للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة قصيرة

[لوحتان]

أحمد محمد علي صوان

شعر بِخفّة، فبدأ يرسم في مخيلته لوحة فيها خيول قادمة من بعيد، خيول

كثيرة، لم تتّضح كلُّ دقائقها وتفصيلاتها، لكنها خيول جريئة مسرعة، خلفها

غمامة كبيرة من الغبار المتطاير، الشرر ينقدح من حوافرها الرشيقة، يمتطيها

فرسان كالنمور، نظراتهم ثاقبة، تتطاير منها أشعة الإقدام والجرأة، رؤوسهم

مرتفعة شامخة تطاول عنان السماء، لا شيء يعترض طريقها، النور ملء قلوب

أصحابها وجوانحهم، وقد فاض على ما حولهم فتراه يرافقهم بل هو سلاحهم، لن

يتركوا في طريقهم بقعة سوداء مظلمة، فاض نورهم وخيرهم حتى وسع الناس

والبهائم والجماد ... زنود مفتولة صلبة، أصابع تمسك بمقابض السيوف المسلولة

ولن تفارقها حتى تفلق الصخر أو تُبتر!

أوَ تظن أن هذه السيوف تجرؤ على قتل الصغار والنساء؟ لا.. إنها ما سُلّت

إلا لمقارعة الظلم والظّلام ... رايات عالية خفاقة لم تلامس الأرض قطُّ.

سرت بين أضلع الرسام نشوة الرِّضا التي ما ذاق طعمها منذ أمد بعيد ...

وصار يحدّث نفسه: هل اكتملت اللوحة؟ لا، سرب من الطيور البيضاء مناسب

رَسْمُهُ في الجهة المقابلة التي يتقدم منها الفرسان، وبعض الأشجار الخضراء

كالنخل، وبعض الأزهار المتنوعة الألوان، ونبع ينساب منه ماء فرات رقراق.

غدت هذه اللوحة ملأى بالحياة والحيوية والتفاصيل ... تراجع إلى الوراء

خطوات ليصور لوحته بعينيه الفرحتين: فرسان قادمون، أطيار تمخر عباب

السماء، شجر باسق لا يخشى الأعاصير الجبارة، جذوره غاصت في رحم الأرض

وتآلفت معها واتحدت، ولم تكن أذناه بمعزل عما تصوره عيناه، وصار كأنه يسمع

ما تشي به الصورة: يسمع وقع حوافر الخيول العاديات وضبحها، وخرير الماء

وهديل الحمائم وأصوات الفرسان الهادرة بصياحها: الله أكبر تملأ بها الفضاء

الرحب ...

جلس على كرسيه مسترخياً مسروراً يفكّر ماذا يضيف إلى تلك اللوحة لتزداد

حيوية وتعجّ بمزيد من الإيحاءات والحيوية ...

أدار مفتاح المذياع، فصارت تنهال عليه الأنباء من كل حدب وصوب، نقلته

الأخبار إلى عالم آخر، وزمن آخر يفصله عن لوحته أحقاباً عدة، لم تعد يده تقوى

على المتابعة في هذه اللوحة، حتى ولو كانت الإضافة خطاً أصفر أو أبيض أو

أخضر! كل شيء تغيّر في نفسه فضرب صفحاً عن هذه اللوحة ...

أغلق المذياع وأطلق تنهيدة طويلة، وضرب صفحاً عن اللوحة وتخيل لوحة

جديدة. أجواء معتمة مظلمة سوداء، وحوش ومخالب وأنياب في كل مكان، شجر

عارٍ يابس، ماء أسود راكد آسن ... رسم في وسط اللوحة مخلوقاً يبدو كأنه إنسان،

إنه قزم قصير جداً منهك متعب، ملامحه تحكي أنه لم يكن كذلك. رسمه بين

أقدام الذئاب ومخالبها المنتفخة غروراً وكبراً، وبين الضباع التي تصول وتجول في

هذه الأرض غير آبهة بشيء، مع عدد غير قليل من الأفاعي ...

كان لهذا القزم جسم نحيل معروق، جلد على عظم، وكأنه عود أجرد، إلا

أنه يحمل وجهاً عجيباً رغم قصر قامته؛ قسماته متجهمة غاضبة، عيونه تكاد

تتميز غيظاً واستنكاراً وحقداً، تخفي عملاقاً قادماً سيحرق كل شيء في هذه اللوحة؛

لأن ما حوله أحرق له كل شيء، يوشك أن يستيقظ المارد الذي في داخله، ولو

نطق لقال: أنا قادم.

لم يشأ هذا الرّسّام المصوّر أن يشيع التشاؤم الكامل في هذه اللوحة التي يُطبق

الظلام كلياً على جنباتها فرشق اللوحة بفرشاته المشبعة بالطلاء الأبيض فتقاطرت

عليها نقط بيض صغيرة ضعيفة ضئيلة ... كم تمنّى أن تتجمع هذه القطرات

البيضاء الصغيرة، ولكن كل قطرة فيها التصقت بمكان ما في هذه اللوحة وآثرت

الدعة ولو كان مكانها تحت أقدام هذه السباع أو عند ذيولها ...

لم يكن بحاجة إلى أن يتأمل لوحته الجديدة الباكية، فصورتها جاثمة في عقله

وقلبه يعايشها كل يوم، ويعاني من أجوائها كل وقت ... أنهكه العمل في هذه اللوحة،

كان في كل خطّ يخطّه يعاني معاناة جديدة وينفطر قلبه أسىً على ما حلّ بهذا

الإنسان. وكان يشعر في كل لحظة بهذا العملاق في داخله، بل إن العملاق الذي

في داخله أشدّ وأقوى من الذي رسمه على اللوحة، ولكن متى يستيقظ؟

رنّ جرس الهاتف، قام إليه متثاقلاً، إنه صديقه يسأل عن أحواله، وعرف

ما به، وبشّره بخبر سار: طفل فلسطيني يواجه دبابة بحجر ثم يقتله الأعداء من

خلف أكوام الحديد والإسمنت بأحدث الأسلحة، ورجل يُفجّر نفسه وسط حشد من

الغاصبين القتلة السفّاحين مصّاصي الدّماء، وامرأة كالخنساء، وما أدراك ما

الخنساء رضي الله عنها، ولكنها خنساء معاصرة ...

عاد إلى لوحته الثّانية مرّة أخرى، ورشقها بقطرات جديدة من الطلاء

الأبيض ...