للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

يريدوننا غنماً.. هم رعاتها.. وهيهات

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

[email protected]

«سنوفر لكم الطعام والشراب والدواء. ستنعمون بعائدات نفطكم. ستكونون

أحراراً في بلادكم. ستكون هنالك ديمقراطية......» .

هذا الذي يبشر به أئمة الاحتلال شعب العراق، ومن ورائه كل شعب عربي

وغير عربي يريدون تسخيره لما يسمونه بمصلحتهم الوطنية.

ما العيب قد يقال في أن ينعم الناس بالطعام والشراب والكساء والدواء؟ لا

عيب إلا إذا كان هذا على حساب كرامتهم. وقديماً قال الشاعر في بيت عده بعضهم

أهجى بيت في الشعر العربي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي

فأئمة البغي والاحتلال يريدون لشعب العراق ولكل شعب عربي أن يكون

قطيعاً من الغنم يأكل ويشرب ويداوى؛ لكنه لا يحمل عصا ولا يصد عدواً. إنما

الذي يحمل العصا هو سيده؛ فبها يهش عليه ويسخِّره، وبها يحد له الحمى الذي لا

يتجاوزه. في حدود هذا الحمى تتمتع الغنم بحرية الأكل والشرب والثغاء والنزو

والتوالد. نعم! سيترك لها راعيها شيئاً من حليبها لترضع به أولادها وليصرف منه

على طعامها وشرابها، وليأخذ سيدها النصيب الأكبر منه ليصرفه على طعامه هو

وشرابه وسائر ملذاته، بل وسلاحه الذي به يسوقها ويستعبدها.

ربما صدق المحتلون في توفير ما وعدوا بتوفيره، وربما زادوا عليه

فاستجلبوا للعراق كل ما في بلادهم من أنواع الملذات: أسواق كبرى يعرض فيها

كل ما أنتجته مصانعهم، وشركات لكل أنواع السيارات وسائر المراكب، دور

سينما، حانات ومراقص ونواد ليلية، قنوات لكل أنواع اللهو من أفلام قذرة وأغان

خليعة ودعايات رخيصة وتسويق للفكر الغربي والحضارة الغربية. لكن الذي لن

يفعلوه، والذي عدوه خطيئة صدام الكبرى هو أن تكون بلادهم قادرة على أن

تتطور صناعياً ولا سيما في مجال الأسلحة. إنهم لا يريدون أن تخلو العراق ويخلو

كل بلد عربي وغير غربي مما أسموه بأسلحة الدمار الشامل، بل إنهم لحريصون

أن يخلو حتى من المقدرة على إنتاج السلاح مدمراً تدميراً شاملاً او غير شامل.

ولكي يخلو من هذه المقدرة فلا بد أن يخلو من العلماء الذين يملكون هذه المقدرة.

سيخلو العراق كما سترون من هؤلاء العلماء، ربما بقتل بعضهم أو سجنه، ولكن

يقيناً بإغراء آخرين بالمال الوفير لكي يهاجروا إلى أرض (محرريهم) ويشاركوا

في صناعة الأسلحة لهم، كما فعلوا مع كثير من علماء الاتحاد السوفييتي.

لماذا اختاروا أرض العراق ليجعلوا من شعبها أول قطيع من أغنامهم (أهم

أول قطيع؟) ؟ اختاروها أولاً؛ لأنها أرض لبون لا بقاء لهم بغير حليبها. وهذا

أمر قد أصبح من البدهيات؛ فلا نقضي فيه وقتاً. وأما ثانياً فلأن في حكمها ضعفاً

يجعل ذريعة استعباده باسم التحرر ذريعة مقبولة لشعبهم ولمن هو على شاكلتهم من

غير شعبهم. لا زلت أذكر منظراً شاهدته على التلفاز آلمني رغم أن الضحية فيه

كانت حيواناً. رأيت وحشاً يشتد جرياً وراء قطيع من الغزلان، وهي تعدو منه

هرباً؛ لكنه رأى في إحداها عرجاً أبطأ من جريها فركز عليها وترك بقية القطيع

حتى أدركها فقتلها ومزقها. وقد كان في النظام العراقي عرج بيِّن كان هو السبب

الأساس في سرعة انهياره. كان نظاماً مبنياً على جرف هار، هو شخص صدام؛

فلما انهار الجرف انهار البناء كله. إن الأمة التي ترضى لنفسها أن تكون قطيعاً من

الأنعام يسوقه واحد منها، لا تستعصي على أن يكون سائقها واحداً من غيرها.

ومعاذ الله أن يكون شعب العراق كله كذلك. لكن داء هذه التبعية أصاب الجميع،

من كان راضياً به ومن لم يكن راضياً. فأول درس ينبغي لنا أن نعيه هو أن لا

نكون قطيعاً ولا شبه قطيع لواحد منا. إنه لا بد لكل مجتمع، مسلماً كان أو كافراً،

ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي، لا بد له من ولاة أمر يكونون مسؤولين عن

إدارة شؤونه. لكن أن يكون الواحد منا مسؤولاً عن إدارة شؤوننا شيء، وأن يجعل

منا قطعاناً يقضى أمرها وهي غائبة شيء آخر. هذا درس جعله ربنا أصلاً من

أصول ديننا. فنحن لا نحكم برأي فلان وعلان وإن كثر عددهم، وإنما نحكم بكتاب

ربنا الذي يخضع له حاكمنا كما نخضع له نحن المحكومين. وحاكمنا الذي يحكمنا

بكتاب ربنا لا يستبد بالأمر من دوننا؛ لأن صفة التشاور في أمورنا من الخصائص

المميزة لنا لا يكتمل بغيرها إسلامنا، مثلها في ذلك مثل الإيمان بالله والتوكل عليه

وغيرها من الصفات التي تبينها الآية الكريمة: [فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ

الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ

كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا

الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ

يَنتَصِرُونَ] (الشورى: ٣٦-٣٩) .

تذكرت وأنا أشاهد على التلفاز كثرة صور الرئيس صدام وتماثيله، وأنا أسمع

الناس يهتفون في كل مكان: بالروح بالدم نفديك يا صدام، تذكرت قول الله تعالى

لرسوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ] (الزمر: ٣٠) . ومع

أنه لا دين إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه: [مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ

أَطَاعَ اللَّهَ] (النساء: ٨٠) ، ومع أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت

ضرورية لتربية جيل كالذي رباه، ومع أن حياة المسلمين بعده لم تكن مثلها في

حياته، إلا أن الله سبحانه أراد أن يعلِّم المؤمنين أن كل هذا لا يعني ارتباط الدين

بحياته صلى الله عليه وسلم. ولم يكتف سبحانه بتقرير حقيقة موت الرسول هذه،

بل أكدها بدرس عملي؛ وذلك أنه شاع يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل،

بل إن أحد المشركين واسمه ابن قميئة بشَّر إخوانه الكفار بأنه هو الذي قتله، وإنما

كان في الحقيقة قد ضربه فشجه. فلما شاع هذا الخبر الأليم ضعف بعض المسلمين،

فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ

خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ

فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: ١٤٤) .

وكل فَقْدٍ بعد فَقْدِ الرسول صلى الله عليه وسلم يهون، ويمضي المسلمون في

طريقهم يتقون ربهم حق تقاته ما استطاعوا. بهذا ينبغي أن يُذكَّر الناس، وعليه

ينبغي أن يربوا، فلا يربطوا تمسكهم بدينهم وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة ربهم

بموت أحد ولا حياته، بل عليهم أن يسدوا كل الذرائع المؤدية إلى تعلق الدين بحياة

الأشخاص مهما عظموا علماً وورعاً، أو حكماً عدلاً، أو شجاعة وبسالة.

وإنه لمن مقتضيات تمسكنا بديننا، وكوننا أمة ذات رسالة، أن نكون أمة

قوية مرهوبة الجانب، لا نأكل ونتمتع كما تأكل الأنعام، ولا نكون غنماً تهش عليها

وتوجهها أنى شاءت عصا الكافرين. لكن القوة المادية لها ثمن ينبغي أن نكون

مستعدين لدفعه. يجب أن نربى على التضحية بكثير من الملذات، بل يجب أن

نتربى على الاقتناع بالكفاف، ثم نرصد ما تبقى من دخلنا القومي للأخذ بأسباب

القوة المادية، من تأهيل علمي ولا سيما للنابغين من أبنائنا، ومن طَرْق لأبواب

الصناعة الثقيلة، ولا سيما صناعة الأسلحة. كيف تدافع عن نفسك، أم كيف لا

تكون فتنة لعدوك، وأنت تعتمد عليه في أسلحتك التي بها تدافع عن نفسك؟ هذه

هي الخطوة الأولى للسير في طريق القوة: عزمة نجتمع عليها حكاماً ومحكومين.

أما تفاصيلها وكيفية تحقيقها، فيترك للمختصين منا، ولن تعجزنا بإذن الله تعالى.

ومن سار على الدرب وصل.

لكن ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أننا نريد أن نفعل كل هذا باعتبارنا مسلمين.

وعليه فكما نسعى لامتلاك القوة المادية، فعلينا أن نجتهد في امتلاك القوة المعنوية:

قوة العلم بالدين الحق، والاستمساك به، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر. فهذا هو سر قوتنا، وسبب دوام بقائنا، فإننا بفضل الله أمة لا تموت:

كتابها محفوظ ذكراً، لا حفظاً متحفياً، ذكراً بحفظ لغته، وحفظ سنة نبيه، وحفظ

العلماء العارفين به، المجددين له، الداعين إليه، المجاهدين في سبيله. أما الأمم

الكافرة فإنها تنتفش وتنتفش ثم لا تلبث أن تُخرق وتسقط مهما كان لها من قوة مادية،

تخرقها وتسقطها ما ترتكب من فواحش وظلم واعتداء، وما يملأ صدورها من

غرور وحمية الجاهلية: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ

يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *

الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ

رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: ٦-١٤) .


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.