للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

الانفراط العظيم الأسباب

والآثار

أ. د. جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

هذا أوان أن نرجع إلى الانفراط العظيم ونتساءل: ما الذي سيحدث بعد هذا؟

هل كُتب علينا أن ننحدر إلى مستويات أدنى فأدنى من الفوضى الاجتماعية والخلقية؟ أم أن هناك سبباً معقولاً يدعونا لأن نتوقع بأن هذا الانفراط حالة طارئة، وأن

الولايات المتحدة والدول الأخرى التي عانت منه ستنجح في أن تكون لها قيم من

جديد؟ وإذا حدثت هذه الإعادة للقيم، ففي أي صورة ستكون؟ هل ستحدث تلقائياً،

أم أنها ستتطلب تدخل الدولة عن طريق السياسات العامة؟ أم أنه لا بد لنا من أن

ننتظر حدوث بعث ديني لا يمكن التكهن بمداه، ولا يمكن السيطرة عليه، لنعيد

القيم الاجتماعية؟

هكذا بدأ الكاتب الأمريكي فوكوياما الفصل الأخير من كتابه (الانفراط العظيم)

الذي كان قد قدم له بعدة فصول استغرقت أكثر من مائة صفحة، كان قد ذكر فيها

مصادر النظام الاجتماعي، وحصرها في أربعة هي: الطبيعة البشرية، والتنظيم

الذاتي، والدين، والسياسة، ثم تساءل هنا: عن أي مصدر منها سنستمد في

المستقبل؟ سنذكر فيما يلي رأي الكاتب ملخصاً مع تعليقات على بعض فقراته.

هل سيستمر الانحدار؟ يجيب الكاتب بأن الانفراط العظيم الذي حدث في

المدة التي حددها ليس نهاية المطاف، بل إنه ستكون عودة إلى القيم اللازمة

للمجتمع. لماذا؟

لأنه قد حدث مثل هذا الانفراط من قبل في التاريخ الأوروبي والأمريكي، بل

وفي اليابان؛ لكنه لم يستمر؛ بل عاد الناس بعده إلى الالتزام بالقيم الضرورية لكل

مجتمع إنساني. فهل سيحدث مثل هذا الرجوع إلى تلك القيم الآن كما حدث من قبل؟ يتفاءل الكاتب بأن هذا سيحدث، بل يرى أنه بدأ يحدث فعلاً؛ فمعدلات الزيادة

في الجريمة، والطلاق، والأطفال غير الشرعيين، وفقدان الثقة، بدأت تتباطأ

كثيراً في التسعينات، بل إن بعضها انعكس. كما أنه حدث تحول بقدر مائة

وثمانين درجة في آراء الأكاديميين بالنسبة للقيم؛ فهم الآن يقولون: إن القيم

وتركيب الأسرة تؤثر تأثيراً كبيراً في ما يحدث في المجتمع. إن فترة تعاظم الفردية

قد انتهت، وبعض القيم التي محتها فترة الانفراط بدأت تعود، وبدأت أصوات

مؤثرة تنادي بضرورة الانضباط في السلوك وتحمل مسؤوليات الأسرة والأطفال.

وهذه الأصوات أشد ما تكون مخالفة لما كان يقوله المعالجون النفسيون للناس في

الستينات والسبعينات. لقد كانوا ينصحونهم بمماشاة شهواتهم، وأن لا يلقوا بالاً

للضوابط الاجتماعية التي تقف في طريق " نموهم الشخصي ".

وهو يرى أن هذا الاتجاه سيستمر. لماذا؟ لأن الناس بطبيعتهم حيوانات

اجتماعية، وهم إلى ذلك صناع عقلانيون للقيم الحضارية. والفطرة والعقلانية يعين

كلاهما على نمو الفضائل العادية مثل: الأمانة، والثقة اللذين يكونان أساس

الرأسمال الاجتماعي. ويضرب مثلاً على ذلك بالقيم المتعلقة بالأسرة. لقد حدث

تغير هائل بعد الستينات في القيم التي تضبط سلوك الرجال والنساء فيما يتعلق

بالأسرة، تغيرٌ كانت نتيجته الإضرار بمصالح الأطفال: فالرجال عزفوا عن الأسر، والنساء أنجبن بطريقة غير شرعية، والأزواج تفارقوا لأتفه الأسباب. وكثيراً ما

تضاربت مصالح الآباء والأبناء؛ فالوقت الذي يُقضى في أخذ الولد إلى المدرسة أو

الملعب، يكون على حساب وقت يُقضى في وظيفة، أو مع صديقة، أو في أي

نشاط ترفيهي. لكن الوالدين لهم مصلحة فطرية في العناية بأطفالهم، فإذا ما بُيِّن

لهم أن سلوكهم هذا يضر بأولادهم، فمن المحتمل أن يغيروا سلوكهم تغييراً يكون

فيه عون للأولاد. لكن الوصول إلى مثل هذا القرار العقلاني لا يتأتى آلياً؛ ففي

فترة الانفراط العظيم أفرزت الثقافة العامة صوراً إدراكية أعمت الناس عن رؤية

الآثار الضارة لسلوكهم حتى على أقرب الناس إليهم؛ فقد كان علماء الاجتماع

يقولون لهم: إن النشأة في أسرة مفككة ليس بأضر من النشأة في أسرة متماسكة.

بينما كان المختصون في معالجة المشكلات الأسرية يطمئنونهم بأنه من الأفضل

للأطفال أن يتفرق الوالدان بدلاً من أن يبقيا متشاكسيْن. وقالوا لهم بأن سعادة أبنائكم

في سعادتكم، فلا بأس عليكم من أن تقدموا مصلحتكم على مصلحتهم. هذا وكانت

الثقافة العامة تصبُّ على الوالدين وابلاً من الأفكار التي تبرز الجنس بطريقة فاتنة،

وتصور الحياة العائلية التقليدية بأنها مرتع للنفاق، والقهر والخبث. إن تغيير هذا

كله يحتاج إلى نقاش، وحجج، بل وحروب ثقافية.

لكن الكاتب يذكرنا بأن النظام الاجتماعي لا يعاد تكوينه بجهود الأفراد وحدها، بل لا بد من أن تساعد عليه السياسة العامة للدولة، عن طريق قوات الأمن وعن

طريق التعليم.

يبدو من هذا الذي ذكره الكاتب أن السبب الحقيقي للانفراط لم يكن في التطور

التقني كما تقول نطريته التي بسطها في بداية كتابه، وإنما كان في بعض الأفكار

الضالة التي قُدِّمت للناس باسم بعض العلوم فصدقوها. وهذا يعني أنه لو كانت قد

شاعت بين الناس أفكار صحيحة فلربما لم يكن للتطور التقني تلك الآثار التي ذكرها. كان بإمكان الناس أن يستفيدوا من حبوب منع الحمل مثلاً من غير أن تشجعهم

على الإباحية الجنسية.

يتساءل الكاتب: إلى أي مدى ستستمر هذه العودة إلى القيم؟ من المحتمل -

فيما يرى - أن نرى تغيراً في مستويات الجريمة، ومستوى ثقة الناس بعضهم

ببعض وبالمؤسسات والحكومات، أكبر مما نرى في القيم المتعلقة بالجنس،

والإنجاب، والحياة الأسرية؛ لأن التطور التقني والاقتصادي جعل الرجوع إلى

القيم السابقة بالنسبة لهذه الأخيرة أمراً في غاية البعد؛ لأن الخوف من الحمل قد

زال بسبب الحبوب، ولأن الخوف من أن يعيش الطفل غير الشرعي حياة بائسة قد

زال بسبب عمل المرأة وبسبب الإعانات الحكومية. وقلة الإنجاب لن تتغير؛ لأن

الوالدين يريان أن من مصلحة أولادهم أن لا تكثر أعدادهم.

وما يقوله الكاتب هنا مبني على تصور غالط لمضار العلاقات الجنسية غير

الشرعية. إن مضارها ليست محصورة فيما ذكر؛ بل إنها لتؤثر على العلاقة بين

الزوجين وتتسبب في الطلاق، وفي اختلاط الأنساب، كما تؤثر على العلاقة بين

الوالدين وأبنائهم، بل إن هذه الفاحشة لتؤثر تأثيراً نفسياً سيئاً على كل مرتكب لها.

والفردية التي عدها الكاتب من أسباب الانفراط لا علاقة ضرورية بينها وبين

التطور التقني، بل كان بإمكان الناس أن يبقوا على أريحيتهم وهم يتطورون تقنياً.

لكن الذي يرجوه الكاتب هو أن تتغير القيم المتعلقة بعمل المرأة. إن القيم

السائدة الآن - ولا سيما في البلاد الاسكندنافية - تعلي من قدر المرأة التي تعمل،

وتنظر باحتقار إلى التي تبقى في البيت. فإذا ما تبين أن عدم بقاء الأم مع أطفالها

الصغار ضار بهم فإن هذه القيمة الشائعة الآن قد تتغير فيما يرى. وقد يساعد

عصر المعلومات في حل إشكال عمل المرأة بأن يمكنها من أن تعمل من داخل بيتها.

وكما كان للدين تأثير في إعادة بناء المجتمع في الماضي فيتوقع أن يكون له

تأثير الآن، لكن الرجوع إلى الدين هذه المرة لن يكون رجوعاً إلى التصديق

بالوحي، بل سيكون رجوعاً إليه بسبب تأثيره الحسن على الحياة الاجتماعية.

يبدو أن الكاتب ليس رجلاً متديناً؛ لكنه مع ذلك يعترف في كتابه بما للدين

من تأثير في ما سمي بالرأسمال الاجتماعي. فالدين في رأيه هو الذي جعل القيم

قيماً إنسانية عالمية، لا قيماً فردية أو أسرية أو قبلية. لكنه يعتقد - كما رأينا -

بأنه من غير المحتمل أن ترجع المجتمعات الحديثة إلى التصديق بحقائق الدين.

لكن قيم الدين مبنية على الإيمان بحقائقه؛ فهي تابعة لهذا الاعتقاد ومنبثقة عنه،

فإذا ضعف أو انعدم الإيمان بحقائقه ضعف أو انعدم الإيمان بالقيم الخلقية المتصلة

به. إن مشكلة الغربيين أنهم يفترضون أن كل ما يصدق على الدين الذي عرفوه

يصدق على الأديان الأخرى، فكأن الأديان كلها عندهم دين واحد هو الدين

النصراني. ومن البداهة أن هذا ليس بصحيح، وإذن فإن التطور العلمي والعقلاني

الذي أدى إلى ضعف الإيمان بالنصرانية لن يؤدي بالضرورة إلى ضعف الإيمان

بالإسلام، بل المتوقع أن يؤدي إلى الإيمان به، لما يجده فيه من يعرفه من عدم

التناقض مع مقتضيات العقل، أو المخالفة لحقائق العلم. فلماذا لا يكون الرجوع

إلى القيم اللازمة للمجتمعات عن طريق هذا الدين الذي لا يجد الشخص المعاصر

مشكلة في الإيمان بحقائقه؟ هذا الذي نتوقع أن يحدث: [سنريهم آياتنا في الآفاق

وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق] [ {فصلت: ٥٣] .}

يختم المؤلف كتابه بتخوفه على المجتمعات الليبرالية السائدة في الغرب الآن؛

وذلك لسببين:

أولهما: القيم الخلقية الوحيدة التي تقدمها الليبرالية للمجتمع هي قيم التسامح

والاحترام المتبادل. لكن حين تتحول هذه القيم إلى عودة إلى التعدد الثقافي بدلاً من

التسامح معه، وحين تصل النسبية الخلقية إلى غايتها، فإن الليبرالية تكون قد بدأت

تتسبب في انهيار الأرض التي تقف عليها.

وثانيهما: أن التطور قد يجعل الالتزام ببعض القيم عسيراً مع أنها لازمة

للمجتمع، فإذا ما تسارع هذا التطور لم يعط الناس فرصة للتكيف، فتكون النتيجة

تأثيراً سيئاً على المجتمعات.

ونختم نحن تعليقنا بتكرار القول بأن في الحقائق التي ذكرها الكاتب ما يؤكد

أن علة العلل بالنسبة للمجتمعات الغربية ليست في التطور التقني متسارعاً كان أم

متباطئاً، وإنما هي في بعدهم عن الدين الحق الذي يمدهم بالقيم الفاضلة،

واستعاضتهم عنه بأفكار قد ثبت الآن بطلانها وعقمها الخلقي. وعليه فلا حل

لمشكلة التدهور الخلقي الذي صحب التطور العلمي والتقني إلا في الاستمساك بدين

لا تتناقض مقرراته مع الحقائق العلمية ولا تتنافى مع القوانين المنطقية.

والله الهادي إلى سواء السبيل