للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

التغيير القادم

[تجديد الخطاب الديني]

د. محمد يحيى [*]

طرحت في الفترة الماضية في أحد البلدان العربية دعوة رسمية إلى ما وصف

بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من المراجع الرسمية العليا

تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى التابعة

للدولة، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات، غير أن

ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي

تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة.

تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح

أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف

والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة

ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة. وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت

دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح

مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً، وهي العملية التي احتلت مركز

الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب، وظهرت في

هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا ترد لأنظمة هنا

وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية، أو ضمها إلى نظام التعليم

غير الديني، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير، أو تغيير مناهجها بالكامل

لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني. وكانت الهجمة على

نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في

إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك

النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال، والأداة التي توجه

الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية.

وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح

فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث

تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان

الإسلامية، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت

«الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن

لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة، وإدماجها في

العولمة أو النظام العالمي الجديد، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب، بل بدأت

الحكومة التركية ومعها دوائر أمريكية تروج بالفعل لنقل هذه التجربة العلمانية القحة

المغرقة في العداء للإسلام لتطبق في أفغانستان مثلاً أو حتى باكستان باعتبارها

نموذجاً للإسلام الإصلاحي أو المعتدل أو العصري، وفي السياق نفسه طرحت

التجربة التونسية العلمانية ممثلة ليس فقط بممارسات الحكومات التونسية ضد

أوضاع الإسلام التعليمية والاجتماعية على مدى العقود الماضية، وإنما كذلك بكتابات

بعض الكتاب التونسيين المتفرنسين التي أصبحت في السنوات الأخيرة توصف

بالإسلام التقدمي، وتُرَوَّج على اعتبار أنها الوسيلة المضمونة لعلمنة وتغريب

الإسلام تحت مسمى إصلاحه وتطويره وعصرنته، بل وصل الأمر في هذا

الصدد أن أخذت دوائر سياسية أوروبية في بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا،

وألمانيا وغيرها تطرح تصوراً يقول بأن عناصر من ذوي الأصول الإسلامية الذين

هاجروا إلى الغرب واندمجوا وذابوا في مجتمعاته وتشربوا مجمل القيم والأفكار

والتصورات الغربية هم الأجدر بأن يصبحوا من خلال ممارساتهم وكتاباتهم النموذج

الذي يجب أن ينقل إلى البلاد الإسلامية ليحتذى ويقلد على زعم أن هؤلاء قد

خرجوا من خلال وضعهم الفريد هذا بصيغة عصرية حديثة مطورة من الإسلام

صالحة للعيش والتأقلم مع المجتمع الحديث (أي الغربي) وأنهم بذلك الأجدر

بنقل الشعوب الإسلامية من التخلف إلى الحداثة وروح العصر.

واتخذت المسألة أبعاداً أقرب إلى الهزل واللامعقول عندما بدأت بالفعل

عناصر من أشخاص ذوي أصول إسلامية لكنهم تغربوا بالكامل وتعلمنوا تفد إلى

البلاد الإسلامية أو ترسل بكتاباتها وأفكارها إلى المنابر الإعلامية والثقافية وحتى

الدينية في تلك البلاد لكي يجري «تقليد» ومحاكاة وتبني هذه الأفكار والتصورات

باعتبارها النموذج الأسمى «للاجتهاد» الإسلامي العصري رغم أنها تلغي الإسلام

بطابعها المفرق في العلمنة والتغريب. وفي تطور موازٍ أخذ الإعلام الغربي

«يكتشف» أن هناك داخل وخارج البلدان الإسلامية مفكرين وكُتَّاباً هم كذلك

أصحاب باعٍ في تطوير وإصلاح وتجديد وتغيير وعصرنة وتحديث الإسلام، وأنه

يجب على الدول الغربية أن تشجعهم وترفع من شأنهم بالتلميع الإعلامي والدعم

المالي والسياسي (كما اقترح مدير معهد جوتة الألماني الثقافي التابع لوزارة

الخارجية الألمانية) حتى يمكن فرض أفكارهم بدورهم على الأوضاع الدينية

والاجتماعية والفكرية في البلاد الإسلامية، وذكرت في هذا المجال أسماء بعينها من

مصر وبلدان المغرب العربي، ثم من المقيمين والمهاجرين في أوروبا وأمريكا.

وكان الهدف الأكبر وما يزال من وراء هذه التحركات المحمومة والمتنوعة

والواسعة النطاق التي نشهدها في الآونة الراهنة هو إحداث تغيير جذري حاسم في

البنية الفكرية العامة للإسلام عقيدة وشريعة وقيماً وممارسة يؤدي في النهاية كما

نلمح إلى ثنائية العلمنة والتغريب؛ بحيث يخرج الإسلام من هذه العملية مسخاً

مطوعاً للتآلف والانضواء تحت منظومة العالم الغربي فاقداً لتميزه وتفرده وهويته

ومفرغاً من مضمونه الحقيقي؛ مما يعني نهايته كدين، وتحوُّل أتباعه عنه. ومن

المخزي أن هذه الخدعة الكبرى تجري تحت شعارات جذابة براقة مثل الاجتهاد

والتجديد والاستنارة وما أشبه، وينجرف وراءها الآن نفر من العلماء والرؤساء

الدينيين المعينين إما جهلاً أو عمداً في سعي وراء مكاسب دنيوية معروفة، غير أن

هذه التحركات الغربية التي أشرنا إليها تعاني من ضعف قاتل يشل فاعليتها ويطعن

في مصداقيتها؛ فمن الشذوذ البالغ أن يجد الناس أن من يتولى كبر الدعوة إلى

إصلاح وتصحيح الإسلام والاجتهاد فيه عناصر أجهزة الاستخبارات والأمن الغربية

ودوائر السياسة والإعلام والكنائس هناك، ولا يقل عن ذلك شذوذاً أن يجد الناس

في بلدان المسلمين وبشكل مفاجئ أن غلاة العلمانيين واللادينيين والمتغربين في

وسطهم ممن لم يعهد عنهم في يوم من الأيام أدنى اهتمام أو شغل بالهم والفكر

الإسلامي (إلا من حيث الهجوم الدائب على الإسلام) هم الآن الأعلى صوتاً

والأكثر نشاطاً في الدعوة إلى ما يوصف بأنه الاجتهاد الفكري وحتى الفقهي

والإصلاح الديني ... إلخ، وهنا نصل إلى السبب المباشر والجوهري وراء دعوة

تجديد الخطاب الديني كما أطلقتها تلك الدوائر الرسمية من داخل البلد المسلم العربي.

ذلك أن الدوائر الغربية النافذة ورغم تمسكها بتحقيق هدف مسخ وتشويه

الإسلام من خلال التحركات التي ألمحت إليها والتي تمسك بزمامها أدركت أنه لا بد

لضمان تحقيق هذا الهدف على نحو أفضل أن تتولى عناصر من داخل البلدان

الإسلامية نفسها، ويفضل أن تكون من المنتسبين إلى العلم الديني (العلماء

والمشايخ) وتكون لها الصدارة في هذه العملية بعد استقطابها لضمان قدر ولو

ضئيل من المصداقية أمام الجماهير، وحتى لا يقال إن الإسلام قد جرى «تحديثه»

و «إصلاحه» على يد الاستخبارات والشرطة الغربية، أو على يد اللادينيين

والصليبيين وحتى اليهود.

ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك

الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد

في اللغة واللهجة، أم في المضمون؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين؟ وهل هي

تغيير في المصطلح؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم؟) .

خرجت هذه الدعوة معيبة بسبب المناخ الذي أُطلقت فيه ومصدر وأسلوب

طرحها؛ ولذلك شابها الإبهام والتخبط إلى حد أن بعض مروجيها اضطروا للتأكيد

على أنهم لا يقصدون بها إحداث تغيير أو تلاعب في ثوابت الإسلام؛ وكأنهم بذلك

يدفعون تهمة شعروا أنها لا بد موجهة إليهم.

وكان الفاصل في إلقاء الشبهة على هذه الدعوة هو استخدام مصطلح

«الخطاب» الذي يحتمل معاني كثيرة من مجرد الأسلوب اللغوي بمفردات

المعجم وتراكيب الجمل والصور البلاغية ... إلخ إلى مجمل الأفكار والآراء

والتصورات الواردة في فكر فرد أو جماعة أو مذهب أو دعوة ما.

وقد سعى طارحو الفكرة إلى الإبهام بأنما هم يقصدون القسم أو المعنى الأول

دون أن يجرؤوا حتى على القول بأي هدف يريدون تجديد الخطاب الديني؛ لأنهم لا

يجرؤون على الإعلان بأنهم يرمون إلى نشر الدعوة الإسلامية بهذا التجديد؛ لأن

الإسلام مرفوض في عصر العولمة الأمريكية والحملة على «الإرهاب» . لكنهم

في الواقع كانوا يقصدون المعنى الثاني لكلمة «الخطاب» بحيث يعني تجديده

تغييراً شاملاً لمضمون ومحتوى الإسلام. والأدهى من ذلك أن عملية تجديد الخطاب

الديني بهذا المعنى الذي لم يُقَل للجماهير أُوكلت للعلمانيين وغير الثقات ممن

ينتسبون بشكل واهٍ للعلم الديني مما يكمل دائرة الشر في مرمى وسياق هذه الدعوة.


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.