تيارات فكرية
[أهمية الدراسة العميقة للتيارات الفكرية الغربية ونقدها]
محمد إبراهيم مبروك
الملل والنحل.. في عصر الأقمار الصناعية
قديماً رصد الأئمة التيارات الفكرية والعقائدية، سواء في الغرب أو في الشرق
أو في العالم الإسلامي، وصنفوا في ذلك الموسوعات التي تعد الآن مراجع
ومصادر العصر الحديث في معرفة تلك الملل والنحل.
ولا يكفي اليوم، ونحن نعيش عصر الاتصالات السريعة المتقدمة، والتي
أدت إلى حدوث ثورة شاملة في تناقل المعلومات والأفكار دون ضوابط أو حدود؛
لا يكفي أن يقتصر الأمر على الدراسات الموسوعية المصنعة في كتب ومجلدات لا
يطلع عليها إلا الخاصة من العلماء وطلاب العلم، بل ينبغي أن يتعدى إلى المواكبة
اليومية لمستجدات الأفكار والتيارات وأخبارها، والرد على ما يُستحدث لها من
شبهات وأباطيل، في صورة تصل إلى عامة الناس بجميع مستوياتهم.
من هنا رأت مجلة البيان ضرورة فتح زاوية جديدة كنافذة يتم من خلالها رصد
عالم التيارات الفكرية والعقائدية المعاصرة، ومن ثَمَّ تقدم الدراسات والبحوث التي
تقوم على تحليل مستجدات قضايا واقع هذا العالم الكبير ومعالجتها.
- مجلة البيان -
أشعر بالأسى لأنني أكتب مقدمة عن أهمية دراسة التيارات الفكرية الغربية
والعالمية، فهل نحتاج إلى إبراز أهمية ذلك؟
يبدو أن ما يقرره الواقع هو أننا نحتاج إلى ذلك حقاً، فقد تقتضي البديهة
التسليم بأهمية دراسة هذه التيارات الفكرية عند قطاعات عريضة من الحركة
الإسلامية، ولكن ليس هذا هو الهدف من كتابة هذه المقدمة، وإنما الهدف هو إبراز
مدى ما تبلغه دراسة هذه التيارات من أهمية، وليس الوقوف عند الإلمام السطحي
بمضامينها وخطوطها الأساسية، والذي غالباً ما يقصده ذلك التسليم عند تلك
القطاعات المشار إليها.
إن مهمة المفكر المنوط به مسؤولية التجديد واستنهاض الأمة لا بد أن تشتمل
على جانبين:
- جانب هدمي: ونقصد به القدرة على تناول المذاهب والتيارات الفكرية
المضادة للإسلام وهدمها.
- وجانب بنائي: ونقصد به طرح المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر؛
بتجسيد الحقائق الإسلامية الفاعلة في متغيرات الواقع المعاصر.
وليس شرطاً أن يضطلع المفكر الإسلامي بمسؤولية الجانبين معاً، ولكن ما
يجب إيضاحه وتأكيده بكل قوة هو أن الاضطلاع بمسؤولية أحد الجانبين يقتضي
دراسة هذه التيارات الفكرية دراسة متعمقة، فإذا كان من الواضح أهمية دراسة ذلك
للمفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب الهدمي (والذي سنؤجل الحديث عنه قليلاً) ؛
فإن أهمية هذه الدراسة لا تقل كثيراً للمفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب البنائي.
وبيان ذلك أن هذا المفكر البنائي لا يقيم مشروعه منعزلاً عن العالم عاكفاً على
الأصول الإسلامية، وإنما يقيمه من خلال استخلاصه من هذه الأصول والأحكام
التي تتناسب مع متغيرات الواقع الذي يواجهه، ولكن المشكلة أنه في ظل المد
الحضاري المعاصر المتفوق للحضارة الغربية؛ فإن أغلب متغيرات هذا الواقع يتم
تشكيلها من خلال التيارات الفكرية السائدة في هذه الحضارة، ومن ثم فإنه لا
يستطيع أن يقيم مشروعه إلا باستيعابه لتلك التيارات.
فإذا عُدنا إلى المفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب الهدمي؛ فإن مهمة
التعرض للتيارات والمذاهب المضادة للإسلام اعتماداً على السرد المبسط لبعض
مصطلحاتها وأفكارها العامة دون امتلاك القدرات المشار إليها؛ هو أمر يبلغ خطره
حد الكارثة على الدعوة بوجه عام؛ لما يعنيه ذلك من تكريس للسطحية والسذاجة
في العقلية الإسلامية، وتعريض الفكر الإسلامي للهزائم في المناظرات التي
يتعرض لها أمام أئمة الكفر والإلحاد ودعاة العلمانية الغربية. وهي مناظرات بات
عقدها شائعاً على القنوات الفضائية؛ وهو الأمر الذي يجسم ذلك تجسيماً شديداً.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التناول السطحي؛ ما أصدره عالم شهير من كتاب بحجم
مجلد في نقد الفكر الشيوعي الذي كان شائعاً في بلاده منذ قرن أو يزيد؛ مقيماً ذلك
النقد على مجرد السماع للأفكار العامة لهذا الفكر.. حيث يظل مردداً على امتداد
صفحات الكتاب: «سمعت أن الفكر الشيوعي يقول كذا، وردي عليه هو كذا» !
ومن الطبيعي أن يكون المردود الفكري على ذلك مردوداً مأساوياً، ومن
العجيب أن أغلب المعارك الفكرية التي يخوض غمارها رجال الدعوة الإسلامية
(وخصوصاً رجال التيار السلفي) ؛ هي المتعلقة بنقد الفرق الإسلامية القديمة؛ مثل
المعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، وهذا أمر مقدر يجب أن يتصدر له جمع
من أهل العلم والاختصاص.
وعلى الرغم من تسليمي باستمرار اعتناق فكر هذه الفرق في الواقع المعاصر،
واستمرار فاعلية تأثيرها في بعض الأحيان بدرجة أشد، وحرص بعض رموزها
المعاصرين على نشر أصولها وتجديد أطروحاتها؛ فإن التيارات الفكرية التي قد
تكون أكثر تحدياً للإسلام في الواقع المعاصر، والتي أنتجها الفكر العلماني الغربي
هي: البراجماتية، والليبرالية، والوجودية، والنسبية المعرفية، والقيمية التي
تتمثلها التيارات الحداثية والكنيونية، وما بعد الحداثية، وما بعد البنيوية، والمادية
الغلمتية، والوضعية المنطقية. وكأنَّ تمثل كبار أئمة الإسلام الكبار الذين خاضوا
غمار المعارك مع شتى الملل والنحل والمذاهب والتيارات، والذين تقتدي بهم
الحركة الإسلامية، مثل ابن حزم وابن تيمية وابن القيم؛ يعني خوض المعارك
الفكرية التي خاضوها نفسها.
وما أذهب إليه هو أن ما يغري هؤلاء بالاكتفاء بالرد على الانحرافات الفكرية
القديمة مع الخصوم أنفسهم؛ هو سهولة خوض ذلك مقارنة بخوض المعارك الفكرية
المعاصرة التي تتطلب دراسة عشرات الكتب والجهاد الفكري لسنوات طويلة، بينما
لا تتطلب استعادة المعارك الفكرية القديمة إلا دراسة بعض كتب هؤلاء الأئمة العظام،
حيث يتوهم بعض الناس أنهم قد بذلوا بذلك جانباً كبيراً من الجهاد الفكري الذي
بذله هؤلاء الأئمة، ويغفلون أنهم ما استطاعوا خوض هذه المعارك إلا بدراسة
عشرات الكتب المتعلقة بأفكار خصوم عصرهم والعصور التي سبقتها، وهذا ما
يكشف لنا جانباً كبيراً من عوار الالتباسات الفكرية التي يقع فيها كثير من أبناء
الحركة الإسلامية؛ مثل اعتقاد بعضهم بأن العلمانيين المعاصرين ما هم إلا صورة
مستحدثة من المعتزلة القدامى. بينما الحقيقة أن مفكري المعتزلة على الرغم مما
يعتري فكرهم من ضلال فإنهم لم يخرجوا عن ملة الإسلام؛ كما حدد ذلك أئمة
السلف أنفسهم، ولو كان هؤلاء المفكرون المعتزلة قد عاصروا هؤلاء العلمانيين
الخارجين عن الإسلام الرافضين لشريعته؛ لشرعوا في وجوههم السيوف.
وربما تجدر الآن مناقشة بعض الاعتراضات على دعوتنا إلى التعمق في
دراسة التيارات والمذاهب الفكرية:
من أهم هذه الاعتراضات ما يذهب إليه بعضهم من أن معرفة الناس دينهم
وأسس عقيدتهم سيُبيّن لهم بكل يسر عوار هذه الأطروحات، وهذا هو المنهج العام
الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده؛ إذ كانوا يحرصون
على بيان المنهج الحق بتفاصيله والتحذير من الباطل مجملاً من غير تفصيل إلا
عند الحاجة إلى ذلك.
أقول: يكمن هنا خطر كبير، وهو الاعتقاد بالاكتفاء بالحق الذي جاء به
الوحي في تبليغ الدعوة.
والحقيقة أن الوحي كاف في إدراك الحق لا في القدرة على إبلاغه للناس،
والوعي بذلك هو مشكلة قطاع كبير في الحركة الإسلامية المعاصرة، وذلك لاعتقاد
هؤلاء أن إخلاصهم للقرآن والسنة يغنيهم عن إدراك الواقع والاجتهاد في إعمال
الفكر في استيعاب فكر الخصوم وهدمه، ومن ثم التثاقل إلى الأرض دون تلبية
واجب الجهاد الفكري المنوط بهم، فأبسط قواعد التفكير تقول: إنه في الجانب
التشريعي لا بد من استيعاب الواقع لتطبيق الحق، وفي الجانب العقائدي لا بد من
استيعاب أفكار الناس لإبلاغ الحق وإظهار الباطل. وهذا الخطأ الفادح هو المسؤول
إلى قدر كبير عن حالة التراجع الشديد التي تعاني منها الأمة في كل جوانبها
الحضارية؛ ليس فقط لعدم إدراك الواقع، ولكن لأن هذا التمسك بالحق الذي جاء
به الوحي هو في الحقيقة تمسك جزئي؛ لأن الآيات العديدة الداعية إلى التفقه
والتفكير وإدراك الواقع أكثر من أن نذكرها، وكذلك الآيات التي عرضت لأشكال
شتى من المعتقدات والأفكار الباطلة ومناقشتها.
وهل استمد النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً يخالف القرآن كي يمكن أن نقول
إن منهجه كان شيئاً غير ذلك؟ ومن ثم فعلينا أن نعود إلى القرآن لندرك كم هي
الآيات التي تعرّض فيها لنقد الباطل؛ لندرك اهتمام القرآن بالتفاصيل الأساسية لهذا
الباطل.
والحق أن الحق لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة، بل إن الباطل هو الذي يحتاج
إلى هذه التفاصيل، فمن فضل الله على عباده أن الحق واضح ومحدد، والعقيدة
الإسلامية التي تتلخص في «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قامت على أسس
ستة يمكن ذكرها في سطور قليلة، وإذا استعرضنا الكتب الأساسية التي أوردت
عقيدة أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ، مثل العقيدة الطحاوية للإمام
الطحاوي، والعقيدة الواسطية للإمام ابن تيمية؛ لوجدنا أنها لا تستغرق أكثر من
بضع صفحات، أما الكتب الضخمة التي قامت كشروح لمثل هذه الكتب؛ فكانت
تستهدف في الأساس التمييز بين هذه العقيدة الحقة، وما يخالفها من أباطيل، وهذا
التمييز هو الذي احتاج إلى هذه التفاصيل.
وهناك أيضاً اعتراض آخر مفاده: أن الجهود التي قامت في نقد هذه التيارات
والمذاهب الفكرية كافية في الاعتماد عليها؛ مثل مؤلفات الأستاذ محمد محمد حسين
- رحمه الله -، وكتب المفكر الإسلامي محمد قطب، وكتاب العلمانية للشيخ سفر
الحوالي، وكتاب مصادر المعرفة للدكتور عبد الله القرني.
وما نراه أنه مع تقديرنا الكبير لهذه الجهود العظيمة في دراسة التيارات
والمذاهب الفكرية مضيفين إليها جهوداً عظيمة أخرى لعدد من أصحاب الفكر
الإسلامي مثل مالك بن نبي، ومحمد البهي، وأبي الأعلى المودودي، ووحيد الدين
خان.
إلا أن ذلك غير كاف للاعتماد عليه في استيعاب التيارات الفكرية المعاصرة،
والقدرة في الرد عليها؛ لسببين أساسيين:
الأول: هو مرحلة الانقطاع التي عرض لها الفكر الإسلامي في ملاحقة
استيعاب ونقد التيارات والمذاهب الفكرية الخارجية، والتي تمتد على التقريب من
عصر ابن تيمية في أوائل القرن الثامن الهجري إلى عصر الأفغاني في القرن
الثالث عشر مع الاعتراف ببعض الاستثناءات المحدودة للغاية. وقد قدر الله أن
تكون فترة الانقطاع هذه في الفكر الإسلامي هي نفسها أكثر فترات الفكر الغربي
إنتاجاً للمذاهب والتيارات الفكرية؛ وهو الأمر الذي نتج عنه قصور الجهود السابقة
عن ملاحقة هذا الإنتاج الكمي الكبير. وكان من الطبيعي أن يكون السبب الأكبر في
هذا القصور بطء تطور الوعي الفكري العام للأمة، وقصوره عن استيعاب هذه
الجهود نفسها، وأهمية الفوارق في الأفكار تتضح بقدر قرب المنظار الكاشف لها
وقوته، وبقدر وعي الباحث بأهمية هذه الفوارق تكون قدرته على مواجهة تأثيراتها
المتباينة على الواقع فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
أما السبب الثاني: فهو التطور المستمر لهذه المذاهب والتيارات، والذي
يطرد مع سرعة متغيرات العصر بوجه عام؛ وهو الأمر الذي يقتضي متابعته
ومتابعة تأثيره بشكل دائم.
تبقى هناك إشارة شديدة الخطر إلى أهمية دراسة هذه التيارات والمذاهب،
وهي تتعلق بما يتعرض له الوعي الإسلامي العام من لبس على أيدي المنتمين لهذه
التيارات والمذاهب، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، وأقصد بذلك ما
تتعرض له الكثير من المفهومات الإسلامية من خلط ودمج وتلبيس مع هذه التيارات
والمذاهب؛ مثل محاولات تمييع الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية، أو محاولة
تطويع المفهومات الإسلامية لليبرالية أو البراجماتية، وتقديم إسلام أمريكي زائف
بديلاً لإسلامنا الحقيقي، أو ضرب الثوابت الإسلامية باسم التسامح وحوار
الحضارات، ومما لا شك فيه أن استيعابنا لتلك التيارات والمذاهب يمثل واحداً من
أكبر العوامل التي تساعد رجال الحركة الإسلامية على الكشف المتلاحق لتلك
الالتباسات والتنبيه عليها.