أدب وتاريخ
موقع الأدب
في الثقافة الإسلامية المعاصرة
منصور الأحمد
لقد كان الأدب، وما زال، المرآة التي تعكس تفكير المجتمع، وتشير إلى
مكامن الضعف والقوة في ثقافته وحضارته، وكذلك كان الأدب هو المبشر
بإرهاصات النهضة لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم.
ولقد تنبهت الشعوب - على ضوء تقدم الدراسات في مختلف المجالات - لما
للأدب من أثر فعال في صياغة وتوجيه الأفكار، وإحلال قيم وأفكار جديدة محل
أخرى قديمة، فاستخدم الأدب من أجل ذلك أكبر استخدام، وتوسل أصحاب الأفكار
والعقائد به، للوصول إلى عقول الجماهير من الناس من أقرب طريق وأسهله.
وإذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخنا الأدبي، وجدنا أن الإسلام يوم جاء كان
للعرب حياتهم الاجتماعية الخاصة، وكانت لهم قيمهم الأدبية التي ترتكز على الفخر
بالأمجاد الشخصية أو القبلية، وإن كانت مجانبة للحق والعدل، وعلى الإشادة
ببعض العادات المرذولة كشرب الخمر ولعب الميسر، فلما دخل العرب في الدين
الجديد؛ حدث في حياتهم وأدبهم انقلاب شامل، وشعروا برحابة العالم، وبُعد
الأهداف التي قدمها الإسلام إليهم، وأدركوا أنهم أمناء على تقديم هذه الرسالة للناس
كافة، وأنهم خرجوا من جزيرتهم ليحرروا الناس جميعاً من العبودية لغير الله،
وليزيلوا العراقيل - أيا كانت - من طريق البشرية حتى تحس ببشريتها وتشعر
بتكريم الله لها حين خلقها:
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] [الأنفال: ٤٢] .
ولسنا نريد من إشارتنا إلى بعض عادات العرب التي ذمها الإسلام، كاعتداء
القوي علي الضعيف، وشرب الخمر، ووأد البنات، أن نجردهم من كل فضيلة،
ونقع في ما وقع فيه الشعوبيون الذين دفعهم كرههم لعنصر العربي - لحاجات في
نفوسهم - أن نسبوا إليه كل مثلبة، وجردوه من كل منقبة، بل إننا نرى أن الله
ادخر فضله لهذه الأمة بأن جعلها أمينة على الرسالة الخاتمة، عندما لم يكن غيرها
من الأمم أهلاً لذلك.
وهكذا، اندفع العرب بالإسلام، وقدموا للعالم قيماً جديدة خالدة، تمثلت في
قيم العدل، والحرية، والسماحة، والبعد عن التكلف، والتواضع، الإنصاف من
أنفسهم، وحملوا معهم البيان الخالد الذي حفظ لهم لغتهم ووحدتهم، وأمدهم بعناصر
الحياة لهذه القيم العظيمة، فتأثر أدبهم من شعر ونثر وخطابة، بهذا البيان، واستمد
منه عناصر العظمة والخلود المتمثلة بنصاعة التعبير وقوة التأثير.
وإن المتأمل بإنتاج مشاهير الأدب العربي في عصوره الزاهرة من شعراء
وكتاب وخطباء، يتلمس بكل وضوح أثر القرآن الكريم وأثر الإسلام في أدبهم.
إن الأدب شأنه شأن الأمم، يقوى ويزدهر إذا قويت، ويضعف ويجمد إذا
انحطت وضعفت، وذلك لأنه انعكاس لذاكرة الأمة ينشط بنشاطها ويتراجع
بتراجعها.
وقد مرت الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل - بفترات ضعف خضعت
فيها للكثير من المؤثرات الغريبة عنها، وانعكس ذلك على أدبها، وكما كانت هذه
الأمة بما تدخر في كيانها من رصيد، وما تحمله من خميرة كامنة في ذاتها، تصد
اندفاع الهجمات الخارجية، وتتخلص من عدوان المغيرين، وتسلط الطغاة
والطامعين، فكذلك كان أدبها صورة معبرة عن آمالها وأهدافها.
وفي عصر النهضة الأدبية الحديثة، وجدنا أن الذين قامت على أكتافهم هذه
النهضة قد اتخذوا المصادر الإسلامية الأصيلة منطلقاً لهم، فجاء أدبهم امتداداً
للعصور الزاهرة للأدب، يبشر بعودة الأمة إلى تراثها وأصالتها بعد أن ابتعدت
عنها وجمدت نتيجة لمؤثرات كثيرة لا مجال لبسطها.
ولكن سيطرة المستعمرين الغربيين، وما أعقب ذلك من محاولاتهم الدؤوبة
للقضاء على عناصر القوة في كيان هذه الأمة والمتمثل في عقيدتها الإسلامية،
جعلهم يستنبتون عناصر تدين لهم بالولاء، وترتبط مصالحها بمصالحهم، بعيداً عن
آمال أمتها وتاريخها فدرس هؤلاء ثقافة الغرب الغازي، وأورثهم ذلك احتقار
تاريخهم، بالإضافة إلى كثير من نصارى العرب الذين يرتبطون مع هذا الغازي
برباط العقيدة، فوجدوا أن مما يقوي سيطرتهم على المسلمين أن يعملوا على
إضعاف الثقافة الإسلامية.
وهكذا لم يلبث جحافل المستعمرين أن تجلو عن أكثر ديار المسلمين، ولكنها
لم تخرج إلا بعد أن ائتمنت على تطبيق خططها وأفكارها هؤلاء الذين رعتهم
وربتهم وربطت مثيرها بهم، فأحلوا - بالقوة - أفكار الغرب وتقاليده وثقافته محل
الثقافة الإسلامية، فأهملوا النقاط المضيئة من التاريخ الإسلامي، وضخموا
الجوانب السلبية منه، وشوهوا حقائقه، ونسفوا التشريعات الإسلامية وأحلوا محلها
قوانين الغرب الكافر وتشريعاته الوثنية، وفصلوا الأدب عن العقيدة، وابتعدوا به
عن الأخلاق تحت شعارات براقة حيناً كمقولة الفن للفن.
وتحت أمثال هذه الذريعة وجدنا أن الذين أوكل إليهم وضع مناهج الأدب،
وأعيرت لهم منابر الكتابة يتعمدون طمس كثير من الآثار الأدبية الإسلامية،
ويتجاهلون كثيراً من الأسماء التي كانت تصدر في أدبها عن مبدئية إسلامية
واضحة، في الوقت الذي يبرزون فيه كل ما شذ من الأدب قديماً وحديثاً، فيلمّعون
أدب الشهوة والجنس باسم (الواقعية) ويشيدون بالتمرد والشذوذ عن العقائد والأخلاق
باسم التطور والتجديد، وإذا ما نبغ شاعر أو كاتب يسب عقيدة الأمة ويتطاول على
مقدساتها ويتبرأ من تاريخها ويقذف قيمها وتراثها، وينسلخ عن أهدافها، فهو
عندهم الذي تفتح له المغاليق، ويحوز قصب السبق فتفتح له صدور الصحف
والمجلات، وتتسابق فيما بينها للظفر منه بالتحليلات والمقابلات، وتنقل تنطعاته
وحذلقاته موجات الأثير عبر الإذاعات.
وهكذا أعقب خروج الاستعمار العسكري من البلاد الإسلامية انتكاسة في أدب
هذه الأقطار، وذوبان في ثقافة المستعمر وقيمه وتقاليده، وشيوع للبدع الأدبية التي
تتخبط فيها الحضارة الحديثة مثل: (الوجودية) و (الواقعية) ...
وفي هذا الوقت الذي تردت فيه أوضاعنا إلى ما نلاحظه من تفرق وتمزق،
وتعددت فيه مشاربنا من غبر ومن شرق، وكدنا ننسى ما يربطنا بتراثنا وعقيدتنا،
مطلوب من المسلمين - وقد لاحت بوادر رجوعهم إلى دينهم - أن يحلوا أدبهم ما
يليق به من مكانه وأن يسدوا الفراغ الهائل الذي نتج عن شيوع كل ما هو غير
إسلامي من صنوف التعبير والكتابة ومخاطبة الجماهير وذلك لأن الأدب الذي يعبر
عن ذاتية هذه الجماهير أدب فقير مجدب. وأن الأدب المجرد من العقيدة التي
اختلطت بدم معتنقيها، وتخللت ما بين مشاعرهم وعواطفهم لا يجد له استجابة،
ولا يحرك أحداً، بل هو أدب هجين لا تكتب له الحياة.
لقد آن الأوان أن يؤخذ زمام المبادرة من المفسدين في الأرض، ويطرح
للناس أدب يعبر عن تطلعات الشخصية الإسلامية، ويشبع شوقها إلى نماذج نظيفة
من الأدب الذي يقودها في الأوقات العصيبة.
إننا نطرح - عبر هذه المجلة - الدعوة لكل من يأنس من نفسه القدرة على
أن يضيف شيئاً في مجال الإبداع الأدبي، وسوف نعمل - بإذن الله - على تشجيع
كل المواهب الشابة التي تُزوى عنها صفحات المجلات والصحف العلمانية،
مرحبين بكل الأنواع الأدبية من شعر ونثر وقصة، رائدنا في ذلك أن يكون هؤلاء
الكتاب كما وصفهم الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: (مختارات من أدب العرب) :
(كتاباً مؤمنين.. ملكتهم فكرة أو عقيدة، أو يكتبون لأنفسهم أو إجابة لنداء
ضميرهم وعقيدتهم، مندفعين منبعثين، فتشمل مواهبهم ويفيض خاطرهم،
ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني، وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتابتهم في نفوس
قرائها، لأنها خرجت من قبل فلا تستقر إلا في قلب) .