الورقة الأخيرة
حكمة.. وحكمة
د. محمد بن ظافر الشهري
الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والظلم هو وضع الشيء في غير
موضعه، وعلى هذا فهما عدوان ليس بينهما إلا حد السيف، ولكنهما قد يلتقيان إذا
صبغت الحكمة «بالمساحيق الميكافيلية» ولبس الظلم ثوب «الاعتدال» فيكون
نتاج هذا «القِرَان الشاذ» مسخاً، ولابد، فإما «حكمة هجينة» أو «ظلماً
معتدلاً» وفي كل شر! !
لقد كانت الحكمة عند السلف واضحة المواصفات ثابتة المقاييس، لقد كانت «
حكمة أصيلة» أقبلوا عليها دون حاجة إلى تلوينها لكي تصبح «جذابة» أما في « ...
زمن المساحيق» فقد أصبح الإقبال شديداً على «الحكمة المترهلة» لأنها تجيد
الاصطباغ «بألوان الطيف» .
إذا علمنا هذا فلا عجب أن نرى داعية يلعب بالنرد والشطرنج مع «اللاعبين» ، أو يهيم ويغني مع «المغنين» ، أو يكذب ليضحك «الهازلين» ، وهو يزعم ...
في كل هذا أنه يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأنه إنما يريد أن
يحبب الدين إلى قلوب المعرضين، ولن نجادل في اجتهادات هذا النوع من الدعاة،
إذ هي بينة البطلان، ومخالفة للسنة والقرآن، ولكننا نقول: أي دين هذا الذي
يدعون الناس إليه؟ ! إن العجب ليس في وجود المخالفات «فكل ابن آدم خطاء..» ولكن العجب كل العجب أن ينسب الظلم إلى الحكمة واللهو واللعب إلى الدعوة! !
إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يلجأ إلى تلك «الحكمة الهجينة»
يوم أن كان يلاقي ألوان الأذى من صناديد الكفر في مكة، وكان أصحابه مجموعة
من الضعفاء والمساكين يسامون أصناف العذاب، وينكل بهم أمام عينيه، ولكن
الأنبياء لم يؤتوا إلا حكمة «أصيلة» [يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة
فقد أوتي خيراْ كثيراْ وما يذكر إلا أولو الألباب] [١] .
لقد ارتدت الجزيرة العربية في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم
يبق معه إلا قلة بهم من اللأواء ما الله به عليم، فما كانت «الحكمة الهجينة»
لتخطر ببال الصديق أبداً، وهو الذي تلقى دروساً في الحكمة على يدي أحكم الناس
محمد.
وهذا هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، ناله من العذاب ما يُلَيّن الصخر فلم
يلجأ في محنته إلى «الحكمة الفضفاضة» فضلاً عن التي هي شر منها.
لقد كان السلف يتحرجون من ذكر بعض أحاديث الرجاء أمام العامة خشية
الاتكال عليها وترك العمل، وذلك من الحكمة ولا شك، ولكن أرني واحداً منهم
تَقَوّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل بدعوى الحكمة أو الإخلاص
أوما شئت من الدعاوى! ! لقد كان أولئك الأئمة يعرفون حدود الحكمة كما يعرفون
أنفسهم، إنها حكمة قوامها التميز، وعنوانها الوضوح، ودافعها الصدق، وسبيلها
المتابعة.. إنها الحكمة الأصيلة.
(١) سورة البقرة: ٢٦٩.