للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

ما أحوجنا إلى الإخلاص

بقلم: همّام بن عبد الحكيم

طلب مني أخ لي أن أبحث له عن نسخة لمخطوط يريد تقديمه في أطروحة

علمية، فبحثت له في المكتبات العامة، والمراكز والمؤسسات العلمية، فعثرت

على نسخة منه - بخط المؤلف - في حوزة باحث يعمل في مؤسسة علمية، لم

يسبق لي به لقاء من قبل، فطلبت منه أن أنظر فيها فأبدى استعداده على الفور،

وقال: سأحضرها لك لتأخذ نسخة منها، وأعطاني بعض المعلومات المهمة المتصلة

بالمخطوط، أخذت النسخة ولا أكاد أصدق؛ لشدة فرحي أولاً بالحصول عليها،

ولعجبي ثانياً من كون ذلك بلا مقابل، على كثرة ما أسمع من متاجرة الكثيرين

بالمخطوطات، وما يتصل بها.

ولا تسل عن فرحة الباحث بما أرسلت إليه، وقد سألني عما إذا كان صاحب

المخطوط يريد مقابلاً ماليًّا - أيا كان - فقلت: لا أظن ذلك؛ فلم ألمس منه تشوفاً

لذلك، ويكفي أنه تكلف إحضارها فور طلبي لها - رغم أنه لا يعرفني -، وكان

يكفيه نفي وجودها في المكتبة. قال صاحبي: حاول تلمس رغبته في ذلك لعله

يريد شيئاً؛ فقد قدم لنا خدمة عظيمة.

عدت إلى صاحب المخطوط، وعرفته بنفسي - حيث قد نسيني -

وعرضت عليه الأمر، وليتني لم أفعل! لقد غدا جسمي يشتعل حرارة - والجو

بارد - وذلك مما لحقني من حرج بالغ. لقد وجدت نفساً سامية، وهمّاً ... ... فوق ظني.

لقد طأطأ صاحبنا رأسه منزعجاً خَجِلاً على استحياء، قائلاً: (لا أريد أن

أقول لك كما قلت لرجل قبلك قال لي مثل قولك فأسمعته كلاماً جارحاً) ... فكان وقع

كلامه هذا علي أشد من الكلام الجارح، وحاولت الاعتذار، بيد أنه لم يدع لي

فرصة، لقد التفت إليّ قائلاً: (إلى متى يا أخي نطلب الدنيا بعمل الآخرة؟ ! .. لقد

كان الأولى بك أن تعرض عن مثل هذا الكلام، لا سيما وأنني لم ألمح لك من قريب

ولا بعيد بما عرضت، ويكفيك أني لم أعرفك لأول وهلة لما أتيتني الآن، مما يبين

لك أني نسيت الموضوع أصلاً، ولا أكتمك أني كنت مهتمًا بخدمة المخطوط

وتحقيقه، لكني تركت ذلك مؤثراً هذا الأخ الباحث) ! ! فارتفع في عيني.

وقال: (أنا أعلم أن دأب الكثيرين أنه لا يبذل لك في قليل ولا كثير حتى

يحقق له ذلك ربحاً ماديًا، لذا: فلا تعجب من قلة البركة في كلامنا وكتاباتنا، لقد

كان كلام السلف قليلاً لكن الله بارك فيه ببركة إخلاصهم لله (تعالى) .

قلت: يا أخي هون عليك، فوالله إن في نفسي لمثل الذي في نفسك ... وإني

لأغتم مما أرى في واقعنا، ولا تعجب إذا رأيت ما تقذف به المطابع كل يوم ...

لكن النافع منه قليل، ولا غرو فالتجارة في الكتب مربحة، وليس هذا اتهاماً للنيات

- معاذ الله - فإن الأمة فيها مخلصون، لا يبتغون بعلمهم قليلاً ولا كثيراً، وليس

ببعيد عنا من كان يطبع كتبه (النافعة) على نفقته ويوزعها مجاناً! ومن يرفض أخذ

نسخة واحدة من كتاب له، فضلاً عن استلامه مبلغاً من المال.

وذكرني ذلك بما كتبه علماء الأمة الأوائل، وخلفوه في قراطيس متواضعة،

فهيأ الله من يقوم لها: يحققها وينشرها ليعم نفعها، وصار طلاب العلم عالة عليها،

وأبقى الله لها الذكر الحسن، وفاقت في شهرتها ونفعها كثيراً مما كتب في بابها،

أمثال: رياض الصالحين، وتفسير ابن كثير، والعقيدة الطحاوية، والأربعين

النووية، وفتح الباري ... وكذا علوم الأئمة الأربعة واجتهاداتهم، [فَأَمَّا الزَّبَدُ

فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] [الرعد: ١٧] فما أحوجنا إلى

إخلاص النية، وتجريد القصد.