[مقاصد الحج]
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
إن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده مرةً في العمر، من استطاع إليه سبيلاً، لا ليستكثر بهم من قلة، ولا ليستعز بهم من ذلة؛ فهو الغني الحميد؛ من أطاعه فقد رشد، ومن كفر فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً. قال ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . [آل عمران: ٩٧]
والحج، بالنسبة للفرد، مدرسة إيمانية تربوية، ومَعْلَمُ طريق في حياته، وحدث تاريخي، لا يزال يلهج بذكره. يمضي الحاج أياماً في رحلة قدسية، أنسية، يجتمع له فيها شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف العمل:
١ - فالزمان: أيام عشر ذي الحجة، التي أقسم بها الرب ـ عز وجل ـ فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: ٢] ، وقال عنها نبيه -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب» رواه البزار، وابن حبان، وصححه الألباني.
٢ - والمكان: بيت الله الحرام، والمشاعر العظام: منى، ومزدلفة، وعرفة. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: ٩٦ - ٩٧] .
٣ - والعمل: أحب العمل إلى الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه، وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري. وأي عمل أعظم مما اختصه الله بها، وهو الحج الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه مسلم.
والحج، بالنسبة للأمة، مؤتمر سنوي، وتظاهرة عالمية ليس لها نظير، تنصهر في رحابه مختلف الأعراق، واللغات، والبلدان، والطبقات، في وحدة إيمانية، ولُحمة أخوية، ومناسك مشتركة تدهش الناظرين، وتدل على حكمة أحكم الحاكمين.
وقد وعد الله عباده المستجيبين لندائه شهود منافع مطلقة، لا حصر لها، ولا حد، فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: ٢٧ - ٢٨] . وفيما يلي التماس لأهم تلك المنافع التي يشهدها حجاج بيت الله الحرام، ويرجعون بها إلى أهليهم، ويبقى لهم غُنْمُها:
ü أولاً: التوحيد والإخلاص:
إن القارئ لآيات بناء البيت، ورفع قواعده، والأذان بالحج، يلحظ التلازم الوثيق بين هذا الحدث الكبير، وتقرير التوحيد، ونبذ الشرك. قال ـ تعالى ـ:
{وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: ٢٦] .
{وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [البقرة: ١٢٧ - ١٣١] .
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: ٣٠ - ٣١] .
كما يجد المتتبع لسياق حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- إعلان التوحيد، في عدة مشاهد مشرقة، منها:
١ - التلبية: ففي حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: «فأهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك» رواه مسلم.
٢ - سؤال الله الإخلاص: فقد سأل -صلى الله عليه وسلم- ربه قائلاً: «اللهم حجة، لا رياء فيها ولا سمعة» رواه ابن ماجه. فإن بذل الأموال، ومفارقة الأهل والوطن، والتعرض للأخطار، مظنة لتسلل العُجْب والرياء إلى النفس.
٣ - قراءة سورتي التوحيد: العملي، والعلمي: الكافرون، والإخلاص، في ركعتي الطواف.
٤ - ذكر الصفا والمروة: قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «فاستقبل القبلة، فوحَّد الله، وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
٥- الدعاء: وهو من أعظم مظاهر التوحيد، حين يُقبِل العبد على ربه، بكليته؛ خائفاَ، راجياً، طامعاً، راغباً، راهباً، منيباً، متضرعاً، مبتهلاً. وقد وقع ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ستة مواقف طوال في حجة الوداع: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وعلى المشعر الحرام في المزدلفة، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، في سائر أيام التشريق.
فحري بمن أشهده الله هذه المواطن الشريفة، أن يفقه هذه المعاني الشريفة، وأن ينفض الغبار عن نفسه، ويجلو صدأ قلبه، ويذكي جذوة التوحيد في روحه. فكما أن الكعبة بيت الرب في الأرض، فالقلب بيت الرب في العبد. وكما أن الكعبة يطيف بها الحجاج والعمار، فينبغي أن يطيف بالقلب الخوف، والرجاء، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، وغيرها من وظائف القلب السليم.
وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- خير الذكر والدعاء، ما يكون في خير يوم طلعت فيه الشمس، يوم عرفة، فقال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه الترمذي، وفي لفظٍ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة ... » رواه الطبراني، وحسنه.
ü ثانياً: المتابعة والانقياد:
ما من عبادة من العبادات يتجلى فيها الانقياد التام، والمتابعة المطلقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كالحج؛ فالحاج يتقلب في مناسك متنوعة، ويتنقل بين مشاعر متعددة، لا يعقل لكثير منها معنى، سوى الامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله. فهو يقبِّل حجراً تارةً، ويرمي حجراً تارةً أخرى؛ وهو يتجاوز مشعراً، ليصل إلى آخر، ثم يعود إلى الأول؛ وهو يطوف سبعاً، ويسعى سبعاً، ويرمي بسبع، دون أن يدرك معنى خاصاً للعدد.
وقد أدرك الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أهمية المتابعة، وشعروا بالحاجة إلى تصحيح مناسك إبراهيم، عليه السلام، وتنقيتها مما شابها من شرك الجاهلية وبدعها، على يد أوْلى الناس به، محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما أن أُذِّن في الناس في السنة العاشرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجٌّ، حتى «قدم المدينة بشر كثير» رواه مسلم، وفي رواية: «فلم يبق أحدٌ يقدر أن يأتي راكباً، أو راجلاً، إلا قدِم» رواه النسائي، «كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله» رواه مسلم. ويصف جابر ابن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ ذلك المشهد العجيب، والموكب النبوي المهيب، حين استوت به ناقته على البيداء، بقوله: «فنظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب، وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به» رواه مسلم.
كما أنه -صلى الله عليه وسلم- ظل ينبه على هذا المعنى، من المتابعة والانقياد، فيقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه» رواه مسلم.
وقد فقه الصحابة هذا المعنى، فلما قبَّل عمر ـ رضي الله عنه ـ الحجر الأسود، قال: «إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك، ما قبلتك» رواه الجماعة. قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «وفي قول عمر هذا، التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه» فتح الباري: ٣/٤٦٣. وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ أيضاً: «ما لنا وللرَّمَل، إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله. ثم قال: شيء صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه» رواه البخاري. وفي رواية: «فيما الرَّمَلانُ الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطَّد الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك، لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ولم يكن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم-، في المناسك، ولا في غيرها: أَوَاجبٌ هذا أو سنةٌ؟ بل كانوا يعظمون سنته، ولا يماكسون فيها، ولا يتتبعون الرخص والشاذ من الفتاوى، كما يصنع الناس اليوم، ويعملون بمقتضى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.
ü ثالثاً: إقامة ذكر الله:
إن من أعظم مقاصد الحج، وأهمها، إقامة ذكر الله. ويلحظ القارئ لآيات المناسك تكرار الأمر بذكر الله عقيب كل منسك، قال ـ تعالى ـ: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} . [البقرة: ١٩٨ - ٢٠٠]
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: ٢٠٣] .
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: ٢٨] .
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: ٣٤] .
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: ٣٧]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله في الأرض» رواه الترمذي، وقال: «أفضل الحج: العجُّ والثجُّ» ، وقال له جبريل ـ عليه السلام ـ: «كن عجَّاجاً ثجاجاً» رواه أحمد. والعجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجُّ: إهراق دم الهَدْي.
فينبغي لمن تلبَّس بهذه المناسك أن يستشعر هذا المعنى الجليل، وأن يلهج لسانه بذكر الله، وتكبيره، واستغفاره، ودعائه، كما أمر؛ فإن الله يحب أن يُذكر اسمُه. وكثير من الناس ينهمك في أداء المناسك ببدنه، وقلبه غافل، ولسانه عاطل.
كما ينبغي لمن أكرمه الله بإقامة ذكره في الحج أن يحفظ الدرس، ويرجع ذاكراً، شاكراً، حامداً، مهللاً، مكبراً، لا يزال لسانه رطباً بذكر الله في جميع تقلباته، وأحواله؛ فالذكر جماع الخير، ومنبع الفضائل؛ فعن عبد الله بن بسر ـ رضي الله عنه ـ قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامع؟ قال: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزَّ وجل» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ü رابعاً: تعظيم شعائر الله وحرماته:
قال ـ تعالى ـ في سياق آيات الحج: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: ٣٠] ، ثم قال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢] ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: «حرمات الله: كل ما له حرمةٌ، وأمر باحترامه من عبادةٍ أو غيرها؛ كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها؛ فتعظيمها إجلالاً بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل» ثم قال: «المراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها: المناسك كلها؛ كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: ١٥٨] ، ومنها: الهدايا والقربان للبيت ... ومنها: الهدايا؛ فتعظيمها باستحسانها، واستسمانها، وأن تكون مكمَّلة من كل وجه. فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب؛ فالمعظم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) .
تيسير الكريم الرحمن: (٣/ ١٠٩٨-١٠٩٩)
إن هذا الحس الإيماني المرهف، الذي يستقرئ المعاني من وراء الصور والأعيان في مناسك الحج وشعائره، ينبغي أن يستصحبه المؤمن في سائر شعائر الله الزمانية والمكانية؛ فيعظم ما عظم الله، ويهوِّن ما هوِّن الله، ويقدِّم ما قدم الله، ويؤخر ما أخر الله، وتستقيم مشاعره مع شعائر الله، ويكون هواه تبعاً لما جاء به نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وكثير من الحجاج ينهمك في أداء المناسك الظاهرة؛ من طواف، وسعي، ورمي وغيرها، دون أن يصاحب ذلك تعظيم باطني لشعائر الله؛ فلهذا يتشاغل برؤية الغادي والرائح، ويبدو عليه الفتور والملل، ويبحث عن شواذ الرخص؛ بخلاف من عمر قلبه بجلالة الموقف، ولذة العبادة. وهذا ينسحب على بقية شرائع الدين.
ü خامساً: الولاء والبراء:
عجباً لهذا الدين العظيم! كيف ينشئ في نفوس معتنقيه وحدةً فريدة، ولُحمةً متينة، وانتماءً عميقاً، يتخطى الحواجز المكانية والزمانية، ويتسامى على الفروق العرقية والاجتماعية، ويتجاوز الخلافات السياسية والمادية، ويصهر التنوعات اللغوية والثقافية، لمختلف الشعوب والقبائل في نهر كبير مطَّرد، اسمه (الأمة الإسلامية) !
حين يلفظ العربي الفصيح، والأعجمي بلكنته: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) .
وحين تصطف صفوف الصلوات الخمس خلف إمام واحد، يصلون لرب واحد.
وحين يقتطع المسلم الغني زكاة ماله ليرفد بها إخوانه الفقراء في أصقاع الأرض.
وحين يمسك أكثر من مليار من البشر عن الأكل والشرب، في شهر واحد.
وحين تبعث كل أمة بوفدها إلى بلدٍ واحد، في شهرٍ واحد، لأداء نسكٍ واحد، على صعيد واحد، لباسهم واحد، يلبون لرب واحد، نبيهم واحد، وكتابهم واحد.
حين يفعلون ذلك، يتجلى بشكل واضح أحد مقاصد الدين العظام، ألا وهو تحقيق الموالاة بين المؤمنين، وشعورهم برابطة الأخوة الإيمانية التي تجتاح جميع الروابط، وتذيب جميع الفوارق. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ *} [المائدة: ٥٥ - ٥٦] ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: ٧١] وهذه الموالاة تفرض حقوقاً وحرمات على أعضاء الجسد الواحد، ولَبِنات البنيان الواحد، جسَّدها النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبة عرفات، وبين يديه مائة ألف أو يزيدون، حين قال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» رواه مسلم.
وبإزاء هذه الموالاة، ومن لازمها ومقتضاها: البراءة من الكفار على اختلاف أصنافهم ومللهم. وقد كان موسم الحج الميدان المناسب لإعلان تلك البراءة، زماناً ومكاناً، حيث أنزل الله ـ تعالى ـ صدر سورة براءة: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: ١ - ٣] . وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «بعثني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى: ألاَّ يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» رواه البخاري.
وقد تضمنت حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- العديد من شواهد البراءة من المشركين، ومخالفة هديهم:
١ - في التلبية: كانوا يقولون: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، ملكته وما ملك» فأهلَّ بالتوحيد.
٢- الجواز إلى عرفة: مخالفةً لمشركي قريش الذين كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه.
٣- الدفع من عرفة بعد مغيب الشمس، وذهاب الصُّفْرة، خلافاً للمشركين الذين كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال.
٤- الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، خلافاً للمشركين الذين كانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، لجبلٍ في المزدلفة تشرق عليه الشمس.
قال ابن القيم، ـ رحمه الله ـ: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين، لا سيما في المناسك» .
تهذيب سنن أبي داود: (٣/٣٠٩)
وقد قرر هذه البراءة من الجاهلية وأهلها في خطبة عرفة حين قال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة ... وربا الجاهلية موضوع ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدُ إن اعتصمتم به: كتابَ الله» .
رواه مسلم.
إن الدرس العظيم الذي ينبغي أن يرجع به كل حاج أن يشعر أنه من أمة مصطفاة خُيِّرت على سائر الأمم، وهُديت لأفضل السبل، وأنْ ليس ثَمَّ إلا إسلام أو جاهلية، هدىً أو ضلالة، حزب الله، أو حزب الشيطان، صبغة الله، أو صبغة الذين لا يعلمون {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: ١٣٨] ، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: ٥٠] .
وهذه الأمة، وإن بدت متخلفةً مادياً وعسكرياً، بسبب تقصير أهلها بالأخذ بأسباب القوة والإعداد، إلا أنها تأوي إلى ركن شديد من العقائد، والشرائع، والأخلاق، ما إن يأذن الله بالفتح والفرج، حتى تعود لخيريتها، وتؤدي دورها الذي أكرمها الله به. قال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: ١١٠] .
فلا ينبغي للمؤمن أن يهون، ولا يحزن، مهما بلغ الحال من الهزيمة الظاهرية: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩] .
وما أحرى الأمة، بجميع فئاتها وتخصصاتها، أن تتخذ من موسم الحج موسماً للتلاقي، والتباحث في مصالحها المختلفة؛ فتعقد المؤتمرات السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية في موسم الحج، ويتكرر ذلك كل عام، إذاً لانحلت مشكلات كثيرة، وتذللت صعاب جمة، وبدت الأمة أمام خصومها قويةً متماسكة.
ü سادساً: ابتغاء فضل الله بالتجارات:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كانت عكاظ، ومَجَنَّة، وذو المجاز، أسواق الجاهلية، فتأثموا أن يتَّجِروا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} رواه البخاري. وعن أبي صالح، مولى عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا أمير المؤمنين! كنتم تَتَّجِرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
إن موسم الحج فرصة لالتقاء مختلف الشعوب الإسلامية لتحقيق منافع مشتركة، ومصالح متبادلة، ومنها المنافع التجارية، والمصالح الاقتصادية، دون أن يغض ذلك من قدر النُّسُك؛ فقد رفع الله الجُناح عن الأمة في مزاولة هذه المناشط الحيوية التي تعود عليها بالقوة والخير. ولو أحسن المسلمون اليوم استغلال هذا الموسم من هذا الجانب، لأمكن أن يؤسس لما يسمى (السوق الإسلامية المشتركة) من خلال عرض منتجاتهم، وإبرام العقود والاتفاقيات التجارية، ويحققوا فيما بينهم الاكتفاء الذاتي، ويستغنوا، أو يكادوا، عن الابتزاز العالمي المذل.
ü سابعاً: التقوى:
جميع شرائع الدين تهدف إلى تحقيق التقوى؛ بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه. وآيات الحج، بصفة خاصة، مختتمة بالأمر بتقوى الله. قال ـ تعالى ـ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: ١٩٦] .
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ١٩٧] .
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: ٢٠٣] .
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} .
[الحج: ٣٧]
فهي تخاطب في الناسك خبيئة قلبه، وتستثير ورعه، ألاَّ يرتكب محظوراً، ولا يفرط في هَدْيٍ، أو فديةٍ، أو كفارةٍ، وألاَّ يقع في رفثٍ، أو فسوقٍ، أو جدالٍ، أو إثمٍ في الحج. وإلى جانب ذلك تشعره أن جميع قُرُباته، مهما دقت، معلومة، محفوظة، مشكورة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: ١٩٧] .
إن هذه الرقابة الذاتية الصارمة التي يلتزم بها الحاج أياماً معدودات، يمكن أن تتحول إلى منهج، وسلوك مستديم، يرجع به الحاج الموفق إلى وطنه، وكأنما تنبه من غفلة، أو استيقظ من رقاد.
ü ثامناً: حسن الخلق:
الحج سفر، والسفر قطعة من عذاب. وفي الحج من بُعد الشُّقة، وزيادة الكلفة، وحصول الازدحام، ما يتطلب مستوىً خلقياً رفيعاً، من الصبر والاحتمال، تدفع الضجر، وأريحية بالغة، تتسامى عن الأثرة، وتحمل على الإيثار، والصفح، ومجاهدةً وغالبةً للنفس الأمارة، تهزم الشهوات وحظوظ النفس. قال ـ تعالى ـ: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: ١٩٧] . قال عطاء ـ رحمه الله ـ: (الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك) .
ومن أجمل الأخلاق الاجتماعية: الرفق، وقد دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع وراءه زجراً شديداً، وضرباً للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البِرَّ ليس بالإيضاع» رواه البخاري.
ومن الأخلاق الكريمة: التواضع، وقد أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما دفع من المزدلفة، وشرب زمزم من دلو يشرب منه سائر الناس. رواهما مسلم.
ومن مكارم الأخلاق حُسن معاشرة الزوجة؛ فحين حاضت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ودخل عليها فوجدها تبكي، سلاَّها، وعزَّاها، قائلاً: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم» ، وحين ألحَّت أن تأتي بعمرة بعد الحج، قال: «اذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» «وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً سهلاً، إذا هويت الشيء تابعها عليه» رواهما مسلم.
إن هذه الرحلة الشاقة، والآداب الصارمة، يمكن أن تؤسس لقيم خلقية ثابتة، يلتزمها الحاج بعد رجوعه، ويتحلى بها في رحلة العمر كله، بعد أن لمس آثارها، وجنى ثمارها، في تلك الأيام المعدودات.
ü تاسعاً: التوبة والاستقامة:
الحج حدث عظيم في حياة المسلم، يعلق عليه كثير من المسلمين آمالهم، ويرونه مفرق طريق، وإيذاناً باستئناف حياة جديدة يستشرفون فيها المستقبل بتفاؤل وعزم على الاستقامة، وهجرٍ لحياة التفريط والمعاصي. لا غرو؛ فالحج أحد المكفرات الكبار التي تجُبُّ ما قبلها؛ فعن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: ابسط يدك فلأبايعك. قال: فبسط، فقبضت يدي، فقال: «ما لك يا عمرو؟» قلت: أشترطُ. قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن يُغفَر لي. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه. وفي هذا الحديث بشارة وإشارة:
١- فالبشارة ظاهرة، وهي مغفرة السيئات، فيرجع ابن تسعين، إذا وفَّى بالشرط كابن ساعة، لا خطيئة عليه، صفحته بيضاء نقية.
٢- وأما الإشارة: فينبغي لمن حظي بهذه الكرامة أن يحافظ عليها، فلا يلطخ صحيفته البيضاء بسواد المعاصي. وقد فسر الحسن البصري ـ رحمه الله ـ الحج المبرور بقوله: (أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة) . وهذا من أعظم علامات القبول.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يمن علينا بحج مبرور، وسعي مشكور، وتجارة لا تبور، وأن يصلح لنا ولأمتنا جميع الأمور، إنه غفور شكور. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(*) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة القصيم.