للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ندوات ومحاضرات

ندوة عن:

هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق

(الحلقة الأولى)

إعداد: وائل عبد الغني

ضيوف الندوة:

الدكتور/ مصطفى حلمي أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة.

الدكتور/ جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى سابقاً.

الدكتور الشيخ/ محمد بن إسماعيل المقدم الداعية المعروف وأخصائي الصحة

النفسية وخريج كلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف.

الأستاذ/جمال سلطان - الكاتب الإسلامي المعروف ورئيس تحرير دورية

(المنار الجديد) .

نرى أن أفضل ترحيب بضيوفنا الكرام، أن ننزل عليهم ضيوفاً، ليُثروا

قراءنا في قضية من أخطر قضايا العصر؛ ألا وهي (الهويّة) ..

أهمية الموضوع..

* في البداية نريد أن نحدد الهدف من الندوة لنصطحبه خلال تشعب الحديث

بنا.

* د/جمال عبد الهادي:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد..

فأرى أن الهدف هو: تذكير الأمة المسلمة بمقومات هويتها، وتبصيرها

بالأخطار التي تحدق بها، وأنه لا مخرج للأمة من محنتها المعاصرة إلا باستعادتها

لهذه الهوية؛ لأنها المخرج الوحيد لمواجهة التحديات المعاصرة، حتى تعود الأمة

لأداء دورها، باعتبارها الأمة الشاهدة التي حملها الله تعالى مسؤولية البلاغ وإقامة

حياتها وحياة الإنسانية على مقتضى منهاج الله.

وإذا اعتبرنا أن الهوية هي التي تحدد الأهداف والواجبات والتقاليد والأعراف

للفرد والمجتمع، فإن الحفاظ عليها يصبح ضرورة وجود وأداء رسالة.

من أجل هذا كان لا بد من طرح هذه القضية.

معنى الهوية:

* جرت عادة الربانيين أنهم إذا تحدثوا عن قضية ربطوا فيها بين الواقع

المشهود والحق المنشود حتى يكون الواقع حقاً والحق واقعاً، والحق صنو الحقيقة؛

فما حقيقة الهوية؟

نريد من ضيوفنا الكرام أن يوضحوا لنا معنى الهوية توضيحاً شافياً.

* الشيخ محمد بن إسماعيل:

الهويّة: (هي حقيقة الشيء، أو الشخص، التي تميزه عن غيره، فهي

ماهيته، وما يوصف ويعرف به، من صفات عقلية، وجسمية، وخلقية، ونفسية) ، كما في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت:

(كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني

دونه، فلما قدم رسول الله لله المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي وعمي مُغلّسين،

فلما يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا،

فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: (أهو هو؟) ، قال: (نعم والله) ، قال

عمي: (أتعرفته وتثبته؟) ، قال: (نعم!) ، قال: (فما في نفسك منه؟) ، أجاب: (عداوته، والله ما بقيتُ!) [١] ، وفي قوله: (أهو هو؟) إشارة إلى هوية

النبي لله وأنه الموصوف في التوراة.

إذن فالهوية هي: (المفهوم الذي يكوّنه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران

عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي) وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون

له طابعه الخاص، فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافةً وأسلوب

حياة) .

كأن يقول مثلاً: (أنا مسلم) . أو يزيد: (منهجي الإسلام) أو يزيد الأمر دقة

فيقول: (أنا مؤمن ملتزم بالإسلام من أهل السنة والجماعة) .

* د/ مصطفى حلمي:

بنظرة مجردة فإن مقومات الشخصية التي تميزها عن غيرها، هي المفردات

التي تتحكم في تشكيل تلك الشخصية، ومنها المتكرر في جميع الهويات، ومنها

غير المتكرر. ولعل القدر المشترك يتمثل في:

العقيدة التي ينطلق منها الفرد بغض النظر عن صحتها، ويقابلها في

النظريات الوضعية الفكر الفلسفي.

القيم العالية المطلقة التي يؤمن بها المجتمع؛ التي تتمثل في أهداف الإنسان

في الحياة ونظرته للوجود، والأخلاقيات، والسلوكيات؛ وعلى ضوء ذلك نرى

تميز الهوية الإسلامية في مقوماتها من حيث الشكل والمضمون.

* وحتى يتبلور مفهوم الهوية أكثر؛ فإننا نريد أن نتعرف على أهم مقومات

الهوية التي تتشكل من خلالها.

* أ/جمال سلطان:

هوية أي أمة عبارة عن تراكم المعارف والثقافات، والتجارب والصراعات،

والأفكار والمؤلفات والكتابات، كل هذا المزيج يشكل المرجعية الأساسية لهويات

الشعوب.

بخلاف هويتنا التي تتميز بمرجعيتها الربانية الثابتة الصحيحة، والمحفوظة

أبداً، والتي تتمثل في الوحي بمصدريه، وبهذا تميزت الأمة عن سائر الشعوب

والأمم.

ومن حيث العموم فإنها تتكون من مجموعة من الدوائر المتداخلة، والتي يؤثر

فيها اعتبارات متعددة، لعل أبرزها الجغرافيا والتاريخ والدين، هذه المؤثرات

الثلاث، هي أبرز ما يؤثر في الإنسان وينشط من خلاله إنسانياً، إلى جانب المجال الحضاري ببعديه التاريخي والثقافي، وتراكماته، والتي ورثتها الأجيال عن

الأجيال وجعلت هناك صبغة لهذه الشخصية.

* الشيخ/محمد بن إسماعيل:

أهم أركان الهوية: العقيدة، ثم التاريخ، واللغة، وإذا ركزنا الحديث على

الهوية الإسلامية فسوف نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة،

بحيث تستغني تماماً عن أي (لقاح) أجنبي عنها.

فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة، وأصول ثابتة رصينة، تجمع

وتوحد تحت لوائها جميع المنتسبين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه

أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة

وممتدة، وتحيا لهدف واحد؛ هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم

من عبودية الأنداد.

* من خلال كلامنا عن المقومات، يلح علينا أمر يحتاج أن نستفصل عنه

لأهميته؛ ألا وهو جوانب تميز الهوية الإسلامية عن سائر الهويات.

* د/مصطفى حلمي:

عنصر مهم تتميز به هويتنا الإسلامية، هو نظرتها للإنسان باعتبار أن الفرد

هو عنصر البناء الأخطر والأهم في أي حضارة. فبينما نجد أن (أرسطو (في

منطقه اليوناني يعرفه بأنه: (حيوان ناطق) ، هذا التعريف قد بنيت عليه أكثر

النظريات التي تناولت الجوانب الإنسانية، والذي قامت عليه الحضارة اليونانية

قديماً والغربية حديثاً.

وخلافاً لهؤلاء، نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد وفق في تعريفه

للإنسان بأنه: (حي حساس متحرك بالإرادة) ، أثناء معركته لحماية الأمة الإسلامية

من الغزو الثقافي اليوناني. وقد وقف اليوم الموقف نفسه علي عزت بيجوفيتش

الذي استمد تعريفه للإنسان من عقيدته، لمواجهة الغزو الثقافي المعاصر، الذي

عانى منه المسلمون في الغرب أشد المعاناة، في دول البلقان في ظل النظام

الشيوعي.

يقول بيجوفيتش: (إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي، وليس

عنصراً بيولوجياً أو اجتماعياً، ولا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي) ،

معترضاً على (دارون) ، و (دي لامارك) ، اللذين اعتبرا الإنسان ليس أكثر من

(حيوان ذكيّ) ، وبهذا التعريف نقف على مفرق طريق بين هوية كل من الحضارة

الإسلامية وغيرها من الحضارات.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً يمكن أن نجمل

السمات المميزة لهويتنا في عدة نقاط:

١- فهي في المقام الأول: انتماء للعقيدة يُترجَم إلى مظاهر دالة على الولاء

لها، والالتزام بمقتضياتها. والعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية

المسلم وشخصيته.

٢- هذه الهوية.. أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان؛

فقد استجمعت غايات الشرف، فهي انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب.. نزل

على أشرف رسول.. إلى أشرف أمة.. بأشرف لغة.. بسفارة أشرف الملائكة..

في أشرف بقاع الأرض.. في أشرف شهور السنة ... في أشرف لياليه، وهي ليلة

القدر.. بأشرف شريعة وأقوم هدي.

٣- وقد امتدح القرآن الكريم هذه الهوية وأثنى عليها باعتبارات، منها:

أنها أحسن قولاً، وأحسن عملاً، وأحسن قضيةً، وأحسن نسبة، قال تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]

(فصلت: ٣٣) .

وهي الهوية الكاملة المرضية من الله تعالى: [ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ... ] [المائدة: ٣] .

وهي صبغة الله، قال عز وجل: [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً

وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: ١٣٨] .

ومن خصائصها الوسطية في كل شيء كما في قوله: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... ]

[البقرة: ١٤٣] .

والانتساب إليها انتساب إلى خير أمة، كما قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ

الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] [آل عمران: ١١٠] ؛

ولذلك كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه (كاهانا) ، ويرد عليه مصححاً

مزاعمه: (نحن شعب الله المختار) .

إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله عز وجل وإلى رسول الله لله، وإلى عباد

الله الصالحين، وأوليائه المتقين، من كانوا، ومتى كانوا، وأين كانوا؛ قال تعالى: [إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ

رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ]

[المائدة: ٥٥، ٥٦] .

وقال سبحانه: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ]

[التوبة: ٧١] .

وكل مسلم في صلاته يقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .

يقول الشاعر:

ومما زادني شرفاً وفخراً ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا

٤- إن الانضواء تحت هذه الهوية والاندماج فيها، ليس اختيارياً ولا مستحباً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين، إلى أن يرث الله الأرض ومن

عليها، قال عز وجل: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: ١٥٨] .

وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) [٢] .

ولذلك كلّف الله تعالى هذه الأمة، بدعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية،

وهي في هذه الوظيفة المقدسة نائبة عن رسول الله لله.

٥- إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة

ووضوح، هدفه ووظيفته وغاياته في الحياة: [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ

وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]

[الأنعام: ١٦٢، ١٦٣] .

٦- إنها مصدر العزة والكرامة للمتمسكين بها، كما قال تعالى: [لَقَدْ أَنزَلْنَا

إلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأنبياء: ١٠] .

وقال تعالى: [ ... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ] [المنافقون: ٨] .

وهذا ما استشعره عمر رضي الله عنه حين قال: (إنا كنا أذل قوم، فأعزنا

الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزّ في غيره أذلنا الله) .

٧- وهي هوية متميزة عما عداها: [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] [الكافرون: ٦] ، ...

ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين، أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم

وليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن يهدينا الصراط المستقيم، المغاير بالضرورة

لمنهج الآخرين: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ

المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] [الفاتحة: ٦، ٧] .

وقد حسم النبي لله ذلك بقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) [٣] ، وقد

عرف اليهود ذلك، وشعروا أنه لله كان يتحرى أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة

بهم، حتى قال قائلهم: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا

فيه) [٤] ولهذا قال لله: (من تشبه بقوم فهو منهم) [٥] وقد صح كثير من الأحاديث

التي تفصّل هذه المخالفة وتحض عليها، في كثير من أبواب الدين.

* أ/جمال سلطان:

إضافة بسيطة إلى ما ذكر في هذا الجانب.. وهي أن: من السمات التي

تميزت بها الهوية الإسلامية لفظ (الأمة) الذي يطلق على جميع المنضوين تحتها،

هذا اللفظ بما يحويه من دلالات وإيحاءات لم تعرفه لغة من لغات الأرض قاطبة

سوى لغة هذه الأمة.

* مع هذا التميز الذي ترسخه الهوية نجد ظاهرة عكسية داخل المجتمع الواحد؛ هي ظاهرة (الاغتراب) التي تهدد الهوية من الخلف.

كيف نفهم هذه الظاهرة في إطار ها الصحيح؟ وماذا عن مخاطرها؟

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

كلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع، كلما تعمق إحساسه بالانتماء لذلك

المجتمع واعتزازه به وانتصاره له.

أما إذا تصادمتا فهنا تقع أزمة الاغتراب التي أشار إليها رسول الله لله حين

قال: (طوبى للغرباء) ، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون

في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .

ولأن الانتماء الوجداني والانتساب إلى (الهوية) ينبع عن إرادة النفس، فهي

قابلة له، راضية عنه، معتزة به، فإن هذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس،

ويحدد أهداف صاحب الهوية، ويرتب أولياته في الحياة، فتنصبغ النفس به،

وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، مع رفض الانتساب إلى أي هوية

مضادة أو مزاحمة، أي أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين

الشخص وبين من يخالفونه الهوية؛ ومن هنا تنشأ الأزمة.

* أ/جمال سلطان:

الأقليات غالباً ما تعيش حالة من القلق والنفور، بالنسبة للجماعة؛ لشعورها

بالاغتراب، وأنها خارج كيان الجماعة، ولهذا الأمر تداعياته، التي من أخطرها،

توجه الأقلية نحو الخارج، وشعورها بالتقارب النفسي مع أعداء الأغلبية، ...

والتحالف معهم ضد مصالح الأغلبية، كما فعل الموارنة في لبنان الذين تحالفوا مع

الغرب ضد المسلمين، وكما فعل الأرمن الذين تحالفوا مع روسيا ضد المسلمين،

ويهود الدونمة في تركيا الذين تحالفوا مع الغرب لإسقاط الخلافة.

والخطر الآن يتجسد في أن بعضاً من هذه الأقليات بدأت تنتعش لتعارض

المصالح العامة داخل بعض نظم الحكم القائمة.

* إشكالية أخرى تواجهنا عند تحديد المفهوم الدقيق للهوية الإسلامية؛ ألا

وهي: طبيعة العلاقة بين الهوية الإسلامية وبين الهوية الوطنية أو القومية.

هل هي علاقة التعارض أم التكامل؟

* د/جمال عبد الهادي:

يمكن تقسيم دوائر الهويات إلى ثلاث دوائر متباينة أحياناً، ومتداخلة أحياناً

أخرى، وهي: الانتماء الجغرافي، والانتماء العرقي، والانتماء الديني.

والانتماءان الأولان هما المذكوران في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ

خَبِيرٌ] [الحجرات: ١٣] .، والإسلام بهذا أقرّ بهما دون أن يكون لأحدهما

استعلاءٌ عنصري، وذلك كله منصهر داخل الرابطة العقدية (رابطة الإسلام) الذي

صنع للأمة أسلوب حياتها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك فإن من

أبرز ما يميز هويتنا أن مرجعياتها لا تفرق بين الأجناس أو الأعراق، وهذا يعكس

قوة الوحدة السياسية المبنية على أساس عقدي واحد هو الإسلام.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه

المسلم، ولا الحرص على خير هذا الوطن، بل المسلمون الصادقون هم أصدق

الناس وطنية؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام، وتبني

عقيدته، وإنقاذ مواطنيهم من النار، وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم

خبالاً، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر،

ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود رموز الدعوة الإسلامية في كافة

وطننا الإسلامي.

أما الوطن الحقيقي الخالد، الذي لا يبغي أهله عنه حولاً فهو الجنة؛ حيث

أقام أبوانا في الابتداء، ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن، ساعون في العودة

إليه.

والمنهج الإسلامي هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى ذلك الوطن.

كما أعرب عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:

فحيّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيّمُ

ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟

لا كما قال من سفه نفسه:

وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي

أما في الدنيا.. فأحب الأوطان إلى قلب المؤمن: (مكة المكرمة) ، و (المدينة

النبوية) ، و (بيت المقدس) ، وقد بيّن النبي لله أن محبته مكة المكرمة مبنية على

أنها (أحب بلاد الله إلى الله) .

فمحبتنا لهذه البقاع التي شرفها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس،

ومحضن الطفولة، ومرتع الشباب.

أما ما عدا هذه البلاد المقدسة، فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا،

وحيثما كانت شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة.. فثم وطننا الحبيب الذي

نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال:

ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً ... الشام فيه ووادي النيل سيان

وحيثما ذكر اسم الله في بلد ... عددت أرجاءه من لب أوطاني

أما (الوطنية) بمفهومها المعروف اليوم، المحصور في قطعة أرض رسم

حدودها أعداؤنا، أو الارتباط بعرق أو لون أو جنس، فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه

السلف ولا الخلف، وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها

الاستعمار وأذنابه لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية المسلمة التي أذابت

قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي: (القومية الإسلامية) ، ودمجتها في

أمة التوحيد.

ولخطر هذه القضية أسوق شهادة (شاهدين من أهلها: أولهما: المؤرخ

اليهودي (برنارد لويس) الذي قال: (كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة

الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي

وصحبه، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية

آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام؛ اسمها: الدولة، والعنصر،

والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال

هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات الجماعية؛ كان أرسخ المظالم التي أوقعها

الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً

وإعلاناً..اهـ

ويقرر حقيقة ناصعة فيقول: (فالليبرالية، والفاشية، والوطنية، والقومية،

والشيوعية، والاشتراكية، كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدّلها أتباعها في

الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة،

وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة، وبالرغم من أن كل الحركات

الإسلامية قد هزمت حتى الآن، غير أنها لم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة) .

أما الشاهد الثاني فهو وزير المستعمرات الإنكليزي (أورمسبي جو) الذي يقول

في وثيقة تاريخية: (إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى،

شجعنا وكنا على صواب نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة

الإسلامية أو التضامن الإسلامي) اهـ

* يقال: إن أزمة الهوية أزمة عالمية.

فإلى أي مدى بلغت؟ .. ومتى بدأت إسلامياً؟ وما هي أجلى مظاهرها؟

* أ/ جمال سلطان:

أزمة الهوية أزمة عالمية، ففرنسا مثلاً ترى أن الأمركة خطر داهم يهدد أمنها

القومي، والفرنسيون في فزع شديد من هذا الخطر الداهم.. هذا رغم أن كلا

الطرفين تشملهما قاعدة التجانس الديني والحضاري والسلوكي والقيمي؛ إلا أن هذا

لم يمنع فرنسا من استشعار الخطر من الأمركة. إذن فنحن من باب أوْلى ينبغي أن

نكون أشد فزعاً من غيرنا. وبالمناسبة فإن فرنسا من أكثر الدول الغربية خوفاً على

هويتها، ومن بين مخاوفها الشديدة الغزو الثقافي الإسلامي؛ لذلك حظرت دخول

عدد كبير من الكتب الإسلامية إلى أراضيها، كما حظرت امتلاك الدش في بعض

ضواحي باريس ذات الوجود الإسلامي والعربي، لتمنع الجاليات الإسلامية

والعربية من استقبال البث العربي، والذي يوجد قدراً من الحاجز النفسي والثقافي

الذي يحول دون ذوبان الجاليات في المجتمع هناك، هذا رغم ما وصل إليه الإعلام

العربي من إسفاف!

وفي أماكن أخرى من العالم يحذر الباحثون من خطر الأزمة التي تعانيها

الهوية في بلادهم، كما في الصين واليابان وفي كثير من البلدان الإفريقية.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

لعلنا نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول مقاطعة (كويبك) بين

المتحدثين بالإنكليزية، وبين المتحدثين بالفرنسية الذين يريدون الاستقلال بهذه

المقاطعة.

ونذكر أيضاً أن فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية (الجات) ، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية، أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها

الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات.

ومتى بدأت الأزمة إسلامياً؟

* د/جمال عبد الهادي:

في الواقع أن الأمر سار في خط تاريخي، في محاولات لإفساد الهوية

الإسلامية، كمدخل لتنحية الأمة عن مركز القيادة.

أما محاولات الإفساد فقد بدأت منذ فتنة السبئية منذ عهد عثمان بن عفان

رضي الله عنه وكيف أن عبد الله بن سبأ بدأ يدس دسائسه التي تبلورت وتطورت

في شكل عقيدة باطنية.

أما الانحراف عن الهوية فيمكن توقيت بدايته بترجمة الفلسفة اليونانية على

عهد المأمون، وما ترتب على ذلك من ظهور كثير من الفرق كالمعتزلة والجهمية،

وفرق من الباطنية كإخوان الصفا، وما ترتب على ذلك من فساد في العقائد،

وظهور علمي الكلام والمنطق، حتى أصبحا هما القالب الذي تُقدّم فيه العقائد

الإسلامية إلى اليوم.

أما بداية الأزمة الفعلية حديثاً.. فقد كانت مع الاحتلال الفرنسي لمصر وحملة

نابليون. وقد كان من أسباب هذه الغزوة ما رصده لويس التاسع، عندما وقع أسيراً

بدار ابن لقمان، بالمنصورة؛ إذ أدرك بعد التمحيص والتدقيق أن سبب إخفاق

الغزو الصليبي للعالم الإسلامي إنما يرجع إلى عدة أمور كان أبرزها: احتفاظ العالم

الإسلامي بهويته الإسلامية، وما ترتب على ذلك من وحدته، وإحياء فريضة

الجهاد والتصدي للغزو، وتوصل (لويس التاسع) إلى أن الحملات الصليبية على

العالم الإسلامي، لن تنجح إلا إذا واكبها غزوة فكرية تستهدف إفساد العقائد

والأخلاق، من خلال إفساد برامج التعليم لإفساد الدين واللغة، والعبث بالتاريخ،

وإفساد المرأة لتحطيم بناء المجتمع!

* د/مصطفى حلمي:

كما ذكر الدكتور جمال جزاه الله خيراً فإن الأزمة بدأت مع دخول نابليون

بمدفعه ومطبعته إلى مصر، وتحويلها من مركز بث إسلامي إلى منطقة متفرنجة،

وبهذا بدأت عملية من الغزو المنظم المدروس الذي يمهد لإخفاء الهوية تدريجياً، أي

أن الهوية أصبحت على خريطة الأهداف.

لكن الفرنسيين سرعان ما خرجوا ليكمل الإنجليز الدور، وينجح القس

(دنلوب) في قلب ميزان التعليم وإقامته على الفصل بين الدين والحياة، لتتخرج

أجيال متغربة من المثقفين بينها وبين هويتها حواجز نفسية!

ويشبه ما جرى في مصر، ما فعلته فرنسا في الجزائر، وجاءت أمريكا بعد

ذلك لتكمل مسار الأزمة بمنظومتها الخداعة.

وإذا اختصرنا فيمكن القول: إن الأزمة الحديثة بدأت بالاستعمار الغربي

الحديث للبلاد الإسلامية لا سيما الإنجليزي والفرنسي منه.

كانت الأزمة إلى حد الاحتلال الإنجليزي لمصر تعتبر إقليمية، ولكن نقطة

التحول أو الانقلاب القوي في خط الهوية تمثلت في إسقاط الخلافة الإسلامية على

يد أتاتورك؛ لأن الخلافة كانت تعبر عن رابطة قائمة على الإسلام تظلل الجميع،

وكانوا يحسبون لها كل حساب.. فنجد إنجلترا تتوسل إلى الخليفة العثماني بكل

السبل حتى لا يعلن الجهاد عليها في الهند، لذعرها من فكرة الجهاد، وهذه نقطة

ينبغي أن تُجَلّى جيداً أمام الأجيال، نظراً لما يجري من تشويه صورة الخلافة

العثمانية من خلال التعليم؛ لأن من يعود إلى المراجع الموثقة يرى حجم الزيف

الذي يقدم لنا. والأمر العجيب أن اليهود كانوا يدركون قيمة الخلافة العثمانية أكثر

منا، فقد قرأت في بروتوكولاتهم عبارة تقول: (الوصول إلى القدس لا بد أن يمر

بالقسطنطينية) ! ! وفعلوها.. وكانت ضربة في سويداء القلب! ! .

* أ/جمال سلطان:

أريد أن أركز في الكلام السابق على بعض التطورات التي لم تسبق بمثلها من

قبل:

فحملة نابليون جاءت معها بمطبعة! !

وكان أول بيان وزعه نابليون يخاطب فيه المصريين يقول إنه يحترم النبي

صلى الله عليه وسلم، وإنه يحب الكعبة، وإنه جاء ليحررهم من ظلم المماليك!

كما جاء معه بمجموعة من الساقطين (فنانين رسامين راقصات!) وهذا

الأسلوب يعد نمطاً جديداً ظهر به الاستعمار إلى جانب القهر العسكري، لإعادة

تشكيل الشخصية المسلمة؛ لأن هذه هي التي تنهي المقاومة من أساسها، ولكن

نابليون خاب ظنه وأخفقت حملته.

لكن الخط سار في انحدار بمجيء محمد علي، الذي أكمل الدور بإرسال

البعثات إلى فرنسا وإيطاليا، ولكن يمكن اعتبار هذا الخط يمثل خطراً على الهوية

دون أن يحطمها.

ومع دخول الإنجليز بدأ التغريب الحقيقي والعميق؛ حيث استفادوا من

التجارب السابقة، ومن خبراتهم الواسعة، وبدأوا يعملون بتخطيط طويل المدى،

وليس عملاً أرعن كما فعل الفرنسيون.

* د/مصطفى حلمي:

أود أن أورد إضافة قصيرة إلى هذا الكلام القيم، وهو أن حملة نابليون

جمعت بين هدفين للحملة: استعمار الأرض الذي يمثله المدفع، واستعمار العقل أو

بتعبير يناسب موضوعنا: تغييب الهوية أو تدميرها والذي قامت به المطبعة،

لإزالة النخوة، ولتسهيل سياسة الأمة وفق ما يريد لها المستعمر.

* هل يمكن لنا أن نبرز بعض مظاهر هذه الأزمة التي من خلالها نتبين

حجمها؟

* الشيخ/محمد بن إسماعيل:

إن نظرةً إلى الحيز الإعلامي الذي شغله موت (أميرة ويلز) في كل أرجاء

العالم المنتسب إلى الهوية الإسلامية، وما صاحبه من الطقوس الكنسية التي

اقتحمت معظم البيوت، وبين الحيز الذي شغله موت الشيخ محمود محمد شاكر

رحمه الله في الفترة نفسها، تشرح لنا إلى أى مدى بلغت أزمة الهوية في عصرنا.

ومع هذا فإن مظاهر الأزمة متكاثرة، ويمكنك أن تراها في:

الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، وفي سيارته..

وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم..

وفي المسلمين الذي يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم

يفتخرون (بالفوز) بجنسية البلاد الكافرة..

وفي المذيع المسلم أسير (الحظ الزائل) ، الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه (العدو

الصائل) ؛ من أعداء دينه وهويته، من أجل حفنة دولارات أو جنيهات! ..

وفي الجاسوس والعميل الذي يخون أمته، ويبيع وطنه، ويفشي أسراره..

وفي أستاذ الجامعة الذي يسبّح بحمد الغرب صباح مساء..

وفي مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدول الكافرة المحاربة

لأمة الإسلام..

وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، فيرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم،

ويسحق ذاته ليكون جزءاً من أولئك الآخرين، والعجيب أنه يعود مذموماً مخذولاً

من هؤلاء جميعاً، فيتحقق فيه قول القائل:

باء بالسّخطتين فلا عشيرته رضيت ... عنه ولا أرضى عنه العدا

* د/جمال عبد الهادي:

الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة أصبحت تستورد قيمها من غيرها لتبني

حضارتها، ولا شك أن هذه أعظم مخادعة للذات؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار!

إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومنهاج حياتهم الوجاء والوقاية من

بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً، والإفساد فيها إلى حين لَهُوَ واهمٌ؛

لأن صِدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة، ومعلوم من التاريخ

والواقع بالضرورة، والله يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى

تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ

مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ] [البقرة: ١٢٠] .

* إذن فإن في اتباع قيمهم إسقاطاً لمقاومة غزوهم لنا.

* د/مصطفى حلمي:

نعم.. لأننا إذا ما قارنا بين ماضي الأمة وحاضرها في مقاومة الغازي،

فسيظهر أثر الهوية في أن الأمة عندما قامت تحت راية التوحيد، نجحت في الحفاظ

على كيانها، ويوم أن رفعت شعارات أخرى لا تعبر عنها، ظهر الفشل والعمالة

والتآمر.

ولنأخذ على سبيل المثال: مصر، فنجد أن الشعب في ثورة ١٩١٩م لم يرفع

شعاراً غير الإسلام، لذلك كان الصراع متجسداً في النفوس، على أنه صراع بين

الحق والباطل، وكانت القيادة وقتها متمثلة في الأزهر الذي نجح في إجلاء

الفرنسيين، ولكن بعد أن بدأت الولاءات القومية والوطنية تزاحم الهوية المسلمة،

ظهرت الأزمة في مواجهة المستعمر.

وعلى وجه العموم فالناظر في تاريخ مصر، أو المغرب، أو الجزائر، أو

الهند يرى كيف تدهور الحال على يد العسكر في ظل القوميات المختلفة، بعدما

انسلخت الأمة من دينها تحت مظلة القومية، ومن هنا نجح المستعمر في زرع

(إسرائيل) التي ترفع شعارها العقدي، وتحاربنا من منطلق دينها، بينما يُتهم من

يستحضر البعد الديني في الصراع بالرجعية، ويُحجر على من يرفع راية الإسلام!

* الشيخ /محمد بن إسماعيل:

الأزمة بلغت إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفو الكلم عن مواضعه، أن نفعل مثلهم، ونمارس هواية (التحريف) التي طالما تلطخوا بها، فقد كان من

محاور اتفاقية (كامب ديفيد) : (ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في

الإسلام) .

في تاريخ ١٩/٢/١٩٨٠ عقدت ندوة في جامعة (تل أبيب) حول (دعم علاقة

السلام بين مصر و (إسرائيل (أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن من

اتهامات ضد اليهود، وتناقلت هذا مطبوعات أخرى بمصر، فقام د. مصطفى

خليل ليطمئن اليهود بقوله: (إننا في مصر، نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل

أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية) فرد عليه (ديفيد فيثال) قائلاً: (إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في

إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط) .

لذلك نجد مواقف اليهود كلها صادرة عن هويتهم أو قل عن دينهم، ومن أعظم

الشواهد على ذلك؛ أنه عندما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة،

أصر على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل احتراماً لعقيدتهم في: أن

حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية منه. وهو ما يعبر عنه علم دولتهم

الذي يحوي خطين أزرقين يرمزان للنيل والفرات، بينهما منطقة السيادة عليها

نجمة داود.


(١) ابن هشام: ١/٥١٨ ٥١٩.
(٢) ابن هشام: ١/٥١٨ ٥١٩.
(٣) مسلم: كتاب الإيمان (١٥٣) .
(٤) مسلم: الحيض، حديث ٣٠٢ والترمذي في تفسير القرآن (٢٩٧٧) .
(٥) سنن أبي داود: كتاب اللباس، حديث ٤٠٣١.