للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الاخيرة

[من أجل دعوة إنسانية]

خالد أبو الفتوح

هل تأملتَ يوماً سيارة قديمة أُنتجت منذ عشرات السنين وقارنتها بسيارة

حديثة الصنع؟ لا بد أنك لاحظتَ مدى التقدم في التقنية التي عليها السيارة الحديثة؛ من حيث المظهر والقوة والرفاهية، وقد يجول بخاطر بعضنا مدى التخلف الذي

عليه السيارة القديمة، وقد يقطع آخرون بأنه لم يعد لهذه السيارة مكان إلا في أفران

الحديد ومصانع الصلب، أو في أحسن الحالات تُوجَّه إلى إحدى القاعات في متحف

للمواصلات، وقد يكون ذلك ما يمليه الواقع بالفعل.

ولكن الحقيقة الغائبة أن هذه السيارة القديمة ليست متخلفة بل (بدائية) ، وأن

السيارة الحديثة ليست إلا سيارة (متطورة) ، وأن هذا التطور ما كان ليحدث لو لم

يُستفد من تجربة السيارة البدائية ويبنى عليها؛ فإهدار التجارب السابقة والبدء دوماً

من نقطة الصفر يعتبر عبثاً وإهداراً للأعمار.

فالاستفادة من التجارب السابقة والبناء الواعي عليها هو أحد أسرار التقدم

الإنساني، وهو ميزة إنسانية محضة؛ فعلماء الاجتماع يقولون: إن من الخصائص

المميزة للإنسان كونه حيواناً ذا ذاكرة، بمعنى أنه - بخلاف الحيوانات الأخرى -

يمتلك القدرة الذهنية على اختزان التجارب والمعلومات ثم استرجاعها مرة أخرى

عند الحاجة إليها أو في مواقف مشابهة للاستفادة منها في تجارب جديدة وأيضاً نقلها

إلى آخرين.

وهذا ما حض عليه القرآن الكريم عندما دعا في أكثر من آية إلى الاعتبار

وأخذ العبرة بتأمل الآيات الكونية والأحداث التاريخية، وبيّن أن ذلك من سمات

أولي الأبصار وأولي الألباب وأصحاب الخشية: [يقلب الله الليل والنهار إن في

ذلك لعبرة لأولي الأبصار] [النور: ٤٤] ، [لقد كان في قصصهم عبرة لأولي

الألباب] [يوسف: ١١١] ، [فكذب وعصى. ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى.

فقال أنا ربكم الأعلى. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن

يخشى] [النازعات: ٢١ - ٢٦] .

وأصل معنى (العبرة) و (الاعتبار) من العبور، وهو الانتقال من جانب إلى

آخر، كعبور النهر أو الطريق؛ ففي هذه الآيات وأمثالها حث القرآن على تأمل

الآيات والأحداث، ثم الانتقال منها وبها إلى الواقع والمستقبل، يقول ابن فارس في

قوله - تعالى -: [فاعتبروا يا أولي الأبصار] [الحشر: ٢] : (كأنه يقول:

انظروا إلى مَنْ فعل ما فعل فعوقب بما عوقب به، فتجنبوا مثل صنيعهم لئلا ينزل

بكم مثل ما نزل بأولئك) [١] .

فالاستفادة من التجارب السابقة ومراعاة نتائجها عند الشروع في العمل إحدى

السمات التي تميز أولي الأبصار: [إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار] [آل

عمران: ١٣] ، بينما فَقْدُ ذلك يجذب الإنسان نحو عالم الأنعام [لهم قلوب لا

يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل

هم أضل أولئك هم الغافلون] [الأعراف: ١٧٩] .

ومن هذا المنطلق ينبغي أن نلاحظ أنفسنا في تجاربنا التربوية والدعوية؛

فالمربي الذي لا ينقل خلاصة علمه وتجاربه إلى من يربيه فإنه يتركه في الحقيقة

ليبدأ من نقطة الصفر أو قريب منها، وبمعنى آخر: يدعه يعيد إنتاج (السيارة

البدائية) ، وكذلك يفعل بنفسه من يتربى إذا لم يكن حريصاً على (عصر) المربي

للاستفادة منه.

وأي مجموعة دعوية تنقطع عن التجارب الدعوية الأخرى - الناجحة

والمخفقة، الماضية والمعاصرة - فإنها تهدر أعماراً يمكن إضافتها إلى عمرها، بما

تحويه هذه الأعمار من علوم ومعارف وتجارب ورصيد في الواقع؛ وهذه أمور بُذِلَ

من أجلها الغالي والنفيس من تضحيات ومعاناة.

لا بد من حرص متبادل على استثمار التجارب الأخرى وتركيزها في الأجيال

الجديدة، وأن يتم ذلك بقصد ووعي وليس بعفوية وكيفما اتفق؛ لأن تواصل

الأجيال ضمانة ضد الإخفاق، وفضلاً عن كونه حاجة إنسانية فإنه ضرورة قرآنية.


(١) معجم مقاييس اللغة، ج٤، ص٢١٠.