للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[التقريب بين المذاهب والأديان]

حيلة الأقوياء حلم الضعفاء

أن يتداعى قوم مختلفون في وجهات النظر إلى مؤتمر أو اجتماع ليدلي كل

بوجهة نظره أمام الآخر، ويوضح جوانب من فكره، قد تكون خافية على الآخرين، لتكون صورة الفكر الذي يحمله واضحة أمام الناس لا لبس فيها ولا غموض؛

فهذا لا مانع منه، ولا بأس فيه. حيث إن هذا لا يعدو أن يكون تجلية للحق

المنشود، وإزالة لأوهام قد تعلق في أذهان الآخرين بفعل مؤثرات شتى سابقة.

ولكن الذي ينعم النظر في كنه ما يسمى بدعوات التقريب بين النحل والأديان، ويستبطن حقيقتها سيجد أن هذه الدعوات - إن لم تكن ترمي إلى عكس ما تدعو إليه - فهي على الأقل مشبوهة مدخولة.

وحتى يقام الدليل على هذه الدعوى فلابد من تحليل الأجواء التي تنبعث منها

هذه الدعوات، ومن نظرة في حالة من يدعو إليها، ومن ينتدب للمشاركة فيها،

ومن دراسة جدوى هذه الدعوات سواء في صفوف من تعقد باسمهم؛ أو الجهة ... التي تنظم وتشجع مثل هذه التظاهرات.

لو تتبعنا الظروف والأجواء التي تنشط فيها دعوات التقريب لسهل علينا أن

نرى أن الداعين إليها والذين يرجون قطف ثمرتها يعيشون في " مأزق " وتحيط بهم

(أزمة) ، ويظنون أن دعوتهم قد تخرجهم من هذا المأزق وتنتشلهم من هذه الأزمة. فما هو المأزق عند دعاة التقارب الإسلامي المسيحي مثلاً؟

إن دعوات التقارب والحوار الإسلامي المسيحي كلها تقريبًا نشأت في الجانب

المسيحي، ومع أن هذا الجانب هو الغالب غلبة مادية؛ لكن من السهل إدراك

الأزمة التي يعيشها من يمثلونه، فقد وجدوا أن قرونًا طويلة من الصراع والصدام

مع الإسلام لم تحل مشاكلهم معه، ولم يلمحوا أن حملة العقيدة الإسلامية يمكن أن

يلينوا على العسف والقهر، ولم تبدُ عليهم آثار من تعب المصاولة في حلبات

التذويب أو التشويه، بل يفاجأ هؤلاء - وهم في عنفوان تسلطهم المادي وهيمنتهم -

بالإسلام الذي عملوا على تجريده من كل قوة، وسخروا لحرب أهله كل أنواع

الأسلحة، فنهبوا مقدراتهم، وضربوا وحدتهم، وبثوا بينهم كل سموم العصبيات،

وتجاهلوا ثقافتهم، وأبرزوا عيوبهم، وكبتوا محاسنهم، بل أظهروا محاسنهم في

ثوب العيوب، وضربوا بين شعوبهم وبين الإسلام بالأسداد، على الرغم من

ادعائهم حرية الفكر يفاجئون بهذا الإسلام لا زال حياً له نفس يعلو وجسم يتحرك.

فكيف السبيل وما العمل؟ !

هنا يلبسون جلد الحَمَل، ويقدمون أنفسهم على أنهم يريدون أن يفهموا الإسلام فقد اكتشفوا كثيرًا من النقاط الإيجابية فيه وفي أهله، ومن الخسارة أن تضيع

الجهود في الحروب والصراعات، ولابد من اكتشاف نقاط الالتقاء، وتضييق

الفوارق، فتجوز الخدعة على بعض مفكري المسلمين، فيكتبون البحوث التي غالبًا

ما تكون مملوءة بالنفاق والتشويه والتمييع.

ومما له دلالة يحسن التوقف عندها أن الداعين لمثل هذه الندوات تجمعهم صفة

واحدة وهى خدمة المفاهيم الغربية، فهم إما أن يكونوا من السفراء السابقين في

الدول الإسلامية، أو من الذين يدرسون الإسلام في بعض الجامعات الغربية التي

تقدم خدماتها لوزارات الخارجية هناك، أو من رجال الكنيسة الذين يقومون بمهام

التنصير في البلاد الإسلامية.

أما فيما يتعلق بالجانب الإسلامي فإن الذين ينتدبون للمشاركة غالباً ما يكونون

إما من المفتين الرسميين، أو أصحاب مناصب لها شبهة تعلق بدين الإسلام من

الذين ترسلهم دولهم كي يدفعوا عنها تهمة التعصب والانغلاق، ويبرزوا بالنيابة

عنها وجه الإسلام المتطور!

أما من حيث النظر في نتائج دعوات التقارب وندوات الحوار فإنها لا تؤدي

إلى شيء مما يسمى التقارب أو تضييق شقة الخلاف، ولا تعطي أي نتيجة عملية

على هذا الصعيد، اللهم إلا تحقيق أهداف الأذكياء من الداعين إليها، كجمع

المعلومات عن المسلمين، وتسجيل الشهادات التنازلية التي يقيدونها عندهم كسابقة

يستشهدون بها فيما يستقبلون من أحداث ومشاكل مع المسلمين، فتكون هذه

الشهادات زيادة في رصيدهم الذي يستخدمونه لشق الصفوف وزيادة الهوة بين

إسلاميين: إسلام هو الإسلام، وإسلام آخر متطور يجتهدون في إحلاله محل

الإسلام الشَّموس الذي ضاقت بهم السبل والحيل في تأهيله وترويضه.

وتبقى وراء ذلك الخلافات كما هي، وهذا أمر طبيعي، فالقفز فوق الخلافات

العقائدية لا يحلها ولا يذيبها، وتجاهل قرون متطاولة من العداء والصراع ذر للرماد

في العيون، واستهانة بتاريخ كل من الإسلام والمسيحية، فضلاً عن أنه من

المستحيل التبرؤ من أي تاريخ إلا بالتبرؤ أولاً من العقيدة التي انبثق منها وعنها

ذلك التاريخ.

وقل مثل ذلك في ما يطرح من دعوات لإزالة الخلاف السني- الشيعي، فهي

دعوات كثيرًا ما تنبثق من الجانب الذي يواجه طريقاً مسدودًا، وتهدف إلى تسويق

أصوله لتكون مقبولة عند الطرف الآخر، هذا مع ملاحظة التساهل إلى درجة

السطحية والغفلة - إن لم نقل الغباء - عند من يختارون ناطقين باسم أهل السنة،

والمداورة والإيهام والعناد الذي لا يخفيه لحن القول عند محاوري الشيعة.

على أن المثير فيما يتعلق بالحوار السني - الشيعي هو الجهل المطبق الذي

يلف الداعين إلى ذلك، لا الجهل فيما ينبغي أن يكون عليه تصور المسلم في هذا

العصر، بل الجهل بحقيقة عقيدة الآخر وأسسها، والنظر إلى الخلاف على أنه لا

يعدو خلافًا على قضايا فرعية، أو على أمور أخرى عفّى عليها الزمن، فماذا

عسانا أن نقول فيمن يطرح - كمنطلقات لإزالة الخلاف -ما يلي:

* نحن والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن للتشريع.

*وأنه لا يمكن طرح مسألة الإمامة كمشروع معاصر.

*وأن مشكلة المهدي المنتظر ليست من الأهمية بمكان.

إلى غير ذلك مما يعكس عقيدته وفكره هو، ونظرته إلى سلبيات العقيدة

الأخرى.

كيف يقال إن السنة والشيعة متفقون على أن السنة هي المصدر الثاني

للتشريع؟ أية سنة؟ ! هل يعتد أحد الطرفين بما يسميه الآخر سنة؟ ! وترك

البحث في الخلافات وإثارتها يرضى به أهل السنة، ولكن هل هناك عاقل يظن أن

الشيعة ترضى به؟ إذن؛ لانهار أساس مكين من أسس عقيدتها، فلو وقع ظلم على

شيعي من أي جهة حتى لو كانت يهودية أو مسيحية سرعان ما يتناخى القوم بـ "

يالثارات علي والحسين! " ولا حاجة للقول أن التشيع - كما آل معناه في هذا العصر - يقوم على جملة أركان منها: البراءة واللعن، البراءة ممن، ولعن من؟ !

وكيف يمكن التخلي عن فكرة الإمامة؟ أليست أصلاً من أصول الدين عند

الشيعة تعادل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؟ والمنطق

الإيماني يقول: إن الإيمان بهذه الأمور كل لا يتجزأ، وإن كل الأصول الشيعية

تنبع من مشكلة الإمامة وإليها تعود، وكذلك قضية المهدي المنتظر، لو ترك القوم

الاعتقاد بالمهدي لانهار ركن " الرجعة " وما ينبني عليه ويتفرع منه - وهو كثير-

عندهم..

ليس من مقصود هذه الكلمة أن تستقصي الأصول التي يخالف فيها الشيعة

أهل السنة، ولكن الهدف هو إظهار أن مقولة التقريب أسطورة من الأساطير، لو

أنتجت نتائجها المنطقية لجعلت كل طرف يتخلى عما هو أساسي في عقيدته،

ولتشكل من ذلك فريق ثالث لا هو سني ولا هو شيعي، فهل يمكن تصور وجود

هذا الفريق في المجتمع الإسلامي؟ نعم، إنه فريق " الإلحاد "، وإلا فالمشاهد أن

قضية التقريب بين المذاهب لا تروج إلا في صفوف أهل السنة، نظرًا للكثرة

العددية والانفتاح الذي يعيشون فيه - إن لم نقل التسيب- والتعصب والخوف من

الآخر لم يوجد إلا في صفوف الطوائف الأخرى سواء على صعيدها الشعبي أو

الرسمي. وأمامنا تجارب من الماضي والحاضر على سبيل المثال لا الحصر.

فدار التقريب التي كانت يشرف عليها مرجع إيراني هو العلامة (القمي)

كانت في مصر، في حين أنه لم يكن لهذه الدار ولو فرع واحد في أي جزء من

إيران، وقد يقال، من باب التذاكي والشطارة: إن حكومة إيران على أيام سيء

الذكر الشاه السابق لم تكن إسلامية، ولكن نقول: هل تغير الحال على عهد طيبي

الذكر حكام إيران الحاليين؟ إن الدستور الإيراني منَّ على أهل السنة حين اعترف

بهم وجعلهم على سوية واحدة وفي مرتبة اليهود والنصارى والبهائيين والزرادشتين، هذا في الوقت الذي لا نلحظ فيه هذا التفريق بين المسلمين أنفسهم ولا بينهم وبين

غيرهم في الماضي والحاضر في أي دستور آخر غير الدستور الآنف الذكر. وبعد ...

فإن هذا الكلام لا يتوجه إلى أصحاب الأهواء والأغراض، وإنما يتجه إلى

الذين تسوءهم حال المسلمين وما هم عليه من الفرقة والضعف والتخلف الذي نرى

أن أسبابه ترجع بالدرجة الأولى إلى الجهل بعدة أمور:

* الجهل بحقيقة ما هم عليه من دين، وخلطهم بين الأصل والفرع والواجب

والمسنون.

*الجهل بأعداء هذا الدين وتاريخهم ونفسياتهم ودوافعهم التي تحركهم.

*الجهل بالماضي كيف وقع، وبالحاضر كيف يسير، وعدم القدرة على ربط

كل حدث بالآخر ربط الأسباب بالنتائج، حتى طمع فينا كل طامع، ونعق بين

ظهرانينا كل ناعق.

إن بدعة التقريب والتقارب شأنها شأن البدع جميعًا، تقدم نفسها على أنها

خدمة للحق والحقيقة، وجهد في سبيل الله، ولكنها - علم ذلك مبتدعوها والمدندنون

لها أو لم يعلموا - جهد في سبيل الشيطان.