للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مرتكزات للفهم والعمل

أهمية العلم الشرعي

بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال

الدعوة إلى الله وظيفة مصطفاة في الأساس لأشرف الخلق، وهم الأنبياء

(عليهم الصلاة والسلام) ، الذين تولى الله (سبحانه وتعالى) حفظهم وتنشئتهم..

وحريّ بمن يقتدي بهم في الوظيفة أن يسعى إلى اقتفاء آثارهم، وتحري طريقتهم

في التكوين والنشأة.

والركيزة الأولى في تكوين الداعية إلى الله (تعالى) هي العلم، فهو الذي أمر

الله به نبيه في أول آية أنزلت عليه، والأمر له ولسائر أمته معه، وعلى ضوء

العلم يتم العمل والدعوة.

وكما حرس الله بيضة الإسلام بالمجاهدين: حفظ شريعة الإيمان بالعلماء

والمتعلمين، والجهاد لا يتم على وجهه الحق إلا بالعلم المفصل بالقرآن الكريم،

والسنة النبوية المشرفة، إذن: فالعلم ضرورة شرعية [١] ؛ لأن ما لا يتم الواجب

إلا به فهو واجب، ولأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب

والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا.

ولقد كان من أعظم أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر: الجهل، وقلة

العلماء العاملين، وسوء الخطط في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية،

وضعف الهمم والعزائم في الجد والتحصيل، والتخصصات الجزئية التي أضعفت

العلوم الشرعية، والانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى

التخصصات الشرعية نظرة دونية.

أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم ثلاثة:

١- فرض عين: وهو تعلم ما يتأدى به الواجب العيني.

٢- فرض كفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في أمور دينهم ودنياهم.

٣- مستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي

يحصل به فرض الكفاية.

فضائل العلم وأهله [٢] :

إن تذكرها يبعث الهمم، ويجدد العزائم، ويطرد الكسل، ويعين على الجد،

وقد جاءت بها نصوص كثيرة جدّاً.

فمن فضائل العلم: أنه أول ما خاطب الله به نبيه، فقال: [اقرأ] ، وما

أمره بطلب الزيادة من شيء إلا منه [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] [طه: ١١٤] ، ولا

غرو: فإنه يورث الإيمان، بل لا يكون الإيمان إلا به، وثمرته اليقين، وهو من

علامات الإيمان ودلائل إرادة الله الخير بصاحبه، وهو أجل النعم، فإنه حياة القلب

ونوره، والجهل من صفات أهل النار، والعلم ميراث الأنبياء، وهو خير من

النوافل، فإنه من أعظم الجهاد، وأجلّ العبادات؛ قال: (من جاء مسجدي هذا لم

يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ... ) [٣] .

وهو الحماية من الغفلة، وسبيل النجاة، وطريق الجنة، وهو شرف لصاحبه، ورفعة في الدارين، وهو سبيل الكمال، وطريق البركة، ودوام الأجر، وسبيل

السعادة، وهو كشاف للحقائق، وإمام العمل، وطريق الهداية، ودواء الأمراض

القلبية، وبه ينال صاحبه بركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويستثنى من

اللعنة، وتضع له الملائكة أجنحتها، ويُباهي به الله ملائكته.

ومن فضائل أهله: أن الله استشهدهم على توحيده، فزكاهم وعدّلهم، ونفى

التسوية بينهم وبين غيرهم، فإن الجاهل بمنزلة الأعمى، وأولو العلم هم أهل الذكر، الذين يظهر لهم الحق، وهو آيات بينات في صدورهم، فاستحقوا رفعة الدرجات

في الدارين [يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] ... [المجادلة: ١١] ؛ فهم أهل الخشية، والمنتفعون بضرب الله الأمثال، وعدول الأمة.

أما آثاره على الأمم فهي متمثلة في: الإيمان بالله (تعالى) ، ومعرفته حق

المعرفة، واجتناب المنكرات، والقيام بحقوق كل ذي حق، والسعادة النفسية،

وتحكيم شريعة الله.

مقارنة بين العلم والمال:

العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.

العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.

العلم يزداد بالبذل والعطاء، والمال تذهبه النفقات عدا الصدقة.

العلم يرافق صاحبه حتى في قبره، والمال يفارقه بعد موته، إلا ما كان من

صدقة جارية.

المال يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، أما العلم النافع فلا يحصل إلا

للمؤمن.

العالِم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم

والفاقة والحاجة.

المال يعبِّد صاحبه للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.

العالم قَدْرُه وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله.

الغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.

آثار الجهل على الأمم:

إن الأمة التي ترضى بالجهل، وتتقاعس عن العلم تدفع الثمن غالياً،

والضريبة مضاعفة، ومن آثار الجهل التي شهدت بها السنن الكونية، وسطرها

التاريخ على مستوى الفرد، أو المجتمع: انتشار البدع والضلالات في العقائد

والعبادات والمعاملات، وضعف الإيمان، وقلة التقوى، وازدياد المعاصي،

وضعف الهيبة أمام الأعداء، وتقييد الأمة بأغلال التخلف في جميع المجالات،

وكثرة المشكلات الأسرية، والخمول والكسل، وضعف الهمم، والقصور عن

إدراك المعالي.. وهي نتائج حتمية للجهل.

وشتان بين هذه، وبين ما جعله الله جزاءً حسناً عاجلاً في الدنيا لمن يتعلمون

العلم ويعملون به، الذين يحصِّلون الإيمان بالله (تعالى) ، ومعرفته حق المعرفة،

فتقل فيهم المنكرات، ويحصل القيام بحقوق كل ذي حق، وتُحكّم شريعة الله،

وبذلك تُجتلب السعادة.

الأسباب المعينة على طلب العلم (وسائل التعلم) :

١- تقوى الله: قال الله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ

فُرْقَاناً ... ] [الأنفال: ٢٩] .

٢- كثرة الاستغفار والتوبة والدعاء، والانطراح بين يدي الله (تعالى) ،

وسؤاله العلم النافع والعلم الصالح.

٣- ذكر الموت والآخرة، ليعين على شغل الوقت بالنافع.

٤- المحافظة على الأوقات، وحسن ترتيبها، والحرص على استغلالها،

بحيث يُعطى كل ذي حق حقه، بدون غلو ولا جفاء، وهذا شرط لا يحصل العلم

بدونه.

٥- ترك الفضول من الكلام والسماع والنظر والخلطة والمنام، والاقتصار

على ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة من ذلك.

٦- الإكثار من قراءة ما ورد في العلم وفضل أهله، وحال السلف في طلبهم

للعلم.

٧- مخالطة من هم أكثر علماً وفهماً؛ لئلا يقنع الطالب بما حصّل من علم،

فيحرص على الاستزادة، وليتجنب العُجْب والغرور.

٨- سلوك الوسائل المباشرة للتعلم، مثل:

ملازمة العلماء والمشايخ في المساجد والبيوت، والتلقي عنهم، والتعلم في

المدارس، والمعاهد، والجامعات، والقراءة مع الزملاء والأصدقاء وطلاب العلم،

وكثرة الاطلاع، والقراءات الخاصة المنتقاة المرتبة، وإعداد البحوث الدقيقة،

والاستماع إلى الأشرطة النافعة.

بعض صفات طالب العلم وآدابه:

الإخلاص لله (تعالى) ، قال رسول الله: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه

الله (عز وجل) لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عُرْف الجنة يوم

القيامة) [٤] ، يعني ريحها.

الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر، فإن العلم جهاد لا شهوة.

التواضع والحذر من الكبر والغرور.

التفرغ للعلم والإقبال عليه، بشرط التوازن وعدم الإخلال بالواجبات الأخرى

توقير العلماء وإكرامهم والتأدب معهم، وحفظ مكانتهم، وتوقير مجالسهم،

وحسن السؤال والإصغاء.

البعد عن الجدال والمراء العقيم.

حسن المظهر وجمال الهيئة.

واجبات طالب العلم:

إن المسؤولية عظيمة، والواجب كبير، ومما يجب على طالب العلم: الورع، والتقوى، والعمل بالعلم، والحرص على نشر العلم وتبليغه مع الحذر من الفتوى

بغير علم، والدعوة إلى الله على بصيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،

والقدوة الصالحة، والاستمرار في طلب العلم حتى الممات، والجرأة في الحق،

والوعي الكامل الشامل بواقع الأمة، ومعرفة سبيل المجرمين.

إن الانخراط في سلك العلم الشرعي يعني أن صاحبه وقف نفسه لله، ونذر

وقته لخالقه، يتعلم ليعمل ويعلِّم ويدعو ويصلح، وإذا لم يقم طالب العلم بواجبه فمن

سيقوم به؟ ! ، ويكفي أن نعلم أنه لو قام عدد كاف من طلاب العلم بواجبهم لما

كانت الأمة بهذا المستوى، فإلى الله المشتكى.

اقتضاء العلم العمل [٥] :

وهو بيت القصيد، والذي يجب التركيز عليه والاهتمام به؛ وذلك لما نرى

من كثرة المتعلمين، وقلة العاملين، ولما نشاهد من إعجاب كثير من طلاب العلم

بألقابهم ونسيانهم لرسالتهم في أمتهم ومجتمعاتهم؛ حيث لم يدركوا خطورة إهمالهم

لأمر الله (تعالى) ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأيضاً: لما نلحظ من القصور

الواضح في مناهج التعليم، وبخاصة الفصل الواضح بين العلم والعمل، والأمة إنما

تحتاج في الحقيقة إلى العلماء المؤثرين العاملين، الآمرين بالمعروف والناهين عن

المنكر.

إن العلم لا قيمة له بدون العمل، ولذا: تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة

وكذا أقوال السلف مؤكدة وجوب ربط العلم بالعمل، ومحذرة من الفصل بينهما: كم

نقرأ في كل يوم قول الله (تعالى) : [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ] ... [الفاتحة: ٧] ، قال العلماء: المغضوب عليهم: هم الذين لم يعملوا بعلمهم، ويدخل فيهم اليهود بهذا الوصف، والضالون: هم الذين يعملون على جهل وضلال، ومنهم النصارى، فهل فهمنا المقصود؟ !

وقال (تعالى) : [أََتَاًمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أََنفُسَكُمْ وَأََنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ

أََفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة: ٤٤] ، وقال: (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه

حتى يسأل عن خمس) ... وذكر منها: (.. وماذا عمل فيما علم) [٦] ، وكان -

صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من علم لا ينفع [٧] .

وقال أبو هريرة: (مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله) ، وقال عمر: (لا يغرركم من قرأ القرآن، ولكن انظروا من يعمل به) ، وقال

سهيل بن عبد الله: (الدنيا جهل وموات، إلا العلم، والعلم كله حجة، إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به) .

من آفات طالب العلم:

وهي آفات مهلكة، أو مضيعة للعلم، أو مسببة لعدم الانتفاع به، ومنها:

١- المعاصي، وهي آفة الآفات؛ لأن العلم هو ما ورث الخشية، قال

(تعالى) : [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: ٢٨] ، والمعاصي تناقض

الخشية.

٢- الكبر والغرور، وهو من أسرع الآفات إلى طلبة العلم، والمتعلمين.

٣- المراءاة والمخاصمة والجدل.

٤- كتم العلم، وهو يؤدي إلى نسيانه وذهابه، وكذا: عدم التورع في إطلاق

الفتوى، والقول بلا علم.

٥- الانشغال بالدنيا، وكثرة الفضول.

٦- المداهنة في دين الله، والسكوت عن إظهار الحق، وعلى إنكار الباطل.

٧- النسيان، ويكون علاجه: بالمذاكرة، وبذل العلم، وترك أسباب ذهابه،

كالمعاصي وغيرها.

ملحوظات وتنبيهات:

- ينبغي ألا يدفعنا الحديث عن العلم إلى الانقطاع له انقطاعاً يشل حركة بقية

جوانب العمل الأخرى، بل لا بد من الشمول والتوازن؛ لأن التخلي عن الدعوة

والعمل بحجة طلب العلم خطأ وانحراف، فالواجب: تزامن الأمرين؛ فإن الفصل

بين العلم والعمل تفريط وشطط.

فالأمة: كما أنها تحتاج العلماء، فإنها تحتاج الدعاة والمجاهدين، وتحتاج

كذلك أن يكون هناك متخصصون في العلوم التجريبية بشتى فروعها، ولكن ينبغي

ألا ينسى كل هؤلاء حظ أنفسهم من العلم الشرعي الواجب، والاستزادة قدر الإمكان

من القدر المستحب.

- أيضاً لا بد من الشمول والتوازن في طلب العلم، فيأخذ طالب العلم من كل

علم بقدر، ولا مانع بعد ذلك أن يتخصص في علم من العلوم الشرعية بهذا الشرط، وهو أن يكون على صلة وثيقة ببقية التخصصات الأخرى.

نسأل الله (عز وجل) أن يوفقنا إلى العلم النافع والعمل الصالح.


(١) انظر رسالة بهذا العنوان، د ناصر العمر.
(٢) انظر تفصيلها في مفتاح دار السعادة، لابن القيم، ج١، ص ٤٨ ١٥٧.
(٣) رواه ابن ماجة، ح/٢٢٧، وانظر صحيح سنن ابن ماجة، ح/١٨٦.
(٤) أخرجه أبو داود، ح/٣٦٦٤، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ ٣١١٢.
(٥) للخطيب البغدادي رسالة بهذا العنوان.
(٦) أخرجه الترمذي، ح/٢٤١٦، وانظر صحيح الجامع، ح/٧٢٩٩.
(٧) أخرجه مسلم، ح/٢٧٢٢.