المسلمون والعالم
الجزائر
حزب فرنسا.. حرب فرنسا!
د/ عبد الله عمر سلطان
الحديث عن الجزائر ونزفها المستمر يدخل تحت تصنيف (السهل الممتنع) ؛
سهل؛ لأن توالي الأحداث وتفاصيل الأخبار لازال يؤكد حقيقة هامة صارخة وهي
أن استئصال التيار الإسلامي من الأرض الجزائرية بحجة محاربة الإرهاب قد
جرت البلاد إلى حرب أهلية بمعنى الكلمة، وأن الطرف الذي اختار هذا الطريق
الملغوم قد كشف بعد عام من مسرحية صعود القيادة الجديدة أن الرصاص والبطش
خياره وحسب! !
أما الصعوبة فهي أن الحدث بالرغم من بساطة مكوناته قد أحاطت به أكوام
من المعالجات الإعلامية والفكرية التي تحاول أن تعالج النتيجة ولا تقرب السبب
وأن توجد إجابات للأسئلة الملحة دون النظر إلى الحقيقة التي أنجبت هذا المولود
البائس المسمى بالحالة الجزائرية.
بعض المعطيات أصبحت في حكم القناعات التي لا تقبل الجدل والنقاش،
وكثير من التضليل تم مزجه بقليل من الحقيقة حتى يذر الرماد في العيون وينشغل
المتابع في جزئيات وفرضيات دون المساس بالجوهر أو التطرق إلى أصل الداء
والعلة..
ولعلنا هنا نطرح ثلاثة أسئلة مهمة لفهم الواقع الجزائري - بعد مرور أكثر
من عام على تولي الحكومة الجزائرية للسلطة - وهذه الأسئلة كفيلة بأن تنقلنا
لاستعراض أهم العناصر التي تشارك في صنع المأساة الحالية.
- أول هذه الأسئلة المهمة والملحة تقول: حينما قبلت الحركة الإسلامية -
ممثلة في جبهة الإنقاذ - أن تشارك في الانتخابات النيابية وفازت بها ... هل كانت
نتيجة الفوز المحتمل تساوي الواقع المأساوي الذي دمر البلاد وأهلك الحرث
والنسل؟ ؟
- هل كان القادة العسكريون يظنون أن الشعب الجزائري سيرضى بأن يسرق
خياره ثم يصمت؟ أم كان متوقعاً أن يكون هناك نوع من المقاومة المحدودة التي
يتكفل الكلاشنكوف بإسكاتها؟ ؟
... ثم، مع تشعب الأزمة واستفحالها، هل كان التدخل الدولي محتملاً؟ .
وهل أصبح اتهام الأطراف المتقاتلة بالارتباط الخارجي تهمة وإشاعة أم حقيقة واقعة
يستفيد منها طرف في النزاع دون الأطراف الأخرى..؟
وبما أن المشهد الجزائري ملتهب بما فيه الكفاية فربما اكتفينا بهذه المحاور
الثلاثة التي تشكل الأسئلة والمنطلقات الرئيسة التي تطل برأسها مع تصاعد
الأحداث وتشابك عناصر الأزمة.
الصمود الذي فاق التوقع:
كان قادة (ما يعرف الآن بالفريق الاستئصالي) يدركون حتماً ما كانوا يقدمون
عليه حينماً قرروا إلغاء الجولة الثانية من انتخابات ١٩٩١م وما رافق هذا القرار
من إجبار لرئيس الدولة (الشاذلي بن جديد) على الاستقالة بصورة فيها الكثير من
الإهانة والذل لرمز من رموز (حرب التحرير) وزعيم البلاد (الدستوري) ..، كان
الإتيان بـ (محمد بو ضياف) ليلعب دور (التيس المستعار) الذي يتحرك من ورائه
قادة الانقلاب يمثل في الحقيقة احتراق آخر أوراق الشرعية التحريرية التي تتكئ
على تجربة الاستقلال عن فرنسا وبدء مرحلة جديدة تتسم بالارتباط المباشر
بالفرانكفونية والعداء الشديد للإسلام والعروبة، كان (الحركيون الجدد) يملؤون
الفضاء الإعلامي وينحشرون في كل خلايا أجهزة الدولة المتهرئة، وكما كان
(الحركي) السابق مرتبطاً بالمستعمر الفرنسي ومحارباً في صفوف جيشه ومخابراته
خلال حرب الاستقلال السابقة فإن (الحركي) الجديد كان يحارب أهله وشعبه معتقداً
أن الانحياز لثقافة وفكر العلمنة المتفرنس سيضمن له البقاء في السلطة والتمتع
بخيرات البلاد ومواردها.
يقول (ستيفن أندرسون) : (لم يكن أحد يتوقع - بعد إلغاء الانتخابات - أن
تتسع دائرة الحرب إلى هذا المستوى، وأن تبلغ هذه المرحلة من التصعيد الكثيف،
لقد أخطأ القادة العسكريون وحلفاؤهم في الخارج التقدير، فخلال ثلاث سنوات من
الحكم البوليسي برزت ظاهرة الفرز الجماعي الحالي، وأصبح الشارع الجزائري
منقسماً إلى تيارين: أقلية مرتبطة بالفّرْنَسَة والعلمنة تحكم وترفض أنصاف الحلول، وغالبية متعاطفة مع العروبة والإسلام تقذف كل يوم بفلذات أكبادها لرفض
أنصاف الحلول الأخرى ... ) .
(أحمد بن بله) الرئيس الجزائري السابق الذي لا يمكن وصفه (بالأصولية)
يلقي بتفسير لهذا التعاطف الذي أدى إلى أن يقف سواد الجزائريين خلف المشروع
الإسلامي بقوله: (هناك أوساط غربية تخشى ما يسمى بالتيار الإسلامي، وهناك
تفسير خاطئ للصحوة الإسلامية نفسها، إنهم يعتقدون أنها ظاهرة سببها الفقر
واليأس، قد يكون البؤس جانباً من هذه الظاهرة، ولكن الحقيقة هي نظرة المسلمين
المختلفة إلى المجتمع الاستهلاكي المادي ومظاهر البعد عن الله، وجبهة الإنقاذ
قدمت مشروعاً يحترم قيم المجتمع ويحاول إيجاد الحلول لمشاكله، ومع أن الجبهة
منغلقة على نفسها لكنهم في نظر الجزائري وفي نظري أناس أوفياء شرفاء يضحون
من أجل مبادئهم، إن عناصر الإنسان (الثوري) الشريف موجودة فيهم ... (عباسي
مدني) كان جندياً في الجيش الجزائري أيام حرب التحرير، وكذلك كان عدد كبير
من قادة جيش الإنقاذ ... إنهم مناضلون.. والمشكلة الكبرى أن الأرض الجزائرية
قد تحررت لكن بقي الاستعمار حياً في تشريعات الدولة ومناحي الحياة الثقافية
المرتبطة بفرنسا، اليوم -باختصار- تنظر فرنسا إلى الجزائر وكأنها مستعمرة،
ولذا: فالشعب بالأمس واليوم ضد الغاصب ومع المناضل من أجل إعادة هويته) .
أما مراسل التلفزيون الإيطالي فقد علق على ظاهرة الصلابة في الصمود بأنه: (نابع من معطيات الشارع ونبضه؛ فالإسلاميون أصبحوا القوة (الظاهرة) الوحيدة
التي لم تلكها الألسن في قضايا الفساد أو شراء الذمم، وهم الطرف الأقوى سياسياً
وعسكرياً، وعندما دعا (علي بلحاج) أركان النظام الجزائري إلى مناظرة تلفزيونية، يكون للشعب الجزائري الرأي الأخير في الحكم على الطرفين، فإنه كان يعلن
بكل وضوح بأن الشعب معنا وأن التدليس والدجل الإعلامي لا يتحمل مجرد مناظرة
من عدة دقائق..!)
هذه المعطيات دعت إلى التساؤل عن قدرة الحل العسكري على الاستمرار؛
فبالرغم من أن النظام ظل يعلن أن حملته التي بدأت في التصعيد قبل ثلاثة أشهر
للقضاء على كل الجماعات المسلحة التي يزيد عدد أفرادها عن خمسين شخصاً إلا
أن فشله كان واضحاً، مما دفع أحد المراقبين إلى التعليق بسخرية قائلاً: (لا شك
أن خبراء الأجهزة الأمنية سيكونون مدينين للسلطات الجزائرية إن هي أمدتهم
بالطريقة السحرية التي اعتمدتها في القضاء على هذه المجموعات التي عادت لتوجه
صفعة قوية باختطافها الطائرة الفرنسية في أكثر المواقع الحيوية في الجزائر،
ولتثبت للجميع الإعلام العالمي الغربي والجزائري قد أصبح مخنوقاً بدرجة فظيعة،
إن هذه الدولة - التي لم تعد تملك سوى ميلشيات ومجموعة ضئيلة من المؤيدين
أصحاب السمعة السيئة والوزراء المتخبطين - تشكل في النهاية عامل ترجيح
للجماعات التي حوصر قادتها في السجون فانطلق الشباب في هياج يحرق الأرض
ويدمر ما أمامه ...)
الكلاشنكوف في النهاية ولد كلاشنكوفات كثيرة في أيدي الشعب ولم ينجح في
حل الأزمة!
الواقع القائم وتسويق خطر الأصولية:
يمكن القول اليوم أن قادة التيار الاستئصالي من العسكر قد فهموا قواعد اللعبة
الدولية باكراً عندما صرحوا بعد إلغاء الانتخابات بأنهم الورقة الوحيدة القادرة على
الوقوف أمام (الخطر الأصولي) ! ، وفي خضم تسويق هذا الخطر وقعت الدول
الكبرى في شَرَك التناقض الذي يمتد من البوسنة إلى الشيشان، والذي يترجم إلى
حرب شرسة على الأجساد المسلمة فضلاً عن الحرب على الأفكار الداعية إلى
تحكيم الإسلام وشرائعه..، وسيقف المؤرخون يوماً (قد لا يكون بعيداً) لكي يتأملوا
كم كان الزيف والنفعية والنظرة القاصرة والعجلى قد انتهت لصالح المشروع
الإسلامي عندما كشف الغرب عن حقده وانحيازه، وكيف داس على مُثُل
الديموقراطية (التي يدعي حمايتها) وساند تياراً استئصالياً نزقاً دون مراعاة للشعوب
التي لا يزال فيها بقية من أنفة..
كان الفرانكفونيون والعسكر واللصوص يعلنون بأعلى صوت (المد الأصولي
قادم) ثم لا تلبث فرنسا وحليفاتها أن يهرعوا ويهرولوا ليدعموا بأي وسيلة تصفية
ذلك (الشبح) دون التحقق أو التمعن في مضمون الملف الجزائري فضلاً عن
المجاملة لشعب اختار - لأول مرة - من ينطق بأحلامه ورؤاه.
دَغدَغ التيار الاستئصالي القوم وضرب على الوتر الحساس، فكانت ثلاث
سنين من الرعب والدم والقهر، وجر البلاد إلى دوامة الدمار وخراب الديار..
مراسل هيئة الإذاعة البريطانية زار مناطق من الجزائر تسيطر عليها الجماعات
المسلحة التي خرجت من رحم الأزمة وتزودت من المعين نفسه الذي غرف منه قادة
الانقلاب ... العسكر كانوا ينادون بالاستئصال والضرب في السويداء، والشباب
الذين غُيب قادتهم في المعتقلات لجأوا إلى الجهاد ... يقول المراسل: (من الصعب
أن تقارن بين حماس الشباب المسلح وحكمة الشيوخ المعتقلين، ومن الصعب
التفاهم اليوم مع شباب أخذوا حقهم بأيديهم وتمتعوا في مناطق واسعة بنفوذ وشعبية
لوقوفهم ضد النخبة الحاكمة المقطوعة عن الشعب وقواعده، كان بالإمكان أن تجنب
البلاد خطر هذا العنف الدموي - وبالإمكان تجنيبها مزيداً من الخراب - لو أن
الشارع الجزائري مارس خياره الأصولي ... وهذا ما يقوله كثيرون من الذين
قابلناهم وهم يرددون: بالله عليكم (حكم قال الله قال الرسول) أم هذا الانتحار
الجماعي والتدمير الذي لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا مَسَّه) .
لقد فطن المجتمعون في روما من قادة الأحزاب المؤثرة هذا المنطق وإن
جاءت القناعة متأخرة، فالتخويف من الإسلاميين الذي شارك فيه بعض هذه
الأحزاب قد أدى إلى تلاشي أي نشاط سياسي أو مبادرة لانتشال البلاد من الحرب
الأهلية، وأصبح دورهم بمثابة القنطرة التي تعبر عليها جنازير الدبابات العسكرية
التي تصر على لغة الحديد والنار ... أحد قادة حزب التحرير قال خلال وجوده في
روما: (الحقيقة مغيبة عن العالم تماماً؛ هناك دولتان في الجزائر، واحدة في المدن
والمعسكرات والقواعد العسكرية ترتبط بالبلاد عبر جهاز القمع الذي يسمى (الننجا) ، وآخر يسيطر على الأرياف ومحيط المدن والمدن ذاتها بعيد الظلام ليلاً..)
والحكومة غاضبة أشد الغضب لأن بعض وسائل الإعلام نقلت شيئاً من هذا الواقع؛
لأن المطلوب عزل الجزائر عن الرأي العام نهائيا حتى يتم تنفيذ حلم فئة العسكر
المحدودة العدد والشعبية، إن الإجابة على هذا المحور لن تنتهي قريباً كما يبدو،
فطالما أن هناك شبحاً تزداد السهام الموجهة إليه، فإن ازدياد القمع والقتل سيكون
مبرراً في العواصم الكبرى طالما أن سوق (الخطر الأصولي) تلقى مزيداً من
المضاربين في بورصة السياسة الدولية.
حرب فرنسا:
مقابل اتهام الإسلاميين من قبل النظام بارتباطات خارجية، كانت الشهور
الماضية تشهد أكثر من اتهام الإسلاميين لخصومهم بأنهم حزب فرنسا.. كانت تشهد
تحولاً من (حرب حزب فرنسا) ... إلي شطب الكلمة الوسطى لتصبح المرحلة
معنونة (بحرب فرنسا) ، والاتهام لا يطلقه الإسلاميون فقط بل إن بعض الساسة
الفرنسيين أخذوا يحذرون من الوقوع في حبال (المصيدة الجزائرية) كما صرح
الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان، الذي طالب حكومته بالتفريق بين النضال
ضد الإرهاب - وهذا الذي يجب أن يكون قائماً وبلا تحفظ - وبين الدعم غير
المشروط وغير المحدد الذي يقدم للسلطات الجزائرية، وهو قريب من موقف قائد
الاتحاد الديموقراطي الفرنسي (جان دونيو) الذي طالب حكومته بالحياد في هذا
النزاع.
لكن التمني والمطالبة شيء والواقع شيء آخر، فقد أبرز اختطاف الطائرة
الفرنسية للعيان كم هي ضالعة - فرنسا - في الحدث الجزائري، ويكفي هنا أن
نذكر ما نقلته الصحافة العالمية عن رئيس الوزراء الفرنسي (إدوارد بلادور) الذي
طلب من الحكومة الجزائرية أن تسمح للطائرة بالتوجه إلى فرنسا، وحينما تردد
(مقداد سيفي) رئيس الحكومة كان الطلب الفرنسي يحمل صيغة الأمر (Exiger)
مما أدى إلى توتر في العلاقة بين العاصمتين وانتشار روح التذمر في الشارع
الجزائري من هذا التدخل الفرنسي المباشر في الأحداث والمساس بالسيادة! !
ويمكن تلمس هذه المشاركة الفرنسية المباشرة من خلال الدعم الاقتصادي
المباشر للحكومة العسكرية المتمثل في إعادة جدولة الديون وممارسة ضغط على
المجموعة الأوربية للتخفيف من حدة الأزمة الناتجة عن ديون خارجية تتجاوز
٧٠ مليار فرنك فرنسي، كما قامت فرنسا بفتح اعتماد جديد للحكومة الجزائرية يتجاوز المليار دولار لتمكينها من شراء المواد الأساسية، ولولا هذا الدعم المباشر لانهار نظام الحكم في ظل الفساد وتراجع العائدات النفطية، أما في مجال الدعم العسكري فإن الصحافة الفرنسية والعربية قامت بنشر تفاصيل الصفقة التي تضم آليات جديدة وطائرات (مروحية) وأجهزة قتال ليلية والإشراف على تدريب عناصر الجيش الجزائري في البلدين، كما أن البصمات الأمنية الفرنسية أصبحت معروفة حيث ترفض فرنسا أن يقوم الجيش الجزائري بحماية المصالح الفرنسية في البلاد، وتقوم قوات أمنية فرنسية بهذه المهمة! ! وأخيراً يبرز الغطاء السياسي المباشر الذي يقوم به الحكم الفرنسي لصالح الحكم العسكري حيث أصبح من أشد أنصاره، ويكفي أن يشار هنا إلى الانتقادات الفرنسية المتكررة لدول التحالف الغربي لعدم حماسها لمشروع الدولة العسكرية الاستئصالية في الجزائر، الذي تتردد بريطانيا وألمانيا وأمريكا في دعمه علناً.
المشهد الحاضر يجعل من حرب فرنسا مهمة صعبة، لأنها جربت قبل عقود
قليلة أن تمارس سياسة العصا الغليظة تجاه شعب الجزائر، فكانت الكارثة، ومع
مرور الأيام - المليئة بالدمار والهلع - انْزَلَقَتْ فرنسا مرة أخرى في المستنقع
الجزائري بعد أن أثبت (الحركيون الجدد) أنهم لا يستطيعون أن يديروا رحى
الصراع مع الشعب المنكوب.
يقولون: (التاريخ يكرر نفسه) .. لكن، من يصدق أنه يفعل ذلك بهذه
السرعة؟ ! .
قطوف رمضانية
الصوم مناط لتحقيق العبودية، وهي الوصف الذي نُعت به كل من اصْطُفي
من الخلق، قال الله (تعالى) : [واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلِي
الأَيْدِي والأَبْصَارِ * إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ
المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ]
(رسالة العبودية لابن تيمية ص ٨٥)