دول أم كتل؟
د. عبد الكريم بكار
نحن نعيش في عصر جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ما في هذا شك ولا ريب. ونحن مطالبون باكتشاف ملامح هذا العصر، وما يفرضه من متطلبات وتداعيات. وحين نتمكن من ذلك فإن الخطوة التالية تتمثل في إعادة برمجة وهندسة أحلامنا ورغباتنا وطموحاتنا بما تسمح به الظروف الجديدة، وإلا فإن تحقيق ما نصبو إليه يصبح بعيد المنال، ويصبح العمل من أجله نوعاً من هدر الوقت والجهد.
تقوم العولمة بعملية خلع وتفكيك واسعة النطاق، إنها تخلع الفرد من أسرته، والأسرة من مجتمعها، والمجتمع من أمته. وخلال هذا الخلع يحدث نوع من التهميش لكثير من القوى الجامعة والضابطة والمسيطرة؛ وذلك من أجل تكوين كتل ضخمة تكون لها السيطرة والنفوذ على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
العولمة تهمِّش فعلاً مجالات الحركة أمام الدول والحكومات من أجل تسهيل حركة الشركات العملاقة ذات الجنسيات المتعددة أو العابرة للقارات. ولهذا فإن من الممكن القول إننا نشهد اليوم إعادة تركيب العالم على الصعيد السياسي بطرق غير مباشرة.
نحن نحلم منذ زمن بعيد بأن يكون للمسلمين في العالم دولة واحدة، تجعل منهم قوة ضاربة، وتحمي بلدانهم من التآكل الداخلي والغزو الخارجي. وهذا الحلم ينبغي أن يظل موجوداً، لكن تحقيقه اليوم أو في مدى الثلاثين سنة القادمة يبدو بعيداً للغاية.. إننا نحب أن يكون لنا شيء هو أعظم بكثير من (الإمبراطورية) لكن في زمان يقاوم بناء الإمبراطوريات. وكلنا يشاهد الصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحاول توسيع نفوذها بما يشبه محاولة تشكيل إمبراطورية جديدة. ومن هنا فإن هناك من يقول: في المستقبل غير البعيد لن يكون هناك دول كبرى تفرض هيمنتها وتبسط سلطانها؛ ولكن سيكون هناك كتل ومجموعات عملاقة تفرض شروطها على الدول العظمى. والسبب في هذا أن الأموال والأعمال التي كانت تتركز في الدول العظمى، وتكوِّن من ثَم عناصر القوة فيها، باتت تتحرك في الأرض، وبات المستفيدون منها ينتمون إلى دول شتى. ويقدم جنوب شرق آسيا مثالاً على ذلك؛ حيث إن كثيراً من الشركات العملاقة باتت تهيئ فرص عمل كثيرة جداً لأبناء تلك المنطقة، وترتقي بقدراتهم الفنية، كما أنها تنقل اليوم الكثير من الخبرات التقنية خارج حدود أوطانها، مما يحرم الدول المسيطرة في العالم الكثير من امتيازاتها، ولكن تأثير هذا لا يظهر إلا بعد مدة.
ليس للعولمة قيادة مركزية وإن كان هناك من يحاول إخضاعها لرغباته ومصالحه، ولكن كل المشاركين في العولمة يتحركون على قواعد السوق وفي إطار التوجهات الليبرالية والرأسمالية، ومن هنا فإن العولمة تصنع وسائل انتشارها، وتستخدم وسائل موجودة، لكنها لا تستطيع في معظم الأحيان منع الضعفاء والمهمشين من استخدام تلك الوسائل لأهداف مضادة لأهداف العولمة ومصالحها؛ وهذا هو شأن الأفكار وشأن الوسائل، إنه المطاوعة للاستخدامات المختلفة.
انطلاقاً من كل ما تقدم فإن لمّ شعث أمة الإسلام في هذه الحقبة من التاريخ ينبغي أن يقوم على تكوين كيانات ذات طبيعة اختصاصية وعلى كتل ممتدة، يسهم فيها على قدر الوسعة والطاقة كل من يستطيع المساهمة على مستوى الحكومات والهيئات والمؤسسات والأفراد. ويمكن أن ترتكز البدايات على مواقع الإنترنت. نحن لا نريد تشكيل قوة ضاربة، ولكن نريد أن نقوي جسم الأمة ومعالجة المشكلات التي يعاني منها الكثير من أبنائها؛ وحين تتاح الفرصة لاجتماع الأجزاء القوية، فإنه يكون لوحدة الأمة معنى ودلالة وآثار ... أما اجتماع المرضى والضعفاء والمفلسين، فإنه لا يولد في العادة إلا المزيد من التوتر والمزيد من الشعور باليأس والإحباط.
وهذه بعض الأمثلة لما يمكن أن يتم:
١ - موقع عملاق علىِ الإنترنت ترعاه جهة أو هيئة يخصص لجمع معلومات عن العالم الإسلامي: سكانه واقتصاده وأحوال مجتمعاته والتقاليد والعادات السائدة في كل بلد؛ إلى جانب توفير معلومات عن التعليم في كل بلد وكذلك الصناعة والزراعة ... إن كثيراً من تباعد المسلمين عن بعضهم يعود إلى عدم توفر معلومات كافية عن العالم الإسلامي. والصعب دائماً هو البداية، وبعد ذلك تذلل العقبات، ويكثر العاملون والمتطوعون؛ ولا سيما أن لدينا أعداداً كبيرة من الشباب المتحمس والراغب في عمل شيء لكنه عملياً لا يقدم أي شيء.
٢ - تكتل اقتصادي أو نادٍ لرجال الأعمال المسلمين يتبادلون فيه الخبرات، ويُجرون من خلاله الدراسات، ويعقدون الصفقات، وينشرون المعلومات عن الاستثمارات والفرص المتاحة في البلدان الإسلامية، ويقومون بإنجاز المشروعات الكبيرة التي تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة.
٣ - إيجاد اتحاد عالمي يعمل على تحسين صورة الإسلام في العالم، ودفع الافتراءات الموجهة ضده.
٤ - إقامة أكبر عدد ممكن من الروابط بين الشرائح الاجتماعية وبين المهن والقطاعات المختلفة، مثل اتحاد الشباب المسلم، واتحاد الأسرة المسلمة، واتحاد المعلمين المسلمين، ومثل ذلك للأطباء والمهندسين والمفكرين والناشرين وغيرهم.
لا شك أن الطريق إلى تحقيق هذا ليس معبّداً، لكنه ليس مغلقاً، وحين نفكر بواقعية، ونعقد العزم على أن لا نضيع الممكن في طلب المستحيل؛ فإننا سنندفع بكل قوة في هذا الاتجاه. المهم أن نبدأ.
ومن الله ـ تعالى ـ الحَوْل والطَّوْل.