للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب وتاريخ - قصة قصيرة

[واستقام ربان الأسرة]

أم أسامة خولة درويش

تمد (فاتن) يدها المرتعشة لترفع (مظروفاً) وجدته قد وضع تحت الباب

وتنظر إليه بدهشة وحيرة مربكة، إنه لزوجها الدكتور (عبد الحميد) وبعنوانه، ثم

تعطيه له بصمت ينبئ عما يدور في نفسها من تساؤلات ...

ينظر الدكتور للمظروف، وقد انقبضت أسارير وجهه، ويقول: غير معقول،

نفس عنواننا، وباسمي أيضاً ‍‍‍‍! ‍‍‍.

ويفض الغلاف، ويتمتم قائلاً في دهشة:

- عجباً، إنه من ابني سامر! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

ويغوص في خواطره المبهمة:

كيف اهتدى سامر إلى منزلي هذا؟ ... لقد مضى على زواجي من (فاتن)

خمس سنوات وما عرّفت أحداً به ...

خواطر كثيرة.

- وهل تزوجت إلا من أجل الراحة والاستجمام؟ ! ثم يقول باستغراب:

- وماذا يريد سامر؟ ! لقد كنت في منزلهم أمس، أخذت لهم حاجتهم من

الطعام والأدوات المدرسية! !

ولا يعير (د. عبد الحميد) كلام زوجته أي انتباه، إنه مشغول بالرسالة

انشغالها بسرية بيتها وعدم معرفة العنوان حتى من أولاد زوجها!

وتدافعت الخواطر السريعة إلى (د. عبد الحميد) حالما رأى رسالة (سامر) :

- هل ألم بأحد إخوته خطر؟

-أم هل يريد تحديد موعد خطبة أخته (سلمى) ؟ !

-أم أن صاحب البيت قد طالبهم بأجرته؟ ! .

وفي بضع دقائق كانت الحقيقة تتضح وتظهر جلية بعد قراءة الرسالة، فقد

جاء فيها:

والدي الحبيب:

كم أبهجتنا زيارتك لبيتنا أمس، وكم سررت لسماع صوتك العذب يتردد صداه

في منزلنا، وغبطت أشقائي الصغار أنك ناجيتهم، ثم سارعت للخروج من الحمام

متلهفاً لرؤيتك، وإذا بي أجد البيت قد امتلاء طعاماً، وأشياء كثيرة - جزاك الله

خيراً -.

ولكني للأسف ما وجدتك، فقد وضعتها وغادرت المنزل بسبب أشغالك

الكثيرة - كما ذكرت والدتي حفظها الله -.

كم كنت أتمنى أن تخصص لنا من وقتك، وأن تجعل لنا نصيباً من يومك

لنحظى برؤيتك، ونستمتع بحلو حديثك، وجميل نصحك - لا حرمنا الله منك -

ولا أكتمك أني ما إن رأيت الطعام الوفير إلا وقلت في نفسي:

- يا سبحان الله! وهل يظن والدي أن السعادة في الطعام الوفير، والمتاع

الزائل؟ ! .

يا والدي العزيز: سامحك الله! إن الأغنام - وهي لا تهتم إلا بأكلها وشربها

- يتفقدها صاحبها باستمرار.

أتمنى أن نلقاك قريباً، أباً رؤوفاً كما كنا نعهدك من قبل. ونحن لن ننسى يا

والدي الحبيب حقوقك علينا، وارتباطك السعيد الذي حجبته عنا سنوات عدة.

لن نكون عثرة تحول دون سعادتك، وسنبقى أبناء بررة. تحياتنا إليك وإلى

حرمك المصون. وتحيات والدتنا الوفية إليكما.

ولدك: سامر

تنظر (فاتن) إلى (د. عبد الحميد) وهو يقلب الرسالة وما يزيد عن أن

يطويها ويضعها في جيب جلباب النوم الذي كان يلبسه.

وأما (سامر) فكثيراً ما يتحدث مع أمه التي أمضت عمرها تتمنى اليوم الذي

ينتهي فيه زوجها (

عبد الحميد) من دراسته، وطال ما أضناها في تأمين الجو

الدراسي المناسب له. إنها الآن بعد تخرجه تستعيد الماضي، تتمنى لو دامت تلك

الأيام، حينما كانت أحوالهم المادية بسيطة، إلا أنهم كانوا ينعمون بالمودة

والاستقرار.

وأما (د. عبد الحميد) فعندما أحس بتحسن مركزه العلمي والاجتماعي، وأنه

قد حصل على شهادة (الدكتوراه) بدأت الأفكار تتوالى عليه:

- إنه في وضع اجتماعي مرموق، ويحبذ أن تكون زوجته كذلك حتى

تستطيع أن تمثله في المجتمع.

- وهذه (المرأة الطيبة الساذجة) كما كان يسميها، هل يليق بها ذلك؟ !

هاهو سامر ولدها وقد علمته الأحداث، يفتح قلبه لها ويعاتبها على ما ظنه

تقصيراً منها أدى بوالده إلى البحث عن امرأة أخرى، وبنبرات خافتة حانية قال لها:

- لماذا يا أمي لم تكملي دراستك؟ ! وأنت تعلمين أن زماننا زمان العلم

والثقافة؟ ! وتتنهد (أم سامر) بحرقة وألم دفين، والدمعة تلمع في عينيها وهي

تجيب:

- والله يا بني ما قصرت، لقد بذلت قصارى جهدي في إقناع والدك لأتابع

تعليمي، وما كنت ألقى منه إلا السخرية والاستهانة بمطلبي.

لقد كان وضعنا الثقافي متقارباً عند زواجنا، فإذا به ينمي ثقافته، ويهملني أنا

أم أولاده وشريكة حياته، فأصبح البون بيننا شاسعاً.

ثم تعلق بتجرد وموضوعية تحكي واقعها المرير:

- حقاً، كم بين بدائية الثقافة وبين الدكتور في الفلسفة من بون شاسع! فما

الذي أوصله إلى ذلك؟ !

- لا أريد أن أصفه بالأنانية حين فكر في مصلحته فقط وتعلم على حساب

راحتنا ومصالحنا، لكنه على كل حال تناسى أنني زوجته التي فشل حتى في

تعليمها. كم كان يهزأ بالكبيرات اللائي يذهبن للدراسة ويقول (وربما يقصد الحاجة

أم ممدوح بالذات وقد قاربت الخمسين من عمرها) :

- تصوري عجوزاً شمطاء، تتوكأ على عصاها بيد، وتحمل (شنطة كتبها)

بيدها الأخرى!

ثم يقهقه ساخراً ... وما كانت ضحكاته تلك لتؤثر فيّ، قلت له:

- أليس ذلك أفضل من بقائها أمية؟ ! تتعلم القراءة والكتابة، بدلاً من أن

ترى جميع الصفحات سواداً، لاشيء عليها إلا طلاسم لا تفهمها. ثم إني لست

بعمر الحاجة إنها بعمر والدتي!

رد علي بازدراء، وهو يرمقني بطرف عينه:

- تريدينني مثل الأحمق (حازم) الذي يوصل بيده زوجته إلى المدرسة في

المساء، شأنه في توصيل أولاده في الصباح؟ !

ثم يردف قائلاً باستعلاء:

- إنه فارغ! وماذا وراءه من عمل؟ !

وتزيل (أم سامر) عن ولدها (الغبش) وتجلي الحقيقة بقولها:

- لا والله ما كان فارغاً، إنه رغم أعماله الكثيرة، يجد أن من واجبه

تخصيص وقت لأسرته، وهاهي زوجة (حازم) الآن في الجامعة، وقد نفضت

عنها أميتها ولحقت بركب الحضارة ...

يقولون يا بني: وراء كل عظيم امرأة ‍‍‍‍! !

أما علم هؤلاء أن هذا يعني أيضاً، أن أمام كل امرأة رجل ينير لها الطريق

ويمهد لها السبيل؟ !

ثم تفطن لواقعها، وتقول بتعقل:

- من حق والدكم أن يتزوج، سواء لأنه أصبح عالي الثقافة وامرأته شبه أمية

، أو لأدنى سبب رآه، وليس له أن يكون الزواج سبباً في تهربه من المسئولية،

والبعد عن تبعات الأولاد. أين العدل الذي أوجبه الإسلام؟ ! أم ظن أن العدل في

الطعام والشراب فقط؟ !

وتدخل سلمى لتخبرهم عن سخط شقيقها (سعيد) وخروجه من المنزل، فيهب

سامر واقفاً، ليلحق بأخيه، يبحث عنه بين المتسعكين والتافهين ... وتفلسف سلمى

ذلك بقولها:

- هذا نتاج الحرمان من عطف الأب ورعايته ... !

ويقع قولها كالقذيفة على قلب أمها، فتنفجر باكية ...

وتقبل سلمى على أمها، معانقة مقبلة لوجنتيها، تخفف عنها وتقول لها:

- أبقاك الله يا أمي، وجزاك عنا خير الجزاء، إذ لولا صدرك الحنون،

وحدبك الدؤوب علينا، لما علم إلا الله سبحانه ما سيحل بنا ...

ثم تقول ناقدة وحانقة:

- يحبون تكثير النسل ... ! أو ما علموا أنه قد لا يزيد إلا في غثاء السيل ...

! أو ليس للتربية ونوعية النشأة عندهم أهمية؟ !

وتتذكر الأم أن من واجبها التقريب بين الأب وأولاده، فتقول لابنتها في

رضى واستسلام:

- الحمد لله، إن والدك يختلف عن غيره من الناس، انظري أسرة (النزَّال)

كم يعاني أولاده من الضيق والضنك، بينما يتمتع والدهم وزوجته الجديدة بأبهى

المتع، وينعمون بأثمن الرياش وأعظم المسرات.

وتجيبها سلمى وكأنما لدغتها عقرب:

- كفانا الله الشر أن يكون والدي مثل (النزَّال) أو أن تكوني أنت مثل زوجته

الأولى ...

لقد وصل بها الأمر أن دست السم في طعام أرسلته له سراً، واكتشف الأمر،

وقيدت الجانية إلى السجن ...

وتنصب سلمى من نفسها قاضياً حين تقول:

- لقد كان الأجدر أن يسجنون الأب تأديباً له على ما فرط في حقها وبسبب

ظلمها وظلم أولاده! !

وتردف الأم:

- الحمد لله أنكم لستم كأولاده، فلا يكاد السجن يفرغ من أحدهم: هذا بتهمة

الاحتيال، وذاك للاقدام على الانتحار، وآخر للنشل ...

وفيلسوفة البيت (سلمى) تعلق بثقة بالغة:

- طبعاً ... الحرمان العاطفي والشعور بالظلم ينميان الميول العدوانية.

فالحمد لله الذي عوضنا بصدرك الحنون يا خير أم.

تقول ذلك وتنهال على يد أمها لثماً وتقبيلاً.

وأما (د. عبد الحميد) فلم يهداً له بال ولم يقر له قرار. إنه كلما تذكر

الرسالة عاد إلى قراءة سطورها ليجد الحقيقة أمامه واضحة: إنهم أولاده، مهما

هرب أو تهرب ... إنها زوجته مهما تعالى أو استعلى ... إنهم واقعه الذي يجب أن

يتعامل معه ... ثم إنه واجبه الديني قبل كل شيء ... (العدل) ، به تستقيم الحياة

ويوضع كل شيء في نصابه ... وماذا لو تعكر مزاج (فاتن) بعض الشيء؟ ! فإن

كانت تحبه حقاً فستقدر وضعه، وإلا فلا خير فيها ... ! !

وإذا تبين لديه ذلك قرر مفاتحتها ومرافقتها لزيارة أسرته ... وبعد جلسات

معدودة، قضاها مع (فاتن) بين أخذ ورد صارت (فاتن) أخيراً طائعة راضية،

تشتري لابنته (سلمى) عقداً جميلاً لتحلي به صدرها بمناسبة خطوبتها ... وانتعش

فؤاد (أم سامر) بعد أيام قاحلة عانت فيها الكثير ... والتأم شمل الأسرة فعاد للبيت

إشراقه وبهجته، وفرح (سامر) وأشقاؤه بإخوتهم الصغار (أولاد فاتن) وأصبحوا

يلاعبونهم، ويركبونهم الأراجيح ويشترون لهم اللعب والهدايا والحلويات ...

يستمعون إلى أناشيدهم الشجية ويحكون لهم القصص الممتعة.

لقد عادت البسمة إلى شفاه الجميع، والكلمات الطيبة إلى أفواههم، والأنس

والسرور أصبح يغمر كيانهم.

وأحلى الساعات وأحبها إلى قلوبهم، عندما تجتمع أسرتهم الكبيرة بمرحهم

الحبيب وروحهم المتآلفة.

هاهي قد استقامت حياتهم عندما استقام ربان أسرتهم، وثاب إليه رشده،

وحقق ما يطلبه منه، ربه: (العدل) .