خواطر في الدعوة
التخصص.. أو التشتت
محمد العبدة
بالغ الغربيون في التخصص، وأعجبهم ذلك لما لمسوه من الفوائد في أول
الأمر، فتجد العامل أو الموظف أو المدرس لا يعلم إلا في حيز ما أسند إليه، فإذا
خرج عن هذه الدائرة فهو لا يفقه شيئاً، وهذه ناحية إيجابية في الأصل، لأنها تنتج
المهارة، وتعطي النتائج السريعة.
ولكن شدة التخصص أدت في النهاية إلى ضيق الأفق وضعف المدارك في
بقية شؤون الحياة. والمبالغة تؤدي إلى نقيضها أحياناً، فشدة البياض تصبح مهاقاً
ويقابل هذا التخصص عند الغربيين ما عند المسلمين من ميل نحو الموسوعية
الفضفاضة في العلم، وحشر أنفسهم في شتى المجالات في العمل، فالفرد هنا
مطالب بأن يعلم كل شيء، أو له خبرة في كل شيء أو هكذا يدعي ولا يزال
يعجبهم القول القديم: فلان (بحر علم) أو (دائرة معارف) ونسوا أو لم ينتبهوا إلى
أن هذا العصر لا يحتمل مثل هذا، وإذا كان في العصور السابقة من هو فعلاً (بحر
علم) فإن هذا لا يصح اليوم، بل لن يتهيأ له وإن أراده، لتشعب الأمور وتعقدها،
مما لا يتيح صفاء للذهن وراحة للجسم.
وإذا كان هذا في العلم، فكذلك في الدعوة ومن يتصدى لها، فلن يتهيأ له أن
يتقن كل شي. وإذا حاول فإنما يأتي به على وهن وضعف، أو يأتي به فجاً لم
ينضج بعد.
فإذا كان الداعية المسلم هو المواطن أو التاجر، وهو الكاتب والخطيب
والمتحدث، وهو الذي عليه أن يحل مشاكل الناس ... فهل يستطيع الإحاطة بكل
هذا، وهل ينتج في دعوته، وإذا كان بعض الرجال يتحملون هذا كله، ويقومون
به، فإن غيرهم لا يستطيع، وإذا كان البعض قد أوتي قدرة وتحملاً وصبراً، فأين
تدريب من هو دونه على تحمل المسؤولية وتنمية مواهبه في فن من فنون العمل؟
وقد رأينا من أساتذتنا من يقوم بهذا، ولكن كثرة الأعمال تثقل عليه في النهاية، وتجعله لا يستطيع أن يقوم بجزء منها، ونكون قد خسرناه مرتين. مرة: لأننا لم
نستفد من اختصاصه.
والثانية: أننا لم نستفد من فترة اكتمال تجربته ونضوج عقله.
ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية المعلومات العامة، وتوسيع المدارك،
ولا من قدرات بعض الناس، وإنما نريد أن نكون واقعيين نعرف روح
العصر وما يتطلبه، ونعلم كيف تتطور الأحداث، وكيف نستفيد من التيسيرات المادية الحديثة التي توفر الجهد، وتساعد على التغلب على ما فقد من صفاء الذهن، كما نريد أن يتعمق أهل الاختصاص في اختصاصهم دون أن يفقدوا ميزة سعة الأفق، كي نستثمر جهودهم ولا نشغلهم بأمور شتى، فتضيع الجهود أو لا ينتجون إلا قليلاً.