً من إيمانه بأن النص قابل للتأويل المستمر والصيرورة الدائمة؛ فهو لا نهائي في نصيّته، ولا محدودية في معطياته الدلالية! بل هو قابل للنقد والمراجعة كأي نص بشري آخر، كما نرى عند (عفيف الأخضر) الذي يوغل في المخالفة العقدية؛ فهو يذهب إلى أن النص القرآني لا يتعالى عن المساءلة، ولا يستعصي على النقد! ولذا فهو ينزع إلى توسُّل المنهج (الأبستمولوجي الباشلاري) النقدي التفكيكي في التعاطي مع النص، ومعاينة مضامينه، والمسلك ذاته ينهجه (شاكر النابلسي) . هذا الحراك الموصوف بالتأويلي يرى أن التمسك بحرفية النص ومعطياته اللغوية المباشرة يحيله إلى نص مغلق؛ يعكس إمبرياليّته وأحاديته التي يُنزَّه عنها كفضاء دلالي رحب الآفاق! كما نرى في كتاب (قراءة معاصرة في إعجاز القرآن) لِـ (إبراهيم محمود) ؛ حيث يرى:«ضرورة عدم الحجر على النص القرآني في معنى موجه» ! (ص: ١٠٢) .
هذا السطو المعنوي الموجه يرمي ـ كما يتوهم ـ إلى تشكيل الجغرافيا الدلالية عبر ملامسة (ميتافيزيقا) النص بعد تفكيكه من الفهم التراثي الذي عَلِق به في ظروف زمانية مكانية معينة، ولكنه يقع فيما هرب منه؛ لأنه أخضع النص مرة أخرى للمعطى الزماني كما نرى عند (محمد أركون) ؛ الذي يتوّسل المنهج (الأركيو لوجي) الحفري، ويشتبك مع النص القرآني عبر القراءة التفكيكية ـ تأثراً بِـ (جاك دريدا) التفكيكي الأول ـ كمنهج نقدي قائم على أساس عدم وجود قراءة واحدة للنص، بل هو يستجيب لإمكانيات القراءات المتعددة. ولا ريب أن هذا المنطق التأويلي منافٍ لطبيعة النص؛ فهو يتقوّل عليه ويقلّل من قداستة. المسلك الأركوني اللاموضوعي يرى أن الإسلام خاضع للتاريخانية، وأن البعد الميثي هو القالب الناظم للخطاب القرآني، وأن المنحى المجازي هو الركيزة الجوهرية التي يتوفّر عليها؛ حيث يقول في كتابه (تاريخية الفكر الإسلامي) : «إن القرآن كما الأناجيل ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري. إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً»(ص: ٢٩٩) . وفي الكتاب ذاته يندفع متهوراً ويتهجم على الإمام الشافعي ويرى أن تحديد الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في (الرسالة) لمصادر التشريع الإسلامي بأنها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس ـ أن هذا هو:«الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي»(ص: ٢٩٧) . وقريباً من هذا نجد الدكتور (محمد عابد الجابري) الذي أطروحاته دائماً تتمحور حول التراث والتحديث ـ قد سلك منهجاً فكرياً ينحو المنحى الفلسفي في قراءة التراث، وقد وقع في مغالطات حادة (١) . من ذلك قوله في كتاب (بنية العقل العربي) : «اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة، في الماضي والحاضر، تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها» . أيضاً يذهب (محمد أركون) إلى القول بأسطرة القصص القرآني، ويرى أن المعطى الزمني المعاصر هو الذي يجب أن يحاكم إليه القرآن؛ حيث يقول في كتاب (الفكر الإسلامي: قراءة علمية) : «ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس» ! (ص: ٢٠٣) .
إن التماهي العميق مع الأسس (الهيرمونوطيقية) أفضى إلى التمرد على النص المحكم، وانتهاك الشرط التأويلي من خلال مصادرة قداسة النص، ونفي بُعْدِه الإلهي، بل وثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إلى تبنّي المنهج (النيتشوي)(٢) ، والقول بموت الأشياء الغيبية (كما هو تعبيرهم المعتمد) ، وأن لفظ الجلالة ليس إلا رمزاً لذاتٍ عُليا مجهولة الصفات ـ جلّ الله في علاه ـ، وأن السلوك الإلحادي هو الحالة الإنسانية الطبيعية للتعاطي مع الوجود! الجنوح إلى توسيع فضاء الممارسة التأويلية اللامنضبطة لا يفرز إلاّ تغيير البنيان النظري للمفردة ـ عبر زحزحتها على الصعيد الدلالي من واقعها الفعلي ـ ويحيل الحقيقة الموضوعية إلى ضرب ميثولوجي أسطوري، والمقدس المتعالي إلى متعين مادي! كما نرى في (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) لِـ (محمد شحرور) الذي قفز على القواعد الشرعية، وصادم المسلَّمات البديهية، ودلف في مغامرات (هيرمونوطيقية) دفعته إلى اعتبار الوجود المادي هو عين الوحي المقدس؛ حيث يقول:« ... فالوجود هو عين كلام الله وهو مخلوق غير قديم»(ص: ٢٥٦، ٢٥٧) ! هذا الانحراف الحاد في تضاريس الجغرافيا التأويلية المعاصرة لا يبتغي في حقيقته التقاطع مع النص اتفاقاً؛ وإنما يرمي إلى التقاطع مع العقل ـ المحدود ـ بحسبه الملهمَ الأول لدعم فكرة أو دحض أخرى.
وصفوة القول: إنه لا يخفى على ذي تنبّهٍ في هذا المساق أن التعاطي مع النص وفق رؤية سلفية هو حجر الزاوية في تصويب الرؤية، وترشيد تداعياتها؛ لأن السلف كما يقول (ابن تيمية) في كتابه (درء التعارض) هم: «أكمل الناس في معرفة الحق وأدلّته والجواب عمّا يعارضه»(٧/ ١٧٢) .