المسلمون والعالم
[الدعوة إلى الشرق الأوسط الكبير]
الحقيقة والمحاذير
طلعت رميح [*]
النص الذي تم تسريبه من الخطة الأمريكية المسماة بـ «الشرق الأوسط
الكبير» على ما يبدو استهدف في توقيته المبكر اختبار ردود أفعال الأطراف
المختلفة، حيث أُعدت للعرض على اجتماع الدول الثمانية الصناعية المقرر انعقاده
في سي آيلاند بالولايات المتحدة في يونيو القادم يقدم مؤشراً جديداً على تراجع
الولايات المتحدة المضطرد عن العمل منفردة ضد العالم، أو عن اتجاهها للعمل من
خارج كل أطر تقسيم المصالح مع الدول الاستعمارية الأخرى، سواء من خلال
الأمم المتحدة أو من خلال حلف الأطلنطي أو من خلال مراعاة مراكز النفوذ للدول
الأخرى اللهم إلا بريطانيا والكيان الصهيوني، وهو الاتجاه الذي بلغ ذروته في
العدوان على العراق من خارج التحالف مع الدول الاستعمارية الأخرى، والاستيلاء
على ثرواته على انفراد وبعيداً عن مواجهتها.
وهذا التراجع قد بدأ يظهر مؤخراً بعودة الولايات المتحدة إلى إعطاء دور
للأمم المتحدة مجدداً في التعامل مع واقع الاحتلال في العراق؛ للخروج من مأزق
الولايات المتحدة المتعاظم هناك تحت ضربات المقاومة، واتضح ذلك أكثر مع
اللهفة الأمريكية المتزايدة لجلب قوات من مختلف دول العالم.. وهذا التراجع يتعزز
وضوحه من داخل نص الخطة الجديدة، والذي شدد على توحيد جهود الاتحاد
الأوروبي وحلف الأطلنطي ومجمل دول الثمانية الصناعية في هذا المشروع أو
الخطة، إلى درجة جعلت بعض المحللين يُطلقون عليها وصف «اتفاقية هلسنكي
الجديدة» ، إشارة إلى الاتفاقية القديمة لمواجهة الديكتاتورية في البلدان الشيوعية..
وكذا شدد في إشارته على توحيد أو دمج الخطط الأوروبية والأمريكية السابقة بشأن
التغييرات في الشرق الأوسط.
غير أن الأهم هو أن هذا التخطيط الاستراتيجي الأمريكي يكشف من الزاوية
الأخرى عن أن تلك المنطقة المرشحة لتشكيل «الشرق الأوسط الكبير» من دولها؛
باتت على محك إعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري داخلها؛ على غرار
اتفاقيات التقسيم الدولي التي شهدها العالم، سواء «اتفاقية سايكس - بيكو» في
العقد الثاني من القرن الماضي، كنتيجة لتوازنات القوى عقب انتهاء الحرب
العالمية الأولى، أو «اتفاقية يالطا» التي تم توقيعها في العقد الرابع من القرن
نفسه كنتيجة للتغيرات في موازين القوى الدولية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية
.. وهو ما يجعل الخطة الجديدة حال إقرارها تمثل تحدياً أعلى من كل تحد سبق أن
واجهته الأمة.
ووفق هذا النص.. فإن «الشرق الأوسط الكبير» سيضم البلدان العربية
بالإضافة إلى ٥ دول أخرى هي (باكستان، وإيران، وتركيا وأفغانستان،
والكيان الصهيوني) .. وإذا كان تحديد الدول العربية يأتي في إطار أنها المستهدفة،
وأن المطلوب هو إنهاء منظومتها وتذويبها في محيط أوسع؛ فإن كل بلد من
البلدان الخمسة يأتي لأهداف خاصة، ووفق تصور لدور محدد، ويحوي دلالات
خاصة.
فبالنسبة إلى الكيان الصهيوني يعني ذلك إدراجه ضمن «الشرق الأوسط
الكبير» ، وهذا التشكيل هو الأول الذي يضمن دمج الكيان الصهيوني في إطار
منظمة تضم معظم دول العالم الإسلامي في حين أن فكرة «الشرق أوسطية» التي
طرحها بيريز كانت تركز على العالم العربي والكيان الصهيوني بالدرجة الأولى أو
في المرحلة الأولى.
وكذلك هو يكشف عن الأبعاد الاستراتيجية للكثير من التحالفات والإجراءات
والترتيبات السابقة على المرحلة الحالية، وربما التي يأتي هذا التطور لدفعها إلى
الأمام خطوة كبيرة.. سواء كان ذلك في مجال العلاقات التركية الصهيونية، أو
التحالف التركي الإسرائيلي، أو في مجال العلاقات الباكستانية الإسرائيلية التي
يجري اختراق أسسها السابقة وتطويرها من المقاطعة إلى بدء اللقاء والتعاون.
وبالنسبة لإيران؛ فإن ذكرها في الخطة يلقي الضوء مجدداً على الرؤية
الأمريكية للدور الاستراتيجي لإيران تجاه الدول الإسلامية الأخرى، وبشكل خاص
تجاه العالم العربي، حيث تستهدف الاستراتيجية الأمريكية تقليل توجه إيران نحو
الشمال ممثلاً في نفوذها في الدول الإسلامية الخارجة من تحت عباءة الاتحاد
السوفييتي، ودفعها للاتجاه نحو المحيط العربي لإعادة تقسيم المنطقة العربية وفق
الرؤية الأمريكية إلى دويلات سنّية وشيعية.
وبالنسبة لإدراج تركيا ضمن هذه المنظومة؛ فهو من ناحية يكشف الرؤية
الأمريكية للدور التركي في المنطقة وهي العضو الوحيد بحلف الأطلنطي ضمن هذه
الدول، كما يكشف عن أبعاد العلاقات التركية الصهيونية؛ بالقدر نفسه الذي يكشف
أبعاد التحركات التركية التي تجري منذ فترة باتجاه العالم العربي، سواء ما حدث
من الضغط على سوريا، أو الاشتراك الاستراتيجي في الحالة العراقية، والسعي
لدور موسع في جمع أطراف الدول المحيطة بالعراق.. إلخ.
أما أفغانستان؛ فإن إدراجها ضمن هذا التصور إنما يعني مجدداً تحويل الحالة
الأفغانية المحتلة إلى دور محدد أمريكياً في العالم العربي وفي المنطقة.. كما يعني
السعي إلى تحويل المشكلة الأفغانية إلى حالة إقليمية، تتحمل نفقات إعمارها
والمواجهات فيها الدول العربية والدول الأخرى.
وعلى صعيد آخر؛ فإن هذا التصور المطروح للمنطقة؛ يكشف عن أسرار
الاهتمام الصهيوني منذ فترة طويلة باختراق العديد من دول غير فاعلة في المنظومة
الحالية؛ مثل قطر وموريتانيا وإريتريا.. ويلقي أضواء جديدة على هذا التحول
اللافت للنظر من دول المحيط للعالم العربي، خاصة تركيا وإيران، نحو الجامعة
العربية، وطلب التعامل كعضو مراقب فيها خلال الفترة الأخيرة.
* الجديد في الخطة:
في مبادرة كولن باول لتنمية الديمقراطية وتعزيزها كما ادعى، وكذلك في
مبادرة الشراكة الاقتصادية الأمريكية الشرق أوسطية التي طرحها بوش بعدها؛
جرى طرح وترويج لأفكار الحريات، وتغيير مناهج التعليم، وربط «الديمقراطية»
بالمساعدة الاقتصادية التي وردت في نص الخطة الأمريكية لمشروع «الشرق
الأوسط الكبير» .. أو التي تمحورت حولها الخطة، ومن ثم فلا جديد في هذا
المنطق والاتجاه، غير أن الخطة الجديدة تمثل مع ذلك «نقلة كيفية» في الهجوم
على الأمة وليست «نقلة كمية» فقط.
فإذا كنا أشرنا إلى استدعاء الولايات المتحدة الدول الأخرى للمساهمة في
الخطة، أو بعبارة أدق السعي إلى المشاركة في تقسيم المصالح والنفوذ في المنطقة؛
فإن الأخطر هو أن هذا التقسيم للنفوذ والعمل من أجل تحقيق أهداف هذه الخطة؛
إنما سيجري وفق اتفاق مؤسسي، ووفق معاهدة محددة تحدد الأدوار لكل طرف فيها،
وهو ما يجعل الخطة مثل حرب «دولية» منظمة ومرتبة، أو هي مثل
«إعلان حرب» شاملة بالمفهوم نفسه.
ومضمون «معاهدة هلسنكي عام ١٩٧٥م» ، والتي على أساسها جرى
صراع مفتوح بين الرأسمالية والشيوعية؛ انتهى بسقوط وتفكك الاتحاد السوفييتى،
أو تدقيقاً انهيار التجربة السوفييتية وحلف وارسو.. وهذا يعني في حالتنا الآن أو
في حالة (اتفاقية هلسنكي الجديدة - خطة الشرق الأوسط الكبير -) رفع درجة
الصراع المفتوح بين الغرب والإسلام مع جذب ممثلي حضارات أخرى من درجة
الخلاف بين الأنظمة بعضها مع بعض، ومن درجة الخلافات والصراعات على
المصالح.. أو من فكرة مطالبة الأنظمة بتغيير المناهج والأفكار، أو إدخال العملاء
الحضاريين للغرب ضمن النخب الحاكمة تحت شعارات الديمقراطية والحرية
المخادعة.. إلخ؛ إلى درجة الصدام الحضاري الشامل.
وتأتي شمولية هذا الصدام من أن الخطة الأمريكية تقوم على محاولة إيجاد
توافق واتفاق أمريكي أوروبي ودولي أطرافه وقواه وعناصر تنفيذ قراراته هي
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي؛ مهما كان مستوى التنسيق
والاتفاق ودرجته أو درجاته على خوض حرب شاملة، يحدد فيها كل طرف دوره
وخطته ومهامه وفق قواعد ملزمة، وداخل أطر تنظيمية محددة. وهو ما يعني إذا
تم الاتفاق على المبادرة نجاح الولايات المتحدة في خطتها التي سعت إلى تنفيذها
بجر أوروبا إلى هذه المواجهة، أو لنِقُل بتعبير آخر إن الولايات المتحدة التي رأت
أوروبا تتحرك بعيداً عنها في بعض الأحيان في مواجهتها تحاول استعادة السيطرة
عليها مرة أخرى ضمن رؤية لمواجهة العالم الإسلامي.
فإذا كانت أوروبا قد تحركت بعيداً عن الخطة الأمريكية منذ أن انتهى الخوف
من الخطر السوفييتي؛ فإن الولايات المتحدة حال إقرار الخطة مع أوروبا تكون قد
نجحت من خلال استدعاء الخطر الإسلامي في إعادة أوروبا تحت السيطرة، أو
ضمن الخطة والاستراتيجية الأمريكية مرة أخرى. وهو ما يقلل من الفرصة التي
أتيحت خلال المرحلة الماضية، من بروز خلاف مؤثر داخل الحالة الغربية، كان
بالإمكان التعويل على بعض فوائده عربياً وإسلامياً، وهو ما يعني ليس فقط أن
الفجوة تضيق بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ وإنما الأخطر هو أن الهوة ستتوسع
بيننا وبين أوروبا وهي الجار لنا!! ولعل في الإشارة الواردة في الخطة بشأن
مشاركة حلف الأطلنطي تأكيداً لهذا المعنى بدلالاته ... خاصة أن ثمة دراسات
يُفصَح عنها حالياً بعد أن جرى الحوار حولها وربما الاستقرار والاتفاق عليها حول
تغيير في عقيدة حلف الأطلنطي؛ ليكون التركيز الاستراتيجي لجهود الناتو في
النصف الأول من القرن الحادي والعشرين على «الشرق الأوسط الأكبر» ،
والعراق، وأفغانستان، ومنطقة البحر المتوسط، و «القضية الإسرائيلية
الفلسطينية» حسب وصف الدراسات الأمريكية، وهو ما وضحت مؤشراته العملية
من خلال تصاعد دور الأطلنطي في أفغانستان، وتؤكده المؤشرات التي بدأت في
الوضوح في العراق، حيث تحاول الولايات المتحدة انتزاع موافقة من حلف
الأطلنطي على المشاركة في احتلاله والمتوقع أن يتغير الموقف الرسمي الحالي
للحلف فيما يتعلق بإرسال قوات عسكرية، عقب ما يُسمَّى بتسليم السلطة للعراقيين،
هذا بالإضافة إلى ما تتبناه بعض الدراسات والأصوات التي باتت تطالب علناً
بإنزال قوات لحلف الأطلسي في فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧م، بديلاً لقوات
الاحتلال الإسرائيلي. وعلى خلفية هذا التغيير في دور حلف الأطلنطي يجري
النقاش والترتيبات من أجل إعادة هيكلة الوجود الأمريكي في أوروبا وتخفيضه؛
لتركيز الجهد العسكري للحلف وقواعده على منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ويبقى أن ما في جعبة الولايات المتحدة هو التحول بهذه القوة الدولية إلى فكرة
استراتيجية الحرب العدوانية الاستباقية ومنهجها؛ إذ من غير الممكن الحديث عن
تغيير في المنطقة وإعادة تقسيمها، أو إدخال عامل القوات العسكرية في تنفيذ
الخطة؛ دون أن يأتي ذلك من خلفية ومنهج من يطرحها الآن؛ أي الإدارة
الأمريكية المتطرفة.
غير أن الخطة لا تطرح فقط رؤية وتحالفاً وآليات لتنفيذها، وإنما هي تكشف
عن جانب مهم آخر، ألا وهو أن تنفيذ اتفاقيات التجارة الحرة وإزالة القيود
الجمركية وإنهاء الإجراءات الحمائية للصناعة الوطنية.. أو تنفيذ اتفاقيات الجات،
من حرية تدفق الاستثمارات، وحرية خروج الأرباح وانتقال العمالة والملكية
الفكرية.. إلخ؛ لن يتم في هذه المنطقة وفق القواعد العامة التي ستُطبق في مختلف
مناطق العالم، ويحتفظ فيها ببعض أشكال السيادة الوطنية؛ وإنما سيأتي من خلال
دمج اقتصاديات المنطقة، وبشكل خاص الاقتصاد الإسرائيلي داخل اقتصاديات
المنطقة، وإعادة تشكيل الهياكل السياسية والاقتصادية الداخلية والتوازنات في
المنطقة.
* موقع الخطة على خريطة الصراع التاريخي:
ليس من المصادفة أن يكون توقيت إطلاق هذه الخطة هو موعد الانتهاء من
ترتيب احتلال العراق نفسه، أو موعد الانتهاء من استقرار العراق تحت الاحتلال،
وكذا هو نفسه موعد إجراء الانتخابات في أفغانستان، بل جاء ليكون أيضاً هو
موعد إطلاق اتفاق تقسيم العالم الإسلامي نفسه.
وإذا كانت المفارقة في هذه الخطة هي أن العالم العربي الذي لم يتوحد على
رأي وموقف ومصلحة سيجري «توحيده» ضمن إطار «الشرق الأوسط الكبير»
.. وأن العالم الإسلامي - الذي طالما كان الأمل في أن يتوحد - اقتُطعت منه
بعض الدول الكبرى.. لتدمج مع الدول العربية.. وفق مناطق نفوذ وتقسيمات
جديدة ... فإن النظرة التاريخية لسوابق هذه الخطة تُظهر أنها تأتي تطويراً لأهداف
بعيدة المدى، وخطط سابقة جرى التعامل بها مع الأمة الإسلامية وتشهد الآن حالتها
الأخطر، حيث وصل الصراع إلى العظم.
منذ أواخر القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين كانت الرؤية الغربية
الاستعمارية قد تبلورت في أهداف محددة في مواجهة الأمة، وإذا كانت التطورات
التي شهدها القرن الماضي قد تمحورت حول إضعاف الدولة العثمانية كآخر رمز
للدولة الإسلامية، وهو ما طرح تحدياً أحدث انقسامات وصراعاً فكرياً داخل جسد
الأمة بين تيارين؛ الأول يتبنى رؤية «الجامعة العربية» ، والثاني يتبنى رؤية
«الجامعة الإسلامية» ، إذا كان ذلك هو الحال في القرن الماضي؛ فإن تمكن
الدول الاستعمارية من إنهاء الدولة العثمانية، ثم إعلان أتاتورك نهاية الخلافة رسمياً
وما تبعها من تطورات ونتائج الحرب العالمية الثانية؛ قد ترتب عليه مع
ضعف المستعمرَيْن الرئيسين بريطانيا وفرنسا وتصاعد حركات التحرر الوطني؛
أن لعبت بريطانيا ومن خلفها الولايات المتحدة لعبة التركيز على الإطار
المؤسسي العربي لإنهاء فكرة الجامعة الإسلامية في مرحلة أولى، ثم إنهاء فكرة
الجامعة العربية في مرحلة ثانية.. فقد كانت بريطانيا هي الدافع والمدعم لفكرة
الجامعة العربية، حيث صرح وزير الخارجية البريطاني في عام ١٩٤١م قائلاً:
«لقد خطا العالم العربي خطوات واسعة في طريق الرقي، وهو يطمح الآن إلى
تحقيق نوع من الوحدة يجعل منه عالماً متماسكاً، ويرجو أن تساعده بريطانيا العظمى
على بلوغ هذا الهدف. ويسرني أن أعلن باسم حكومة صاحبة الجلالة، ترحيب
بريطانيا بهذه الخطوة واستعدادها لمساعدة القائمين لها حالما تتأتى لها الأدلة على تأييد
الرأي العام العربي لها» .
كما كرر الوزير البريطاني كلامه مرة أخرى بعد أقل من عامين لكن بصورة
أصرح: «إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب؛
لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية أو السياسية بينهم، وأعتبر أن الخطوة الأولى
لتحقيق أي مشروع لا بد أن تأتي من جانب العرب أنفسهم، والذي أعرفه أنه لم
يوضع حتى الآن مشروع كهذا، أما إذا وضع فإنه سينال استحساناً عاماً» . وإذا
كان كلام الوزير البريطاني لا يعني بالطبع أن بريطانيا أوجدت فكرة العروبة من
عدم؛ فإنها بطبيعة الحال وبالقدر نفسه أيضاً لم تستهدف وحدة العالم العربي، وإنما
استهدفت بناء هذا الفهم والإطار أولاً لتوجيه ضربة قاضية لفكرة الدولة الإسلامية أو
الجامعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه بناء هذه التجربة الجامعة العربية على أسس
ووفق توازنات وضغوط تمنع تحولها إلى إطار حقيقي للإرادة العربية ... في
مرحلة أخرى.
واليوم وبعد أن تحولت الجامعة العربية إلى إطار رمزي، أو تدقيقاً حينما
انفرط الوضع العربي، وأصبح مجرد كيانات إما متخاصمة وإما مختلفة، وما
يجمعها مع الخارج عملياً أكبر مما يجمعها مع نظيراتها العربية؛ تنتقل الحالة الآن
إلى إغراق هذه الحالة المتفككة من الدول العربية في طوفان المحيط، وتحديداً مع
دول لكل منها دور استراتيجي محدد. أي أننا أمام مرحلة إنهاء فكرة العروبة التي
سبق أن تمت رعايتها شكلياً خلال الحرب الثانية وما بعدها، لندخل مرحلة التفكيك
وإنهاء الهوية العربية؛ وسط زخم الحرب على الإسلام الذي هو الشكل الأرقى
للحرب على فكرة الجامعة الإسلامية وعلى مؤسسة الدولة الإسلامية الواحدة؛ إذ هي
حرب مباشرة على العقيدة.. لتكون النتيجة المتحققة عبر قرن من الزمان أنه لا
دولة إسلامية تأسست ولا جامعة أو وحدة عربية أُنجزت.. وأنه لم يعد هناك مكان
للدول المتفرقة أو احتفاظ بأي من صور الهوية العربية أو الإسلامية؛ بعد أن تُنثر
في وسط محيط كبير يجري تأسيسه على معاملات وملامح غربية، ويحتاج تغيير
أوضاعه وتوازناته إلى عشرات السنين.
* تغييرات استراتيجية كبيرة:
قامت اتفاقية هلسنكي القديمة (١٩٧٥م) ، كإطار للاتفاق والعمل، على ما
سمّي بنشر الحريات في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية وفق نمط من صراع
مرير، عبر الحرب الباردة، والأهم أنها كانت تسليماً أوروبياً بقيادة الولايات
المتحدة للعالم الغربي في هذا الصراع.
وتأتي المبادرة - الخطة الأمريكية - إلى عقد «اتفاقية هلسنكي الجديدة»
بعد مرور ٢٩ عاماً على القديمة تأكيداً للمعنى نفسه، وفي هذه المرة هي لا تكتفي
بالمواجهة مع العالم العربي والإسلامي تحت شعارات تعزيز الديمقراطية والتنمية..
إلخ فحسب، وإنما هي أيضاً تأتي تطويراً لنتائج «اتفاقية سايكس - بيكو» ،
والتي التقى خلالها ممثل الإمبراطورية «البريطانية» مارك سايكس، وممثل
الإمبراطورية الفرنسية فرنسوا جورج بيكو.. في مفاوضات مطولة استمرت من
نوفمبر ١٩١٦م إلى فبراير ١٩١٧م، حيث جرى توقيع الاتفاقية، ومن هنا تأتي
المفهومات والأهداف والأسس تجميعاً لأخطر اتفاقيتين حددتا مصير العالم.. وحيث
هي كذلك تنص على أنها «تجمع كل مبادرات الشراكة الأوروبية والأمريكية في
مبادرة واحدة، وتبين» الشراكة الأوروبية «، وتبيّن» الشراكة الأوروبية
المتوسطية «، و» مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط «،
وجهود إعادة الأعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق، والتزام مجموعة
الثمانية بالإصلاح في المنطقة.» إن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه،
وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديمقراطية في
أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الثمانية فرصة تاريخية «.
وينبغي للمجموعة، في قمتها في سي آيلاند، أن تصوغ شراكة بعيدة المدى
مع قادة الإصلاح في» الشرق الأوسط الكبير «، وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع
الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة» .
وبعد هذه الإشارة في نص الخطة إلى الدول والقوى المرشحة لتقسيم المصالح؛
تشير المبادرة إلى أنه يجب التعامل مع الأوضاع في المنطقة من زاوية أنها منطقة
تمثل مصالح وطنية للدول الثمانية، فتقول: إن الأوضاع في المنطقة «تهدد
المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية» ، وإن الأوضاع في المنطقة
لزيادة تأكيد المعنى «تمثل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة والمصالح المشتركة
لأعضاء مجموعة الثمانية» . وهو إعلان صريح بالمشاركة في محاولة لإعادة
تقسيم المصالح في المنطقة على غرار الاتفاقيات السابقة.
ووفقاً لما جاء في البند الثاني من الملاحظات الواردة في ختام الخطة؛ فإن
النتيجة لن تكون فقط هي فرض تشكيل عام لضم دول المحيط إلى دول الداخل
ضمن منظومة «الشرق الأوسط الكبير» .. ولن ينتج عنها فقط دمج إسرائيل على
كل المستويات داخل الجسد العربي والإسلامي؛ وإنما سيجري وفق خطة محددة من
الخارج ترشيح إسرائيل لكي تكون هي الدولة المحورية في تنفيذ عمليات التطوير
والتغيير الديمقراطي داخل هذه الدول، حيث أشارت الخطة في متنها إلى أنه وفق
«تقرير فريدوم هاوس لعام ٢٠٠٣م؛ فإن إسرائيل كانت البلد الوحيد في الشرق
الأوسط الذي صنف بأنه حر» !! وقد حدد هذا البند - الثاني - الدول التي
سيجري فيها انتخابات خلال المرحلة القادمة ليتم تشكيل إطار لمتابعتها ومراقبتها،
وتشكيل مرجعية للفصل فيها وإنزال العقاب بشأنها؛ بما يعني تشكيل هيئات تراقب
وتتابع وتنفذ عمليات التغيير الداخلي.
أما البند الثالث فهو يحدد الدول التي تريد الانضمام إلى منظمة التجارة
العالمية؛ ليكون الأقطاب الصناعيون جاهزين لتحديد وتقسيم المصالح بشأنها.
وإذا كانت الأمور قدمت في هذه البنود الثلاثة وفق رؤية معلوماتية؛ فإن بنود
المبادرة توضح المقصود منها وفيها بدقة وبتحديد يندر أن يصدر بشأن دول ذات
سيادة!! حيث حددت آليات محددة للرقابة، والتدخل، والمتابعة، والثواب والعقاب!
وإذا انتقلنا من النص إلى الحالة التي ستصبح عليها المنطقة - إذا مضى هذا
المشروع للتنفيذ - فإن تغيراً كبيراً في التوازنات وفي أولويات قضايا الصراع
ستدخل على الأمة العربية والإسلامية، حيث إن الدول التي سيجري دمجها في
المشروع في إجماليتها دول قوية أو محورية (باكستان - تركيا - إيران - إسرائيل)
وهو ما سيغير التوازنات في المنطقة العربية، ويعيد رسم خريطة قوى جديدة..
ويعيد رسم وتشكيل خريطة أوضاعها السياسية والاقتصادية والجغرافية بطبيعة
الحال، وهو ما يعني أن العالم العربي سيتم إغراقه في محيط أوسع منه وهو غير
موحد أو متضامن أو متوافق في داخله بما يسمح بصنع محاور داخله، وبما يغير
وزن وأولويات قضاياه، وبما يجعل قضايا أفغانستان والعراق وفلسطين ضمن دائرة
إقليمية محكمة.
* احتمالات النجاح والإخفاق:
من البديهي القول بأن الخطأ الفكري الذي تقوم عليه الخطة؛ هو أنها تتعامل
مع العقيدة والحضارة الإسلامية بالمنطق نفسه الذي تعاملت به مع نظرية وضعية،
وهي الشيوعية التي لم تكن سوى أحد الروافد الفكرية للحضارة الغربية نفسها. لكن
على المستوى العملي فإن مثل هذه الخطة، وإن استهدفت تحقيق كل ما سبق
الإشارة إليه، ليست فقط قائمة على رؤية خاطئة، ولكن أيضاً على تصور
براجماتي خاطئ؛ إذ هي تتصور أن بالإمكان تغيير الأوضاع العقدية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، ثم جمع كل هذه الأطراف والدول والقوى ضمن منظومة
تقوم على الاقتصاد أو النظام الديمقراطي المتماثل في أساليب الحكم نظام سيجري
فرضه وجمعها في منظومة موحدة.. أو هو تصور يحوي قدراً هائلاً من المشكلات
والتعقيدات المركبة والمتداخلة.. ويتواجه مع عشرات من القوى المختلفة التوجهات
والإرادات التي ستتحول جميعها إلى مواجهة هذه الخطة ورفضها؛ بعضها بالدافع
العقدي، وبعضها بالدافع المصلحي، بل بعضها بدافع الحفاظ على أوضاعها
المستقرة حالياً.
وهذه الخطة من قبل ومن بعد تقوم على تصور ساذج لشعوب أمتنا؛ بأنها
تتطلع إلى منقذين حتى إن كانوا هم الأعداء. كما يمكن القول باطمئنان بأن كل
تجميع تقوم به الولايات المتحدة لأطراف من الأمة لن ينتج عنه في الصورة النهائية،
أو لن يبقى منه مستقبلاً، إلا اقتراب أكثر بين الشعوب والقوى بعضها مع بعض،
وكذلك درجة أعلى من التنسيق في مواجهة الخطط الأمريكية.. التي وإن نجحت
مؤقتاً في إرباك الموازين وأولويات القضايا؛ فإن النتيجة لن تكون سوى تعميق
الصراع وليس إضعافه أو إفقاده لمحتواه العقدي والحضاري.
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية سابقاً.