في إشراقة آية
[أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]
د. عبد الكريم بكار
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم
وواقعهم، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة. وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في
حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في
التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي
لديهم.
فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة، حتى ضج قومه من ذلك
حين قالوا: [قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا] [هود: ٣٢] ، وهذا إبراهيم -
عليه السلام- يكرمه الله تعالى، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه: [وتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ]
[الأنعام: ٨٣] . وهذا موسى -عليه السلام- يقول: [واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي] [طه: ٢٧، ٢٨] ، ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك
هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول: [وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ] [القصص: ٣٤] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه: [وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: ٦٣] . وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال: [قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] [الأنعام: ١٤٩] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول - واحدة أو تكاد، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ، هو: التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة.
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة، ومع أهمية العمل إلا أن
لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً
غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة، بل قارة، فمما يذكرون في هذا الصدد
أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب
المذهب؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في
عدله وصلاحه. فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي، فأمر بتدريس كتب مالك في
بلده، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية! . وما أظن أن ما
حدث كان يخطر للإمام على بال.
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش، كما حدث في غزوة الأحزاب
حين أسلم نعيم بن مسعود، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين
قريش واليهود على ما هو مشهور. وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية
قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له، قال أحدهم:
لو كان لى عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية.
وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما، فيكفى أن تقنعه: أن عمله غير ذي
فائدة.
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في
أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً. ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها، قال
الله -جل وعلا-: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] [إبراهيم: ٢٤-٢٥] ، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة
الطيبة بشجرة طيبة، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية: ثبات
أصلها وعمق جذورها، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء، ثم نفعها الدائم للخلق
باستمرار أكلها وثمارها. ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة.
١ - ثبات الأصول:
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة، تركزت في
الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة
الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي
بناه الأنبياء تستند إليه، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ
المبين.
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة،
والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» . قال ابن حجر: ومعنى
الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[فتح
الباري ٤٨٩/٦]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. ولكن
المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط
بينهما وارداً، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت.
واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية، نجد أن
كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من
مواقعهم، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع، أو السواد الأعظم من
علماء المسلمين، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع.
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين
يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي، حيث أثنوا على كتاباته، وسألوه عن
الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين؟ وقد أجابهم بقوله:
أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته...! ! وهذا
المطلب عجيب غريب، وهو غني عن كل تعليق. فهل يصح لهذا وأضرابه أن
يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية
الخلق؟ ! . ...
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض، من
أمثال: إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم، ومن مثل: القول بعدم وجود حد
للردة في الشريعة.... الخ. وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد
أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما
يشتهي أهل الأهواء والشهوات، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا
رائحة... ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود
عن حياضه.
٢ - مرونة الأساليب وتنوعها:
على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها
مرنة نامية منوعة، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول؛ فأحوال البشر
وأفهامهم مختلفة، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم،
وصدق الله العظيم إذ يقول: [ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]
[إبراهيم: ١٤] ، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله
هذه الكلمة من دلالات، والهدف هو: أن يبين لهم ما يدعو إليه، وقد أخذ الأسلوب
القرآني من العرب كل مأخذٍ، وتحداهم وطاولهم في التحدي، وأقام عليهم الحجج
الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك. واللغة في أبسط تعاريفها هي:
مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع
باتساع حضارة اللاغين بها، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم، وهذه الإمكانات
دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحى من الولادة إلى
الموت وما بينهما من مراحل. ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة، فالفاعل
لن ينمو ليصبح مجروراً، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً، ولكن بين تلك
الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات
والأصوات، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة
عنفها.
لغة العصر:
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم
مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع
يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين، مما جعل اللغة التي يتكلم
بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة، لأنهم هم الذين
شكلوها، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت ... ولكن الزمان قد اختلف، حيث إن اللغة
التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع، فأجهزة الإعلام والجرائد
والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم
مضامين وأساليب، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية
صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات ...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم، إذ أن
الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها،
مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في
الذهن أو العاطفة، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون
أن يساء فهمها، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها
للمخاطب أمراً ضرورياً جداً.
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة
على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف
الدارسين، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير والتأويل، بشرط أن يكون
ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه. أما الحقيقة العلمية الكونية أو
العقدية أو الفقهية: فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى
واحد، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة.
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً، وأوقعته في
الريبة مع سلامة قصده، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به.
من خصائص لغة العصر:
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد
الأعظم من الناس، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز
في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات
الثقافية والفكرية، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس، مما
يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك
التركيب. وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم، كما أنه
مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم،
ومن هذه الخصائص:
أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة:
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في
منحنيات الفكر البشري ومساراته، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي
فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف) ، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال
يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه. وقد تأثر الفكر الإسلامي
قديماً بالمنطق الأرسطاليسي، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول
والفقه والعربية، بل والعقيدة. ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن، ومن
الطرائف المتناقلة في هذا: أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان
المرأة! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة..
وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر
الأرسطي القياسي، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية، ومن
ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها، وهذه
نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه
الحقيقة، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم
قوله، وتؤيده، فعلى سبيل المثال: فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على
ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي
الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي
تشرح فوائد الالتزام بالإسلام، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين
الوضعية.
ومن المفيد هنا أن نقول: إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي
يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد
لتسد النقص في التفاصيل التاريخية، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم
سمات عصرنا البارزة، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات
اللفظية العقيمة.
- للبحث صلة -