المسلمون والعالم
[دولة الصهاينة.. المستقبل مظلم]
قراءة في محطات الهبوط والصعود للمشروع الصهيوني
عاطف الجولاني [*]
المستقبل مظلم على كل صعيد، وليس في الأفق ما يُبشّر بأمل أو ضوء في
نهاية النفق يتيح الخروج من الأزمات المتلاطمة في نظر الإسرائيليين، وأصحاب
القرار السياسي جرّبوا كل الخيارات للهروب من الوضع المعقد، لكن كل محاولاتهم
باءت بالإخفاق، وينتقلون من مأزق إلى أكبر.
هكذا يبدو المشهد في (إسرائيل) التي تعيش هذه الأيام واحدة من أكثر
فترات وجودها تأزّماً، وهو ما دفع سياسيين ومثقفين صهاينة كباراً إلى أن يندبوا
حظ دولتهم، وأن يرفعوا الصوت محذرين من أن المشروع الصهيوني بات في
خطر داهم.
فهل بدأ المشروع بالتراجع والتقهقر حقاً، أو أنه ما زال يملك من مقومات
البقاء وقوة الدفع ما يجعله قادراً على تجاوز أزماته الراهنة، ومتابعة إفساده
ومؤامراته وأطماعه التوسعية؟
* منحنى بياني سالب:
إذا أردنا استعراض مسار المشروع الصهيوني خلال العقود السابقة لدراسة
حالات التقدم والتراجع التي مرّ بها؛ فيمكن الوقوف عند عدد من المحطات،
وبشكل عام يمكن الحديث عن مرحلتين مرّ بهما المشروع الصهيوني:
الأولى: الاندفاع والصعود والتوسع:
حيث تميز المشروع في هذه المرحلة بمعنويات عالية، وقوة دفع كبيرة،
وشهية مفتوحة للتوسع، وبقيادات سياسية على درجة كبيرة من الحماس والثقة
والاندفاع والمبادرة.
وأهم محطات هذه المرحلة:
- (عام ١٩٤٨م) شكَّل المحطة الأهم والإنجاز الأكبر للمشروع الصهيوني
الذي تحول من إطار النظرية إلى التطبيق الواقعي، ومن الأحلام والتطلعات
والأطماع إلى الحقائق المفروضة على الأرض بقوة التخطيط والتآمر الصهيوني،
وبفعل التواطؤ الدولي والضعف والتخاذل العربي الرسمي.
- (عام ١٩٦٧م) حقق المشروع الصهيوني إنجازاً مهماً جديداً، وتمكن من
ضم بقية مساحة فلسطين (الضفة الغربية والقدس) ، مضيفاً إليها سيناء والجولان.
- (عام ١٩٧٧ - ١٩٧٩م) حقق المشروع الصهيوني إنجازاً سياسياً بالغ
الأهمية، تمثل في جرّ مصر الدولة العربية الأكبر في العالم العربي إلى خانة
التسوية والمفاوضات، وعزلها عن محيطها وإخراجها من الصف العربي، وهو ما
أحدث شرخاً خطراً في جدران صمود الأمة.
- (عام ١٩٨٢م) خطا الكيان الصهيوني خطوة توسعية جديدة باتجاه جنوب
لبنان بحجج وذرائع أمنية، وتمكّن آنذاك من توجيه ضربة قاصمة للقوة العسكرية
لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي شكل خروجها من بيروت نهاية عملية لخيار
الكفاح المسلح الذي كانت تتبناه فصائلها قبل ذلك. لكن هذا التوسع الجغرافي كان
الأخير بالنسبة للكيان الصهيوني.
الثانية: التراجع والانكفاء:
وتميزت هذه المرحلة بفقدان قوة الدفع، وتراجع المعنويات، وتفاقم
الانقسامات السياسية والعرقية والطائفية في المجتمع الصهيوني، وغياب الرموز
والقيادات القوية التي تملك «كاريزما» ومقومات الزعامة الحقيقية.
وأهم محطات هذه المرحلة:
- (عام ١٩٨٧م) شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بداية التراجع
للمشروع الصهيوني، حيث اضطر الجيش الإسرائيلي لمواجهة حرب من نوع آخر
لم يعتدها، وهو الذي تدرب على خوض المواجهات التقليدية مع جيوش نظامية،
وتمتع خلال تلك الحروب بالتفوق العسكري على الجيوش العربية مجتمعة؛ فضلاً
عن الدعم والإسناد الأمريكي غير المحدود.
وشكّلت الانتفاضة بحقٍّ عامل استنزاف حقيقي للكيان الصهيوني، ولم ينقذه
من مأزقه ذاك سوى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الخطرة على الوضع الفلسطيني
والعربي، وما أعقبها من عقد مؤتمر مدريد، وانطلاقة مفاوضات التسوية، وتهالك
قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على تحقيق اعتراف رسمي بها من (إسرائيل)
والولايات المتحدة الأمريكية كطرف مفاوض، وهو ما أفضى عام ١٩٩٣م إلى توقيع
«اتفاقية أوسلو» التي قامت بموجبها سلطة فلسطينية هزيلة في الضفة والقطاع
مرتهنة لقيود مشددة حوّلتها إلى سلطة قمع للشعب الفلسطيني ولحركاته المقاوِمة.
كما تمكن الكيان الصهيوني عام ١٩٩٤م من توقيع معاهدة (وادي عربة) مع
الأردن في خطوة هي الثانية بعد معاهدة (كامب ديفيد) مع مصر عام ١٩٧٩م،
ومع أن عملية التسوية حققت للكيان الصهيوني إنجازات سياسية مهمة؛ غير أنها
أصابت الجيش والمجتمع الصهيوني بحالة استرخاء، وشعور بتراجع الخطر الذي
يتهدد الكيان، وهو ما أثر سلباً في حالة التأهب والتحفز رغم حرص الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة على زيادة حجم الموازنة العسكرية والأمنية والحيلولة دون
الوصول إلى مثل هذه الحالة من الاسترخاء.
- (عام ١٩٩٥م) شكّل انتكاسة جديدة للمشروع الصهيوني، حيث تم اغتيال
رئيس الوزراء آنذاك إسحق رابين، وهو ما عبّر عن حالة انقسام عميقة يعيشها
المجتمع الصهيوني وتتزايد مع مرور الأيام.
- وإذا كانت الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧م شكَّلت بداية التراجع؛ فإن (عام
٢٠٠٠م) كان بداية الانحسار والتقهقر الواضح والمعلن للمشروع الصهيوني.
فللمرة الأولى يضطر الكيان الصهيوني للخروج من أرض عربية تحت وقع
ضربات المقاومة دون اتفاقات أو تفاهمات سياسية. ليس هذا فحسب؛ بل إن
الكيان الصهيوني أبدى رغبة جامحة بعد الانسحاب بترسيم حدوده الشمالية مع لبنان،
واستجدى الأمم المتحدة من أجل التدخل لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم ٤٢٥،
وهو الذي كان يرفض سابقاً إعلان حدود لدولته، وضرب عُرض الحائط بكل
القرارات الدولية!
- (عام ٢٠٠٠م) شكَّل أيضاً تراجعاً سياسياً خطراً للكيان الصهيوني، فعلى
الرغم من التنازلات الكبيرة المطلوبة من الفلسطينيين التي تضمنها مشروع التسوية
الذي عرضه الرئيس الأمريكي بل كلينتون في (كامب ديفيد ٢) ؛ فإن المفاجئ أن
رئيس الوزراء الصهيوني إيهود باراك، على خلاف بقية القادة الإسرائيليين
السابقين، أبدى إصراراً غريباً على التوصل لاتفاق نهائي يضع حداً للصراع مع
الفلسطينيين بصورة نهائية، ومن أجل ذلك أبدى استعداداً للتخلي عن أكثر من ٩٥%
من الضفة الغربية المحتلة عام ١٩٦٧م، إضافة إلى كامل قطاع غزة، في
خطوة كانت موضع انتقاد حادّ من اليمين الصهيوني. وسوَّغ باراك تعجله في
التوصل إلى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين؛ بحالة التراجع الحادّة في معنويات
المجتمع والجيش الإسرائيلي، وبأنه توصل إلى أن عامل الوقت لم يعد يعمل
لمصلحة (إسرائيل) .
- وجاءت انتفاضة الأقصى أواخر عام ٢٠٠٠م بعد أسابيع من إخفاق قمة
(كامب ديفيد ٢) ؛ لتشكّل الأزمة الأكثر حدّة في تاريخ الكيان الصهيوني.
* حصاد انتفاضة الأقصى:
نهاية العام الثالث من عمر الانتفاضة قبل أربعة أشهر؛ كانت مناسبة
للإسرائيليين لإعلان بعض الأرقام التي تعبِّر عن حجم الخسائر التي تكبدوها خلال
سنوات المواجهة المريرة مع الفلسطينيين، والتي عبّرت عن تراجعات إسرائيلية
على كل صعيد:
- فعلى صعيد الخسائر البشرية:
اعترف الصهاينة بمقتل ٨٦٧ صهيونياً حتى ٢٨/٩/٢٠٠٣م؛ من بينهم ٢٥٩
جندياً و ٦٠٨ مستوطنين. أما الجرحى فوصل عددهم إلى ٥٨٧٨ جريحاً؛ منهم
١٦٩٤ جندياً و ٤١٨٤ مستوطناً. ووصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت»
الصهيونية غالبية هؤلاء الجرحى بأنهم «معوقون ويحملون حتى اليوم ندباً وحشية
للإرهاب الفلسطيني» .
وأظهرت الإحصاءات الإسرائيلية أن الفلسطينيين نفَّذوا خلال ثلاث سنوات
من الانتفاضة ١٨٨٧٦ عملية؛ بمعدل ٦,١٧ عملية في اليوم الواحد، ونُفذ ٩٦%
من هذه العمليات في الضفة والقطاع، و ٤% في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨م،
لكنها كانت الأقوى والأكثر فتكاً، وحصدت نحو نصف عدد القتلى والجرحى.
وفي إحصائية جديدة عن عدد القتلى الإسرائيليين في الانتفاضة؛ أورد موقع
وزارة الخارجية الإسرائيلية على الإنترنت أن عددهم وصل ٩٣٤ قتيلاً حتى
١٠/٢/٢٠٠٤م.
- وعلى صعيد الخسائر الاقتصادية:
تكبد الكيان الصهيوني خسائر مباشرة قُدّرت بنحو ٧٥ مليار (شيكل) ؛ أي
ما يعادل ١٨ مليار دولار خلال سنوات الانتفاضة الثلاث؛ بمعدل ستة مليارات
دولار للعام الواحد.
وبسبب تدهور الوضع الاقتصادي عانت ٧٠% من المصالح الإسرائيلية
الصغيرة من صعوبات اقتصادية جمّة، وتم إغلاق نحو ٥٨ ألفاً منها خلال العام
الماضي، كما تم إغلاق أكثر من ٤٠ ألف مصلحة في عام ٢٠٠٢م، كذلك أغلقت
١٥٠ شركة تكنولوجيا متقدمة في العام نفسه.
ووصفت دائرة الإحصاء المركزية عامي ٢٠٠٢م و ٢٠٠٣م بأنهما العامان
الأسوآن للاقتصاد الإسرائيلي منذ عام ١٩٥٣م، وقالت إن «حجم البطالة في
إسرائيل اليوم هو الثاني في ارتفاعه بين كل الدول الغربية» ، حيث ازدادت
نسبتها لتصل إلى ١٠.٤% من مجموع القوى العاملة.
وكشف تقرير أعده «معهد بروك جيل المتخصص بدراسة الأوضاع
الاجتماعية» أن نحو مليون إسرائيلي يعانون الجوع، ويجدون صعوبة في
الحصول على الطعام الكافي. وأظهر التقرير أن ظاهرة الجوع احتدمت بصورة
كبيرة في العامين الأخيرين.
وعبثاً ذهبت كل محاولات وزير المالية بنيامين نتنياهو لإنقاذ الاقتصاد
الإسرائيلي من أزمته الخانقة؛ بعد أن عُلّقت عليها آمال كبيرة في استنهاض الوضع
الاقتصادي من كبوته.
وقد ذهب المحلل الاقتصادي الإسرائيلي «سيفر بلوتسكر» إلى وصف
وضع الاقتصاد الإسرائيلي المتردي بالقول: «الأرض الاقتصادية تتحرك تحت
الأقدام. الأفق يموج، المستثمرون يُحْجِمون عن الاستثمار، المستهلكون يؤجلون
الشراء!» . في حين أكد المحلل الاقتصادي «جدعون عيشت» أن «من أذاق
الاقتصاد الإسرائيلي المرّ هو الانتفاضة!» .
- وعلى الصعيد السياسي:
وصلت خيارات حكومة شارون إلى حائط مسدود، ولم تنجح كل محاولاتها
لإنقاذ الكيان الصهيوني من الورطة القائمة، واتضح للإسرائيليين وللعالم أنها لا
تملك أي رؤية لوضع حدٍّ للانتفاضة والمقاومة، ولا آفاق سياسية للتعامل مع
الوضع القائم.
ولم يقتصر التأزم على الوضع السياسي الداخلي في (إسرائيل) ، بل تعداه
ليشمل مكانتها الدولية؛ بخاصة على صعيد الشعوب.
وكان لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه الاتحاد الأوروبي قبل عدة أشهر،
والتي أظهرت حجم الكراهية العميقة التي باتت تحملها الشعوب الأوروبية
لـ (إسرائيل) ، وقع الصاعقة على المسؤولين وعلى المجتمع الإسرائيلي؛ حيث
قال ٥٩% من الأوروبيين إن (إسرائيل) تشكّل الخطر الأكبر على الأمن
والاستقرار في العالم. ثم قال الأمريكيون كلمتهم بعد أسابيع من ذلك الاستطلاع،
ورأى ٤٣% منهم أن (إسرائيل) تشكّل خطراً على السلام والأمن في العالم، وشمل
الاستطلاع ١٢٠٠ أمريكي.
- وعلى الصعيد النفسي والمعنوي:
كان للخسائر البشرية والاقتصادية التي تكبَّدها الكيان الصهيوني ولانسداد آفاق
الخروج من الأزمة السياسية المتفاقمة؛ تأثير سلبي بالغ على معنويات الإسرائيليين
الذين عبَّروا بوضوح عن حجم انحطاط معنوياتهم وقدرتهم على التحمل، ويصف
نحو نصف الإسرائيليين أنفسهم في استطلاعات الرأي بأنهم يائسون، ويرى نحو
٨٠% منهم أن المستقبل ليس مضموناً في (إسرائيل) ، ولن يكون أفضل من
الوضع القائم، ويتوقع ٨% فقط منهم نهاية وشيكة خلال عام للمواجهة الراهنة مع
الفلسطينيين.
وقد زاد من تدهور معنويات الإسرائيليين تلك التصريحات المغرقة في التشاؤم
التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين كبار لم يملكوا إخفاء مشاعرهم الحقيقية؛
غير عابئين بتأثيرها الخطر في الروح المعنوية للشارع الإسرائيلي.
«إبراهام بورغ» أحد أبرز قادة حزب العمل الإسرائيلي؛ فجّر قنبلة عنيفة
حين أعلن أن «إسرائيل على شفا الانهيار!» ، وأن «العد التنازلي لنهاية
المجتمع الإسرائيلي بدأ!» ، وأن «الجيل الحالي قد يكون الجيل الصهيوني
الأخير!» .
أما «شاؤول موفاز» وزير الدفاع الصهيوني وأحد أبرز الصقور في حزب
الليكود؛ فرأى أن (إسرائيل) تمرّ اليوم بواحدة من أكثر فتراتها القاسية
والمصيرية. فيما رأى «يهود أولمرت» رئيس بلدية القدس السابق وأبرز
المرشحين لخلافة شارون في زعامة الليكود؛ أن «الوضع الراهن هو أسوأ
الأوضاع، إنه يسحقنا ويعزلنا عن العالم» . وأكد أن عامل الوقت لا يعمل
لمصلحة (إسرائيل) . وهو ما أكده وزير العدل ورئيس حزب شينوي «تومي
لبيد» الذي قال إن «الوقت ليس في مصلحتنا، وهذه الحقيقة تحتم علينا بذل
جميع الجهود المعقولة في أسرع وقت ممكن؛ من أجل وضع حد للحرب، وتحقيق
وضع يمكننا العيش في ظله» .
خبير عسكري إسرائيلي رأى أن «إسرائيل دخلت في مواجهة خاسرة ضمناً،
وهذه المواجهة ستنهينا» ، مضيفاً أنه «إذا استمر الوضع على ما هو عليه؛
فإننا سنصل إلى تفكيك دولة إسرائيل» .
- وعلى الصعيد الديمغرافي (السكاني) :
أظهرت نتائج المسح السنوي الذي يجريه مكتب الإحصاء المركزي في الكيان
الصهيوني؛ أن عدد الفلسطينيين داخل الضفة والقطاع وأراضي ١٩٤٨م؛ يوشك
للمرة الأولى أن يساوي عدد اليهود، حيث بلغ عدد اليهود في نهاية عام ٢٠٠٣م
نحو ١,٥ ملايين نسمة؛ مقابل نحو خمسة ملايين فلسطيني يعيشون داخل فلسطين.
وعزا المكتب التراجع في نسبة اليهود مقارنة بالفلسطينيين إلى ثلاثة عوامل
أساسية:
الأول: انخفاض خصب المرأة اليهودية مقارنة بالمرأة الفلسطينية، حيث يولد
في المعدل نحو ١٦٠ ألف طفل فلسطيني؛ مقابل ٩٠ ألف طفل يهودي في العام
الواحد. وهو ما دفع بروفيسور إسرائيلياً متخصصاً في الجانب الديمغرافي إلى
القول: «نحن نمر في حالة انهيار ديمغرافي!» .
الثاني: تراجع حجم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث انخفض العدد عام
٢٠٠٢م إلى ٣٤ ألفاً، ثم وصل عام ٢٠٠٣م إلى ٢٣ ألفاً؛ تبين فيما بعد أن أكثر
من نصفهم ليسوا من اليهود، ولم يتم الاعتراف بهم كمهاجرين يهود.
الثالث: زيادة الهجرة اليهودية المعاكسة من داخل فلسطين المحتلة إلى
الخارج، ورغم تكتم (إسرائيل) على الأرقام الحقيقية ومحاولتها التخفيف من حجم
المشكلة؛ فإن مؤشرات عديدة تؤكد هجرة مئات ألوف الإسرائيليين إلى الخارج
خلال أعوام الانتفاضة وعودتهم إلى بلدانهم الأصلية.
- جدار الخوف:
وتأتي خطة حكومة شارون في فك الارتباط مع الفلسطينيين والانفصال عنهم
من جانب واحد، والمترافقة مع مواصلة بناء الجدار الفاصل؛ لتؤكد عمق المخاوف
الإسرائيلية من المستقبل. صحيح أن الجدار يقتطع نحو ٥٧% من أرض الضفة
الغربية بدون القدس، وأنه يقطّع أرض الضفة الغربية إلى عدة كانتونات ومعازل
منفصلة، لكن ينبغي الأخذ بالحسبان أن شارون والليكود واليمين الصهيوني كانوا
إلى ما قبل فترة قصيرة يرفضون التخلي عن أكثر من ٤٠ - ٥٠% من مساحة
الضفة الغربية في أي اتفاق تسوية نهائي مع الفلسطينيين، والمطروح حالياً إخلاء
مساحة موازية من طرف واحد دون اتفاق سياسي والتزامات من الطرف الآخر،
وهذا تراجع مهم في الفكر الصهيوني المتشدد، وينبغي أن يوضع في سياق
التراجعات والانهيارات الإسرائيلية المترتبة عن حالة الضعف التي يعيشها الكيان
الصهيوني في المرحلة الراهنة، ولا سيما حين يأتي التراجع من شارون تحديداً.
- الهروب من غزة:
ويأتي إعلان شارون عن نيته إخلاء جميع مستوطنات غزة منتصف العام
الحالي؛ مؤشراً جديداً على حالة الضعف والارتباك التي يعيشها كيانه المهزوز
بفعل بطولات الانتفاضة، وصمود الفلسطينيين، وإصرارهم على مواصلة المقاومة
والاستنزاف الذي يتعرض له المجتمع الصهيوني في المواجهة الحالية. وهذا يسجل
إنجازاً جديداً مهماً للانتفاضة والمقاومة الفلسطينية التي دأب بعض المهزومين في
المنطقة العربية على التشكيك بجدواها وبإمكانية تحقيقها إنجازات عملية على
الأرض؛ باتجاه دحر الاحتلال ودفعه للفرار طلباً للنجاة وتخفيف الخسائر.
لقد حوّلت المقاومة الفلسطينية حياة الإسرائيليين إلى جحيم لا يطاق، وجعلت
احتلالهم للأرض الفلسطينية أمراً باهظ الثمن والتكلفة، وهذه بداية الطريق لتحقيق
الإنجازات بتوفيق الله، وهو ما يتطلب المزيد من الصمود.
ويعزز هذا الصمود؛ إدراك حجم الانهيارات والتراجعات التي يعيشها الكيان
الصهيوني في المرحلة الراهنة، حيث يقف أمام تحديات يصفها الساسة والمثقفون
الصهاينة بـ «التحديات الوجودية» ، ويعتبرها بعضهم تحديات «نكون أو لا
نكون» .
(*) رئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية.