للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقالات مترجمة

السياسة الخارجية الأمريكية

والحملة ضد الإسلام [*]

ترجمة: د. حامد عبد الماجد

جاء في الدورية:

مع انتهاء الحرب الباردة تغيرت طبيعة السياسة الخارجية الأمريكية؛ فقد

أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة، وأصبح في الإمكان أن

تتدخل حيثما ووقتما تريد، وحسبما تفرض مصالحها الداخلية فقط.

وقد أصبحت قضية القوى الدولية الجديدة الصاعدة التي يحتمل أن تشكل

تهديداً في المستقبل للسيطرة الأمريكية - أصبحت أكثر ما يهم صانعي السياسة

الأمريكية (اليابان، والنمور الآسيوية، الصين، العالم الإسلامي ... إلخ) .

والحلفاء الأوربيون لم يعودوا بحاجة الآن إلى المظلة الأمريكية النووية، ومن

ثم فلن ينقادوا للإرادة الأمريكية كما كان الأمر - نسبياً - من قبل؛ وفي هذا الصدد

أصبحت التجارة على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية.

انقلاب في التعامل مع الإسلام:

ما حدث مؤخراً يمثل نقلة نوعية في التعامل الأمريكي مع الإسلام؛ ففي

معظم فترات الحرب الباردة كان المسلمون حلفاءنا؛ فالأنظمة الإسلامية بطبيعتها

كانت تعادي الشيوعية الملحدة، وقد استغلت الولايات المتحدة تلك المسألة خاصة

في أفغانستان؛ حيث تلقَّى المجاهدون ما يقرب من ثلاثة بلايين من الدولارات من

المخابرات الأمريكية الـ (سي. آي. إيه) ، وذلك في جهادهم لطرد الروس،

وصار مقاتلو الحرية هؤلاء بمثابة الأبطال في الإعلام الأمريكي لدرجة أن هذا

التحالف غير الرسمي بين المجاهدين والإدارة الأمريكية أدى إلى تجاوز وتغيير

الموجة المعادية لإيران التي انتشرت عقب إسقاط الشاه واحتجاز الرهائن ... ! !

فما الذي حدث الآن؟

كيف يصور الإعلام الأمريكي الإسلام على أنه متطرف وغير ديموقراطي

ومعادٍ للغرب؟

يقضي المنطق أنه ما دام المسلمون يمثلون خُمس سكان العالم فيجب أن

تحرص الإدارة الأمريكية على إيجاد علاقات طيبة مع بلاد المسلمين من إندونيسيا

إلى المغرب.

غير أن ما يحدث هو عكس ذلك؛ فنرى حملة موجهة ضد حركات الصحوة

الإسلامية في البلاد الإسلامية - ويتم إغفال الفروق الموضوعية بينها - ويركز

على النبوءة القديمة الراسخة في الوعي الغربي وهي حتمية الصراع بين الإسلام -

الذي يستيقظ - وبين الغرب.

وبصدد الوقائع والأحداث فمن المتصور أن تتعامل الأجهزة المناط بها تنفيذ

القانون مع العنف ضد الأبرياء على أنه عمل إجرامي ولا دخل لديانة المجرم في

القضية؛ فلنتذكر أن المسيحية لم تصبح هي المدانة في حادثة الانتحار الجماعي

حرقاً في واكو بولاية تكساس، أو في حادثة التفجير بمدينة أوكلاهوما، واليهودية

لم تصبح هي القضية حينما قتل جولد شتاين ٢٩ مصلياً فلسطينياً في الحرم

الإبراهيمي، وعليه فلا ينبغي أن يصبح الإسلام هو القضية عندما يرتكب مسلمون

أعمال عنف.

عملياً فإن للمعتقدات الشخصية تأثيراً باعتبارها عاملاً في إطار بقية العوامل

التي تشكل الدافع لأي فعل من هذا القبيل.

الواقع أنه بمجرد تلاشي الحرب الباردة تغيرت صورة الإسلام لدى بعض

الكتاب الذين شكلوا فيما مضى فرسان الكتابة في الحرب الباردة، فقد أبدى صامويل

هنتنجتون في مقالته الشهيرة عن صدام الحضارات تفهماً لفكرة ضرورة تكيف

الغرب مع حضارات تختلف معه في القيم والمصالح؛ ولكن تكيفه كان من باب

الإعداد للصراع من خلال التأكيد على المخالفة والاعتماد على التفوق العسكري

الأمريكي خاصة في بلدان شرق وجنوب غرب آسيا (قلب الإسلام) ، وتختلف رؤية

صامويل هنتنجتون - مع رؤية المفكر الإسلامي المعروف د. حسن الترابي الذي

يرى أن الذين يتمتعون بالمكاسب والمزايا في ظل النظام العالمي الحالي سواء من

خلال: التقنية، التسليح، العلاقات الاقتصادية، الأمم المتحدة ... إلخ سيرون أن

الإسلام يمثل تحدياً لهم؛ لأنه يسعى إلى العدل، كما أن المسلمين لن يقبلوا أن

يتشكل العالم في قالب واحد وشكل واحد للديمقراطية والنظام الاقتصادي ... إلخ،

فلمصلحة الإنسانية يجب أن نسمح بمزيد من التعددية، والحرية، والتنوع، ومن

خلال الحوار والتفاعل نسعى لتحقيق أقصى درجة من الاتساق والتعايش.

جذور الحملة المعادية للإسلام:

إن هؤلاء القادة والرؤساء والزعماء الذين يشعرون بأنهم في بلدانهم مهددون

من قِبَلِ شعبية الحركات الإسلامية المدنية في الجزائر وتونس ومصر و (إسرائيل)

هم الذين يشجعون بشدة الاتجاه الأمريكي نحو فكرة التهديد الإسلامي أو الأصولي.

فالنظام الجزائري يواجه أكبر التهديدات وأعمقها منذ قام بإلغاء أول انتخابات

حرة عام ١٩٩٢م للحيلولة دون وصول جبهة الإنقاذ إلى السلطة، أما الديمقراطيات

الغربية فقد تقبلت هذا العمل الصارخ بصمت وربما بتشجيع من طرف خفي،

وكانت النتيجة أكبر حرب أهلية دامية في التاريخ العربي الحديث قتل فيها ما يزيد

عن ثلاثين ألفاً من أبناء الجزائر، وما زال مسلسل القتل مستمراً.

وقد اشتركت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مع بعض الدول العربية في

حربهم ضد الأصولية الإسلامية عامة؛ ووصف حاييم بارام من القدس موقف

الزعماء اليهود عام ١٩٩٤م قائلاً:

(إن الإسلام هو العدو الذي نخشاه ونحترمه في آن معاً) وخطتنا الدعائية

هي إظهار وحشية المسلمين (وهو المنطلق نفسه الذي كان يستخدم ضد القوميين

والوطنيين الفلسطينيين، وكان بنيامين نتنياهو زعيم كتلة الليكود يقوم بالتجوال في

أرجاء العالم لكي ينشر هذه الفكرة التي مفادها بالنسبة له أن عرفات لم يعد خطراً أو

مهمّاً؛ فالمشكلة الحقيقية هي في المد الإسلامي الثوري الذي يجد جذوره في إيران،

وهي سياسة متناقضة؛ إذ إن زعيم الليكود نفسه كان يرى عرفات - وإلى وقت

قريب - باعتباره التهديد الأساس الذي تواجهه إسرائيل؛ بل والعالم الغربي كله.

ولكن زعيم الليكود وجد خطاً لربط أو إيجاد صلة بين القديم والجديد في العداء؛ فعرفات الآن غير ذي أهمية؛ لأن الإسلاميين سوف يستولون على السلطة

ويحكمون الشعب الفلسطيني، ولذا فإن أية تنازلات على الأرض غير مجدية،

والأكثر طرافة فإن إيران هي الشيطان الأكبر الذي يستطيع أن يهدد الغرب بقنابله

النووية.

أما سورية ولبنان فسوف تشهدان ثورة إسلامية قريباً، وبذا سيكفان عن

مداهنة الأمريكان، والنتيجة لكل ذلك أن (إسرائيل) سوف تستعيد وضعها الأساس

والأصلي باعتبارها الركيزة الاستراتيجية للغرب في المنطقة، وعليه فإن الضغوط

عليها لتقديم التنازلات الإقليمية والتوافق مع جيرانها سوف تتضاءل، وعدد

الإسرائيليين المستعدين لقبول وتصديق هذا الهراء غير معقول.

وللأسف فإن رابين ومن بعده بيريز كانا يتبنيان هذه الطريقة في التفكير.

إن منطق (القادة الإسرائيليين) هو أن الخطر الإسلامي يوازي خطر الشيوعية

أثناء الحرب الباردة وأن إيران تمثل التهديد نفسه الذي كانت تمثله موسكو من قبل.

الحملة في أمريكا: The Camaign in America

يشير زخم الحملة ضد الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني اللوبي

اليهودي لوجهة نظر القيادة الإسرائيلية بصدد الموضوع؛ فالحملة واسعة النطاق

موجهة للرأي العام الأمريكي ولصناع القرار الأمريكيين أيضاً، والأمثلة كثيرة.

يقول موريتمر زاكرمان رئيس تحرير مجلة الأخبار الأمريكية والنشرة

العالمية US. Nes World Reort متبنياً الفكرة نفسها: (إن التطرف

الإسلامي المسلح على وشك أن يحل محل الشيوعية عدواً لنا، فالقِيَم التي يحتويها

تناهض الأساس الذي تقوم عليه الديموقراطية الغربية) .

ويستغل فرجاس بوردويتش أعمال العنف الدائرة في إطار الحرب الأهلية

بالجزائر ليثبت فكرته الأساسية عن الأصولية الإسلامية في مقالته في مجلة

Readr ص s Digest والمسماة الجهاد قادم إلينا A holy ar heads or ay

ويعتمد في إثبات رأيه على اثنين من أقوى مؤيدي إسرائيل في أمريكا وهما روبرت

ساتلوف الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى

السياسية، ودانيل بابيبس المدير السابق لمعهد أبحاث السياسة الخارجية بفيلاديلفيا

يقول بابيبس: (الأصوليون ليسوا بأي حال مسلمين تقليديين عاديين، والمتطرفون

ليسوا مجرد مجرمين لكنهم عقديون متحمسون، وعندما يحسون بأنهم مقبولون أو

شركاء في العملية السياسية فسوف يفصلون بين الجناح السياسي والجناح العسكري

لديهم، وبذلك يستطيعون استنكار أعمال العنف التي تقوم بها فصائلهم السرية) .

- يقول عاموس بيرلموتر Amos erlmter أستاذ العلوم السياسية بالجامعة

الأمريكية ومحرر مجلة الدراسات الاستراتيجية في كتاب له صدر ١٩٩٥م:

(لا تمثل مرحلة ما بعد الحرب الباردة نظاماً عالمياً جديداً، بل هي عالم

يمتلئ بالقوميين المتطرفين الانفصاليين؛ فإن الأيديولوجية الفاشية والنازية التي

سادت في الثلاثينات لها ما يوازيها من بعض الجوانب في الأصولية الإسلامية؛

فهي حركة شمولية معادية للغرب تأمل في أن تلقن الصليبيين الجدد دروساً لا تنسى

، وليست مصادفة أن تكون مناطق الأزمات الدائمة والمشتعلة وبؤر التوتر في العالم

هي نفسها مناطق الأصوليين دعاة الوحدة والخلافة الإسلامية، والغرب لن يسمح

باستبدال شمولية بأخرى: النموذج السوفييتي بالنموذج الإسلامي) .

وقد صور ستيفن إيمرسون في برنامجه حول (الجهاد في أمريكا) والذي ركز

على حادثة تفجير مركز التجارة العالمي على أنه بالرغم من أن المتطرفين المسلمين

ليسوا إلا أقلية ضمن غالبية المسلمين إلا أن الناقد التلفزيوني (والترجودمان) أظهر

أهدافه في إدانة الجميع عندما قال: إنه حتى المنظمات الإسلامية المحترمة المعتدلة

لها علاقة ما بجماعات العنف، وقد رفض المسلمون في أنحاء أمريكا تصوير

برنامج عن الإسلام يبرز هذا التصور الدموي ورفعت قضايا أمام المحاكم عليه.

وقد صرح فيليب ويلكوكس المسؤول عن قسم مقاومة الإرهاب في المباحث

الفيدرالية الأمريكية ١٩٩٥م بقوله: (بالرغم من الاتصالات غير الرسمية بين قادة

الجماعات الإسلامية؛ حيث يجد قادتها المقيمون في الخارج الملجأ الآمن

والإمكانيات الضخمة، إلا أنه ليس هناك دليل مادي قوي على وجود شبكة أو تنظيم

دولي بين تلك الجماعات، ولم تعط تحريات الأجهزة المنوط بها المراقبة وتنفيذ

القانون دليلاً لزعم إيمرسون بوجود شبكة من الخلايا (الجماعات الإسلامية في

أمريكا) .

وفي مقالة مطولة كرر إيمرسون في ١٢-٦-١٩٩٥م أفكاره السابقة نفسها بأن

الجماعات الإسلامية المتطرفة أنشأت بنية وهياكل سياسية ومالية، وفي بعض

الأحيان علمية في الولايات المتحدة، وأن الـ FBT يعتبر تلك الشبكة من أولوياته، ولكن مصادر معلومات إيمرسون مشكوك فيها وغير جديرة بالثقة، وقد اتضح

تصميم إيمرسون في نشر مقولاته حينما ظهر على شاشة التلفاز الأمريكي أثناء

انفجار أوكلاهوما في ١٩-٤-١٩٩٥م والذي ظهر فيما بعد أن الذي قام به

أمريكيون من اليمين الأمريكي وكان مصمماً على أن المتطرفين الإسلاميين وراء

الحادث، ومما قاله في هذا الصدد:

(إن انفجار أوكلاهوما له العلامات المميزة نفسها التي كانت لانفجار بيونس

أيرس، والمركز التجاري العالمي؛ فقد كانت سيارة ملغومة المقصود منها قتل أكبر

عدد من الناس؛ وهذا النوع من العمليات لم تعرفه أمريكا قبل فترة الإرهاب

الإسلامي، ولكن الحقيقة أن بعض الجماعات الإسلامية تحرك هذه الأحداث من

وراء ستار، ويجب أن يزج بهم في معتقلات التعذيب.

وقد تسببت تلك العبارات غير المسؤولة بلا شك في المضايقات التي تعرض

لها المسلمون الأمريكيون فيما تلا هذا الحادث) .

وعلى صعيد آخر كتب ليزلي جيلب في النيويورك تايمز معبراً عن تعاطفه

مع آراء محادثيه الإسرائيليين رابي ديفيد هارتمان، وبيهوشفات حركبي بأن:

(الإسلام لا يعترف بالتعايش مبدأً؛ فالتعايش يتنافى مع مفهوم الإسلام للنظام

العالمي) .

وهناك كتَّاب آخرون يعتمدون على الحكومات شرق الأوسطية ويهتمون دائماً

بها خاصة: إيران والسودان، ومنهم (ستيفن هولمز) فقد كتب من واشنطن عن

كيفية تحول علاقات القوى نتيجة للأصولية في الشرق الأوسط مكرراً موضوع

معسكرات التدريب العسكري التي تقوم بها إيران على أرض السودان إلى جانب

العلاقات العسكرية والاقتصادية السودانية الإيرانية؛ ولكنه لم يعط أي دليل على

أقواله، أو أي سبب يجعل التعاون بين دولتين متقاربتي التفكير شيئاً مثيراً للتساؤل.

وهناك عديد من الصحفيين يتبنون بغير نقد الرؤية الرسمية الأمريكية في أن

الدول العاصية أو الشاذة تصدر الثورة التي لا يحددونها أبداً، وعادة ما يتجاهلون

الاستفزازات الإسرائيلية وما تفعله الأنظمة العربية الحاكمة مع شعوبها، كما أنهم لا

يستمعون إلى الطرف الآخر من زعماء الحركات الإسلامية؛ فإن بعضهم - نتيجة

تعليمه ولغته - لا يستطيع التعامل معهم، وحتى في بعض الحالات عندما حاورَتْ

(جوديث ميللر) حسن الترابي وغيره فإنها ارتكبت خطأ التعميم إذ قالت: (تقريباً

كل الإسلاميين أنصار للعنف، ويعارضون الديموقراطية والتعددية وكلهم سيظلون

معادين للغرب ولأمريكا ولإسرائيل) . وأضافت في تعبير متعالٍ ينم عن استعلاء

ثقافي: (إن فكرة الدولة الإسلامية كما يعتنقها معظم مؤيديها لا تنسجم مع القيم

والحقائق التي عتبرها الأمريكان ومعظم الغربيين حقائق مسلَّمة ولا تحتاج لإثبات؛

لأنها واضحة بذاتها) .

وتخلُص ميللر إلى نتيجة وهي: (أن أي حوار أمريكي مع تلك القوى

الإسلامية يعتبر مضيعة للوقت) .

ومن أبرز دور الفكر التي ساهمت في إذكاء المقولات عن الخطر الإسلامي

دار الميراث المحافظ في مدينة واشنطن التي نوقش فيها في ٢١-٦-١٩٩٤م

موضوع الخطر الإسلامي على شمال إفريقيا، وكان ضمن المتحدثين: خالد

ديوران زميل دانئييل بابيس، وستيفن إيمرسون الذي ساعده ديوران، وقد اقترح

بابيس الذي يرفض الحوار مع الأصوليين المعتدلين منهم والمتطرفين على السواء،

اقترح أربعة نصائح للسياسة الأمريكية لمقاومة الخطر الأحمر الجديد هي:

أ - مواجهة الأصوليين.

ب - الضغط على إيران والسودان للتخفيف من سياستهما المتطرفة.

ج - مساندة الحكومات التي تتصدى للأصولية في المنطقة مثل حكومة

الجزائر وغيرها.

وقد شبه بابيس ذلك الصراع بالحرب الباردة قائلاً: إن اليمين الأمريكي هو

الذي كسب الحرب الباردة بوقوفه في وجه الاتحاد السوفييتي، وهو يستطيع القيام

بالشيء نفسه بالنسبة للإسلام.

ومن الواضح أن بابيس لم يوضح كيفية تساوي النظام السوفييتي الاستبدادي

مع الحركات الإسلامية المعارضة لأنظمة حاكمة موغلة في استبداديتها.

وعلى أي حال فإن موقفه لا يختلف كثيراً عن موقف مارتين شيرمان المفكر

السياسي الإسرائيلي الذي كتب قائلاً: (إن الحرب العالمية الثقافية التي تدور بين

الإسلام والليبرالية الغربية هي المعركة ذاتها التي كانت تدور ضد الشيوعية

والنازية) .

وهناك بعض المفارقات المثيرة عن الروابط بين هؤلاء الأفراد والجماعات

بعضهم ببعض؛ فقد صرح إيمرسون ستيفن للواشنطن بوست أنه قد حصل على

جزء كبير من الـ ٣٢٥٠٠٠ دولار لتمويل فيلم الجهاد في أمريكا Jihad in

America في مؤسسة برادلي في ميلوكي. ويذكر روبرت كابلان في مقدمة كتابه

عن العرب - وهو كتاب عن خصائص الشرق الأوسط مسانداً (إسرائيل) -: أن

الكتاب لم يكن ليطبع لولا المساعدة التي قدمتها مؤسسة برادلي، وتمت إدارة تلك

الأموال عن طريق معهد بحوث السياسة الخارجية التابع لدانييل بابيس.

وتتضح الأمور أكثر إذا علمنا أن مجلة هذا الأخير والتي تصدر ربع سنوية

والمسماة Middle East Qartoly يقوم القناصلة الإسرائيليون بتوزيعها بالمجان. ...

أما الأصوات الأكثر إقناعاً والتي تعارض التعميمات والتبسيط الزائد فهي

أصوات الأكاديميين الذين يدرسون جوانب عدة في الإسلام، ويضم هؤلاء العالم

الفرنسي فرانسوا بورجا الذي يقول: الإسلاميون ليسوا أكثر من أناس يربطون

الإسلام بالحوار السياسي، ومن هنا فإننا نفهم الآراء ابتداءاً من الفاشي حتى

التحرري المتطرف.

ويؤكد علماء أمريكيون من جامعات شتى أن عدم التفرقة بين الحركات

الإسلامية المختلفة وتنميط المسلمين بتصويرهم على أنهم متطرفون يميلون إلى

العنف سيقوي المتطرفين على حساب الأغلبية المسلمة المعتدلة والمسؤولة.

إلى جانب ذلك فإن الأخطاء في توصيل وتمثيل حقيقة الحركات الإسلامية

تجعل قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على وضع سياسة خارجية بناءة عملية معقدة، ومما يثبت ذلك تصريحات بعض الزعماء البارزين مثل (نيوث جنجريتش) R.

G. A الذي حث الولايات المتحدة الأمريكية على تبني سياسة متسقة لمقاومة

الاستبداد الإسلامي! ! (ومثل السكرتير العام لحلف الناتو (ويللي كلايس) الذي

يزعم أن الأصولية الآن تمثل الخطر نفسه الذي كانت تمثله الشيوعية من قبل) .

التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية:

١ - تأتي الحملة الضارية والعامة للحكومة الأمريكية ضد الإسلام على حساب

قدرتها على انتهاج سياسة مرنة وبناءة تجاه الحركات الإسلامية؛ فالتصريحات

السياسية للمسؤولين الأمريكيين تهزأ من فكرة أن هناك إسلاماً موحداً يواجه الغرب، ولكنها لم تترك شكاً في أن الولايات المتحدة ستعارض أية حركة إسلامية تحاول

الوصول إلى السلطة حتى ولو كان ذلك عن طريق صندوق الاقتراع؛ وتعبر عن

ذلك كلمات إدوارد جيرجيان مساعد وزير الخارجية الأسبق: (نحن لا نساند

شخصاً واحداً وصوتاً واحداً وتوقيتاً واحداً) إشارة إلى أن الحركات الإسلامية لا

تؤمن بالتعددية! ! وكأن الأنظمة العربية الحاكمة تؤمن - أو تسمح - بالانتخابات

الحرة.

٢- سياسة الاحتواء الثنائي للعراق وإيران من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية

قد أكدتها وثبتتها العقوبات ضد العراق واستمرار عملية فرضها، وإلغاء اتفاق

كونوكو مع إيران الخاص بالعلاقات التجارية لإيران والتي أعلنها الرئيس كلينتون

في ٣٠-٤-١٩٩٥م وذلك عقب الحملة الدعائية الشرسة التي شنتها لجنة الشؤون

العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC إيباك - وهي تجمُّع للوبي الإسرائيلي

الأمريكي المشترك على إيران.

٣ - تساند الولايات المتحدة الأمريكية بشكل تام حكومات كل من مصر

وتونس وذلك في حربها ضد الحركات الإسلامية فيهما؛ وخلال ذلك تتغاضى عن

انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول مؤخراً

أن تلعب دوراً هامشياً في إيجاد أرضية مشتركة بين الحكومة الجزائرية والزعماء

الإسلاميين الذين لا يستخدمون العنف؛ وذلك بعد أن وافقت في صمت على إلغاء

الجيش الجزائري للانتخابات.

وعلى الجانب الدعائي يمكن أن نذكر:

أ- ظهور الرئيس كلينتون أثناء زيارته لإندونيسيا ١٩٩٤م في المسجد

الرئيس في العاصمة جاكرتا مصرحاً بوضوح أنه بالرغم من وجود مشاكل مع

الإرهاب إلا أنها لا تمتد ولا ترتبط بالإسلام باعتباره ديناً وثقافة.

وصرح كلينتون في زيارته للأردن قبل ذلك بقليل قائلاً: (ترفض أمريكا

قبول فكرة أن حضارتنا لا بد أن تتصادم مع الإسلام، نحن نحترم الإسلام) ، وقد

قامت الإدارة الأمريكية بجهود جديرة بالثناء وإن كان يتخللها كثير من الشك في دفع

اتهام المسلمين في حادثة تفجير أوكلاهوما وذلك على خلاف بعض المعادين للإسلام، وبالرغم من المشاعر الطيبة التي عبر عنها كلينتون وإدارته فإنه ما زال ثمة

شوط بعيد في الفهم المتبادل بين إدارته وبين الإسلاميين.

وبسبب التخويف المستمر الذي تبثه الأصوات المعادية للإسلام تأثرت حتى

بعض الأمور البسيطة، ومنها: منح تأشيرات السفر والدخول؛ فعلى سبيل المثال: دُعي الشيخ راشد الغنوشي - زعيم حزب النهضة التونسي المُبعد وأحد المعتدلين

البارزين في الصحوة الإسلامية - لحضور الحوار حول الإسلام الحديث الذي أقامته

جامعة جنوب فلوريدا بالاشتراك مع شركة الدراسات الإسلامية والعالمية في يناير

١٩٩٤م وهو حوار أجري قبل ذلك مرتين مع د. حسن الترابي ١٩٩٢م، ود.

خورشيد أحمد من باكستان ١٩٩٣م، ويعطي الحوار فرصة للعلماء الأمريكيين

لمناظرة المثقفين الإسلاميين، وفي التجربتين السابقتين حضر أكاديميون أمريكيون

بارزون، ونشر الحوار للجمهور الأمريكي، وقد أثنى الجميع على تلك الحوارات،

وكان اختيار الغنوشي لحوار ١٩٩٤م ذا دلالة واضحة لما يحدث في شمال إفريقيا،

وإذا كانت تونس قد حكمت على الغنوشي غيابياً بالإعدام فإن إنجلترا منحته حق

اللجوء السياسي ١٩٩٣م، وعندما تقدم الغنوشي للحصول على التأشيرة رفضت

الإدارة الأمريكية منحه إياها، ولذلك فإن حوار مايو ١٩٩٤م تأجل مراراً حتى

يونية ١٩٩٥م، وظهر أن تونس اعترضت على فعل الإدارة الأمريكية، وكان هذا

الاعتراض قد ظهر علناً في مايو ١٩٩٤م في جريدة نيويورك اليهودية والمعروفة

باسم (فورد وارد) فكتبت لوسيت لاجنادور في عناوين الصفحة الأولى الرئيسة:

الشيخ الإرهابي، وآية الله المستقبل يطلب الدخول إلى أمريكا) .

وأضافت أن: (الغنوشي أيد العنف ضد الأمريكيين وحلفائهم، وحاول إفساد

مسيرة السلام في الشرق الأوسط) .

وأشارت المقالة إلى أن دانييل بابيس يقول بأن: (الغنوشي حضر مؤتمرات

في السودان وإيران مع كتاب متطرفين آخرين، وقد صور بابيس تلك المؤتمرات

باجتماع إسلامي عالمي؛ حيث يتفق الزعماء على المقت الشديد لأمريكا والغرب

وإسرائيل. والمقصود اجتماعات المؤتمر الشعبي الإسلامي في الخرطوم.

وفي ٢٤-٦-١٩٩٤م نشرت أوليمبيا سنو ممثلة وعضوة في وزارة الخارجية

الأمريكية نداءاً تطالب فيه وزير الخارجية كريستوفر برفض إعطاء تأشيرة

للغنوشي لملفه الواسع في النشاط الإرهابي.

ولكن الاعتراض الأكبر على راشد الغنوشي جاء على لسان مارتن كريمر

مساعد رئيس مركز ديان للدراسات الشرق أوسطية في جامعة تل أبيب الذي أصدر

تقريراً باسم olicy Watch من خلال معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي

يقف وراءه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية إيباك، لم يذكر كريمر في

تقريره شيئاً عن الإرهاب، ولم يسع لإبطال أو تقديم أدلة لبطلان إعطاء حق

اللجوء السياسي الذي منحته الحكومة البريطانية للغنوشي، ولكنه ركز على موقفه

المعارض للسعودية وأمريكا في حرب الخليج واعتراضه على الاتفاق بين منظمة

التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي طالما أسماها: خطة يهودية أمريكية تستهدف

إخلاء المنطقة من كل مقاومة وفتح المجال للنشاط الاقتصادي والثقافي اليهودي الذي

يمهد للسيطرة الكاملة لليهود من مراكش حتى كازاخستان، وقد صرح كريمر أن

الولايات المتحدة الأمريكية لو أعطت الغنوشي تأشيرة الدخول فإن ذلك يبين مدى

اختلاط الأمور عليها حتى إنها لا تعرف عدوها من صديقها.

إذن يستطيع أحد الأساتذة الإسرائيليين أن يكون في الوضع الذي يسمح له

بتوجيه النصح للحكومة الأمريكية بأنها يجب أن لا تعطي تأشيرة دخول الأجانب

الذين يعارضون السياسات الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، وهكذا نجحت الحملة

ضد الإسلام في منع الحوار بين أحد المفكرين الإسلاميين والعلماء والأكاديميين

الأمريكيين، ولكن يبدو أن الأمر يعد أكبر من ذلك؛ فالمسلمون في أمريكا

معرضون بشكل عام لأن يوصفوا بالخيانة والعداء المحتمل لأمريكا خاصة بعد

تصريحات كلينتون وأوامره في ٢٤-١-١٩٩٥م وذلك بمنع جمع التبرعات

والمساعدات للإرهابيين الذين يهددون عملية السلام في الشرق الأوسط ومنع فتح

الحسابات الخاصة بأسماء عشرين منظمة إسلامية.

وقد أثبتت الأحداث ذلك عقب انفجار أوكلاهوما: فمثلاً - نشر صحفي شاب

في ٢٨ - ٢٩-٥-١٩٩٥م في صحيفة التامبا تريبيون أن هناك مجموعة في تامبا

تتعاطف - وربما يقول - مع حركات الجهاد وحماس الإسلامية ويتزعمها د. سامي

العريان في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني وهو أستاذ في جامعة فلوريدا، وقد

نشرت صورة د. سامي العريان بجانب صورة القتلى في انفجار أتوبيس تل أبيب

الذي حدث في ١٩-١٠-١٩٩٤م، والذي راح ضحيته ٢٣ إسرائيلياً.

وقد استشهدت المقالات بكلام استيفن إيمرسون والصحفي الإسرئيلي روني

شاكيد، وباحث مجهول من مركز وايزنتال ومارتن كريمر، وكان من أكثر

الاتهامات غير المسؤولة تلك التي قالت بأن هناك علاقة بين مسجد محلي في

فلوريدا يحتوي على مدرسة ابتدائية وبين حماس؛ لأنه مُسمًّى باسم عز الدين القسام

وهو زعيم مسلم بارز قُتل بيد الإنجليز ١٩٣٥م، وقد عرضت المقالة صورة

المسجد وعنوانه مما ولَّد الخوف لدى الأطفال والمدرسين؛ حتى إن الجالية

الإسلامية استأجرت رجال الأمن لحمايته، وقد هيجت تلك المقالات بعض اليهود

النشطين في المنطقة، وبعد فحص تلك الاتهامات أعلنت بيتي كاستور رئيسة جامعة

جنوب فلوريدا أنه لا توجد أية مخالفات في الجامعة وردت على قلق الجالية اليهودية

بأنها ترحب بوجودهم ولكنها ترحب بالآخرين أيضاً.

وعلى الصعيد العالمي تظهر الولايات المتحدة الأمريكية على أنها عدو للإسلام ... فحكومات إسرائيل والجزائر ومصر وتونس وحكومات أخرى في المنطقة تخشى

صعود حركات الصحوة الإسلامية وتلك الحكومات صديقة للولايات المتحدة

الأمريكية، وكما قال أحد السفراء الأمريكيين: إننا يجب أن نتغاضى عن

الممارسات العنيفة للحكومة المصرية ضد المصريين في الصعيد، والتي سجلها

روبرت فيسك في تقاريره؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعامل مع المتعصبين.

إن سياسات القوى العظمى - يشير إلى الولايات المتحدة الأمريكية - يجب

ألا يحددها تجاه خُمس سكان العالم على الأقل تهديداتٌ تواجهها إحدى الحكومات من

مواطنيها المقهورين رغم اتفاقنا مع وجهة نظر هذه الحكومات، كما أن سياستنا

على المدى الطويل لا ينبغي أن يحددها أفعالُ قلة من الإرهابيين.

والواقع أن عدم اكتراث أمريكا الواضح بمقتل مائتي ألف مسلم في البوسنة

وحرب الإبادة ضد الشيشان وما يحدث في كشمير والهند والضفة الغربية وغزة

والعقوبات الاقتصادية ضد إيران ... إلخ كل هذا قد أقنع كثيراً من المسلمين أن

الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإسلام.

وقد أضاف الأستاذ جيمس بيل: (الوضع خطير حينما يجد المسلمون أنفسهم

ملقبين بالإرهابيين وعندما تشجع الحكومات الغربية حكوماتهم العلمانية في الشرق

الأوسط على مواجهة الحركات الإسلامية بالعنف) .

وقد أصر الرئيس كلينتون على أنه ليس ضد الإسلام، ولكن أفعاله وتردده

وتخاذله في إقامة حوار حقيقي مع المفكرين الإسلاميين يشير إلى عكس ذلك،

وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تشجع الحوار مع المفكرين الإسلاميين وهؤلاء

بدورهم عليهم أن يستنكروا الإرهاب والظلم الذي تمارسه بعض الحكومات

الإسلامية وغير الإسلامية - إذا كان الحوار سيؤتي ثماره.

ولمن يصر على تشبيه الموقف الآن بظروف الحرب الباردة يقول الصحفي

الإيرلندي فاليه تحول: (في قمة الحرب الباردة كان الغرب يحاول بحيوية فهم

النظام الشيوعي والفكر الماركسي، ولكن تلك الجهود لا تبذل الآن مع الإسلام،

وبغير الحوار لا يمكن أن يكون هناك بديل سوى المواجهة!) .


(*) نشر في دورية: الفورين أفريرز " الشئون الخارجية الأمريكية " خريف عام ١٩٩٧م.