[مع القراء]
وصلتنا رسائل أكثرها شفهية، يظهر القراء فيها تعاطفهم مع المجلة ومنهجها
ولكنهم يأخذون عليها أن في بعض المقالات شدة على المخالف ويعتبرون هذا مخالفاً
لمنهج الحكمة مثل ما كتبه الأستاذ عبد القادر حامد في نقده لكتاب البوطي (السلفية) ، أو ما كتبه الأستاذ محمد عبد الله آل شاكر حول بعض دور النشر وطريقة
إخراجها لكتب التراث، أو حول منهج التحقيق لهذه الكتب. ولهؤلاء الإخوة نورد
مقتطفات مما كتبه الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم الوزير من علماء القرن التاسع
الهجري حول مناهج اللين والشدة في المراسلات والمحاورات، يقول في كتابه
(العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) في معرض حديثه عن الطريقة
الوعظية مع الناس:
(وهي نوعان التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب، ولكل منهما مكان يليق به، وحال يصلح له، ومن ثَم اختلف السمع في ذلك، ففي موضع يقول:
[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً] [طه: ٤٤] ، [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ] [آل عمران: ١٥٩] ، وفي موضع: [وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] [التوبة: ١٢٣] ، [وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] [النساء: ٦٣] ، [قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ] [القصص: ١٨] ، ومن ثم مدح المؤمنين بالذلة في موضع، وبالعزة في موضع.
أما النوع الأول: وهو نوع التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحق
بالملاطفة، وضرب الأمثال، وحسن الخلق، ولين القول وحسن التصرف في
جذب القلوب، وتمييل النفوس. وهذا النوع أشهر من أن يبين بمثال.
وأما النوع الثاني: وهو نوع التخويف والترهيب وهو الدعاء إلى الحق بذكر
الزواجر، وكشف غطاء المداهنة مع المخاطَب. وقد ورد ذلك وروداً كثيراً، في
السنة النبوية، والآثار الصحابية ... بل ورد في كتاب الله - تعالى - قال الله -
سبحانه - حاكياً عن كليمه موسى - عليه السلام -: [فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفاً
يَتَرَقَّبُ فَإذَا الَذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مَوَسَى إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ]
[القصص: ١٨] ، ومن ذلك قول يوسف لإخوته: [أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً] [يوسف:
٧٧] لما نسبوه إلى السرقة.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي
ذر - رضي الله عنه -: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» رواه البخاري. ومن ذلك
الحديث: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك،
فإن المساجد لم تُبنَ لهذا» رواه مسلم عن أبي هريرة. وروى مسلم أيضاً عن
بريدة: أن رجلاً نشد في المسجد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: «لا
وجدت» رواه مسلم. ومنه الحديث: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك» رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: حديث
حسن. وهذه الأخبار عامة في ناشد الضالة، والبائع، والمبتاع كائناً من كان.
وقد ذكر النووي فصلاً في كتاب (الأذكار) ، في أنه يجوز للآمر بالمعروف
والناهي عن المنكر، وكل مؤدِّب - أن يقول لمن يخاطبه في ذلك: ويلك، ويا
ضعيف الحال، ويا قليل النظر لنفسه، أو يا ظالم نفسه، وأورد في ذلك أحاديث.
منها: حديث عدي بن حاتم، الثابت في صحيح مسلم: أن رجلاً خطب عند
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن
يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس الخطيب
أنت، قل: ومن يعصِ الله ورسوله» .
وروى فيه حديث جابر بن عبد الله: أن عبداً لحاطب جاء يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله ليدخلنَّ حاطب النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية» رواه مسلم في الصحيح.
وذكر فيه قوله - عليه السلام - لصاحب البدنة: «ويلك اركبها» رواه
البخاري. وقوله - عليه السلام - لذي الخويصرة: «ويلك فمَن يعدل إن لم
أعدل؟ !» رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
وما رُوي من قول علي لابن عباس - رضي الله عنهما -: إنك امرؤ تائه -
حين راجعه في المتعة.
ومن الآثار في ذلك: أثر عبد الرحمن بن أبي بكر. وفيه أن أباه ضيَّف
جماعة، وأجلسهم في منزله، وانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فتأخر رجوعه. فقال: أعشيتموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن،
فقال: يا غُنْثَرُ، فجدَّع وسبَّ. وفي هذا المعنى أخبار كثيرة، وآثار واسعة لا
سبيل إلى استقصائها.
وهذا النوع أقسام: منه ما يقع مع أهل المعاصي، ويتضمن الذم لهم،
والدعاء عليهم. وهذا القسم لا يكون في هذا الجواب منه شيء - إن شاء الله
تعالى - لأن هذا الجواب خطاب لأهل العلم والمراتب الشريفة.
ومنه ما يكون مع أهل العلم والفضل، ولكن على سبيل التأديب، مثل قوله -
صلى الله عليه وسلم -لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . وقول علي لابن
عباس: (إنك امرؤ تائه) رواه النسائي.
ومنه ما يكون على جهة التنبيه - لأهل الفضل والعلم - بقوارع الكلام
الموقظة - على سبيل الحدة في الموجدة والموعظة.
واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطاً أربعة:
شرطين في الإباحة، وهما: أن لا يكون المزجور محقاً في قوله أو فعله،
وأن لا يكون الزاجر كاذباً في قوله، فلا يقول لمن ارتكب مكروهاً: يا عاصي،
ولا لمن ارتكب ذنباً لا يعلم كِبَرَهُ: يا فاسق، ولا لصاحب الفسق - من المسلمين -
يا كافر، ونحو ذلك.
وشرطين في الندب، وهما: أن يظن المتكلم أن الشدة أقرب إلى قبول
الخصم للحق، أو إلى وضوح الدليل عليه، وأن يفعل ذلك بنية صحيحة، ولا
يفعله لمجرد داعية الطبيعة.