للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

ما كل ما يعلم يقال.. وفي الدعوة أيضاً

سليمان الخضير

يصادف القارئ أثناء اطلاعه على بعض الكتابات التي تصف واقع المسلمين

أو تقومه مقاطع وفقرات قد صيغت بأسلوب يجمع بينها أنها تحمل في صريح

عباراتها آهات وزفرات أفرزتها غَيْرةٌ وحرقة فيما نظن لكنها تحكي من وراء

مجموعها نفسية قاتمة وتصوراً كالحاً للحال الذي يعيشه المسلمون، وربما تزيد

الظلامية النفسية في بعضها فيعطي المتحدث أو الواعظ أو الكاتب وصفاً باستحالة

التغيير، وأنه ضرب من إضاعة الوقت، وخير له أن يُقْبِلَ على خاصة نفسه.

والحديث لا يدور في صحة فحوى تلك العبارات، ولا على الباعث عليها،

ولا هل كان أصحابها ذوي نفسيات تشاؤمية؟ وإنما الكلام من خلال قاعدة مشهورة

هي أن (ما كل ما يعلم يقال) ؛ فلقد جربنا تحذير الناس عن طريق التألم على

الواقع، وتعداد حالات الانحراف المرير، وسردنا لهم أمثلة على تفاهة اهتمامات

الشباب، وإسفنجية المرأة.. وأخطاء الصحوة.

ولكن هل الناس مع اختلاف نفسياتهم وتباين طباعهم يؤثر فيهم هذا الأسلوب

المفرد؟ وهل مجموع الناس على الصفة المذكورة؟

فهل يسعنا أن نجرب بالإضافة إلى طريقة التحذير أسلوب إبراز الجانب

المشرق في واقع الناس من خلال إعلان النماذج الرائعة في التسابق للخيرات من

غير المتدينين والتصريح بإكبار الشباب لعلماء الشريعة وإجلالهم في نفوسهم، وذكر

الأفكار التربوية التي تفتقت عنها تجارب ربات البيوت، ومدى إقبال الفتيات

والأمهات على مدارس تحفيظ القرآن الكريم النسائية، ونتائج الدراسات الميدانية

الإيجابية لواقع الناشئة والفتيان؟

قد يكون الوصف المشين لواقعٍ مَّا صحيحاً، ولكن التصريح به دائماً وربما

تعميمه يلقي في النفوس شعوراً بالإحباط، ولعل هذا مما يشمله مفهوم حديث رسول

الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم»

على رواية فتح الكاف، أي تسبب في هلاكهم بإشعارهم بالهلاك من خلال وصفهم

به [١] ، على نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه: «إنك إن

اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم» [٢] . قال في فتح الودود: أي إذا

بحثت عن معايبهم وجاهرتهم بذلك فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم منك، فيجترئون على

ارتكاب أمثالها مجاهرة [٣] ، ربما كان سبباً في إعطاء بعض من لديه ميل للشر

جرأة على المنكر؛ ولذا حرم الله سبحانه الحديث في من وقع في الزنا، إلا من

قامت عنده البينة (أربعة شهود بشروط) ؛ لما في الخوض في ذلك من إشاعة

الفاحشة [٤] قال الله تعالى: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ

عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن

نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم

مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ

الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]

(النور: ١٥-١٩) ، وهذا عند ذكر الحالات الفردية؛ فكيف إذا كان وصفاً

عاماً؟ إنه حينئذ يتيح فرصة لمن كان يقلقه فعله المعصية أن يهدِّئ روعه؛ فهو كما

يتصور من التعميم يرى المجتمع على مثل حاله! ! وقد قال عثمان رضي الله عنه:

ودَّت الفاجرة (أي الزانية) لو أن أهل المدينة كلهم زنوا.

وفي المقابل فإن بعض النفوس لا تتحمل الوقوف أمام الخطر وحدها؛ وتشعر

في الوقت نفسه أنها المكلفة بإزالته أو تغييره ولا يمكنها ذلك، فتصادق اليأس وتلوذ

بالسلبية.

لقد كان أحد أسباب وقوع الناس في المعصية وغلبة الغفلة عليهم عدم

الإحساس بالمسؤولية، وضعف الشعور بالانتماء للإسلام من خلال الفهم المخطئ

للانتماء للإسلام: أنه لا يكون إلا بالاتباع المحض، والتدين الصادق، فصاروا

ينظرون لأنفسهم نظرة تقويم سلبية تدفعهم لـ (اللامبالاة) بالأحكام الشرعية؛

باعتبار وقوعهم في المعصية وخروجهم عن الإسلام الصحيح مع احتفاظهم بالاسم

وحين تذكر لبعضهم الجوانب المشرقة في نفسه، والمواقف الإسلامية التي تُحفَظ له،

ومشاعره الصادقة تجاه الدين وأهله: حينذاك تشرق نفسه وينفتح لها أفق جديد قد

لا يتغير في ظاهره شيء ولكن حسبنا أن وثَّقنا الإسلام في قلبه؛ فهو خير لنا من

أن ننخذع بظاهرٍ باطنه خواء، أو نخسر مسلماً فهم الانتماء للإسلام خطأ!

إنه مع وجود مظاهر الخلل والانحراف الواقعة في مجتمعات المسلمين اليوم فإن

جوهر الإسلام ولله الحمد باق ما يزال نابضاً في الحياة الاجتماعية الإسلامية إلى حد

كبير؛ فجذوة العقيدة حية في النفوس علاها الرماد بتأثير المعاصي والمنكرات

والبدع والخلط في بعض المفاهيم ك (العبادة، والإسلام) ، والانصراف عن القوة

في أخذ الدين والجدية في التربية، ولكنها حية تنتظر من ينفخ عنها الرماد لتشتعل

من جديد، وبخاصة عندما تهدد الإسلام قوى خارجية أو داخلية، وبتعبير أدق:

عندما ينجح الدعاة في إشعار جماهير المسلمين بوجود الخطر على الإسلام [٥] ،

وأن كل فرد منهم عليه أن يساهم في رد هذا الخطر؛ فجوهر الإسلام باق ما يزال

نابضاً في نفوسهم وكثير من أنماط حياتهم.

ولعلي لا أعد عدم التفات من لم يلتفت من الدعاة إلى هذا الملحظ

(إبراز الجانب المشرق) أو عدم توفيته ما يناسبه من اهتمام لا أعده مشكلة حينما

تكون القناعة به راسخة في الأذهان؛ فهو على غرار جملة من المبادئ

والمسائل والاهتمامات في طريقها للتنفيذ، تختفي لبعض الوقت لتخلف القدرة

عليها تارة، وتقدير عدم ملاءمة الزمان والمكان تارة أخرى!

إنما غاية الإشكال والحرج في عدم قناعة بعض الدعاة بوجود جانب مشرق

فضلاً عن جوانب في المجتمع، وإنما الواقع في نظره أكوام من المنكرات تتكدس

شيئاً فشيئاً؛ فتستحيل براكين يترقب ثوراتها في أي لحظة، ومثل صاحب هذا

الرأي بحاجة إلى أن يقف على نتائج دراسات صادقة، وبشائر لا تخلو منها

المجتمعات الإسلامية بحمد الله وتقديم الدلائل على أن بعض الأمور قد تكون في

ظاهرها شراً أو يغلب عليها الشر لكن فيها مصلحة خفية لا تلبث أن تربو وتنمو،

فتزهر خيراً كثيراً، وتثمر فجراً جديداً.

وحينما يؤكد على ضرورة إظهار الجانب المشرق للمجتمع ينبغي لنا مراعاة

أمور منها:

١ - أن ما تقدم لا يفهم منه المناداة بترك جانب التحذير بالكلية، وإغفال

إيضاح أبعاد الشر، وتقدير تبعاته لو استمر الحال؛ فهذا الفهم انتقال من طرف إلى

طرف، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

٢ - إن إظهار الجانب الإيجابي ينبغي ألاَّ يكون مديحاً صرفاً يكال بالمكيال،

وإنما يوظف لنفض ما قد علق ببعض النفوس من اليأس والانهزامية، وأن يكون

منضبطاً متزن الطرح؛ فإنه قد يترتب على التوسع فيه ركون الناس إلى هذا

المديح والإخلاد إليه، فيعمل فيهم عمل المسكر: نشوة ولا عمل!

٣ - أن حاجة الناس إلى البرامج العملية التي تصحح واقعهم في أنفسهم

ومجتمعهم لا تقل عن حاجتهم لتقويم الواقع وتصحيحه، وإبراز مواطن الشر فيه،

وتحديد نقاط الضعف التي تتخلله، ومداخل العدو إليه، كما لا تقل عن حاجتهم إلى

زرع الثقة فيهم، وإقناعهم بطاقاتهم ومواهبهم وتوظيفها توظيفاً شرعياً.

وهم بحاجة كذلك إلى قيادات تقدم لهم تلك البرامج العملية، وتتقدمهم فيها،

وتشاركهم تنفيذها.

٤ - تتعرض المفاهيم لأكثر من سبب إلى عوامل تعرية (أو تغطية) مما

يستوجب مداومة مراجعتها مع الناس، وعقد المقارنات مع معان أخر مظنة وقوع

الخلط بينها، وتأصيلها تأصيلاً شرعياً، وتنبيه الناس إلى دقائق من شأنها لفت

انتباههم إلى ما هو أبعد منها وأعمق؛ فإن من الخطر لبس الحق بالباطل، وتصور

الأشياء على غير وجهها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «المرء ما لم

يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة» [٦] .

٥ - وحين لا نرغب في ذكر جوانب كلية مشرقة في حياة عامة الناس أو

نجهلها فهل نملك أن نقدم لهم نماذج مفردة من واقعهم في التغيير؟ ! نحو:

- أخبار التائبين من المسلمين والكفار، على أن تكون تلك الأخبار والقصص

جامعة بين تنوعها في طبقات الناس وتخصصاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، وبين

بعدها عن المثالية في السرد والصياغة!

- أخبار من تفوَّق بعد إخفاق، أو شارك في الإصلاح بعد انطواء وعزلة، أو

كان ثمرة تربية عالم أو مربٍّ، أو نشأ في بيئة غير ملائمة واستدرك زمانه واغتنم

ما بقي من عمره؛ فقد أعاقتنا جُمَل مثل: «كان نابغاً في صغره» «ظهرت

علامات النجابة فيه منذ نعومة أظفاره» «حفظ القرآن ولم يناهز الحلم» «مات

ولم يخلف بعده مثله» «نشأ في بيت علم وصلاح» .

- أخبار المشاركين في مسيرة الإصلاح ولو بالقليل فكان له أثر ملموس.

والله ولي التوفيق.


(١) انظر تفصيل معنى (قول الرجل: هلك الناس) في شرح النووي على مسلم: (١٦/١٧٥) فهو مهم، على أن النووي رحمه الله نقل عن الحميدي أن رواية الرفع أشهر والله أعلم.
(٢) رواه أبو داود، ح/٤٢٤٤.
(٣) عون المعبود: (١٣/٢٣٣) ، (أو كدت إلخ) شك من الراوي.
(٤) انظر مجموع الفتاوى: (١٥/٣٣٣ ٣٣٥) ، (١٤/٢٠٩، ٢١٠) .
(٥) انظر: الغارة على التراث الإسلامي: (١٠، ١٠٨) وواقعنا المعاصر (١٣٨) .
(٦) مجموع الفتاوى: (١٠/٣٦٨) .