للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

عمارة المسجد وعمارة الأرض ...

التوازن المفقود في حياة الأمة

د. محمد يتيم [*]

هناك حقيقة يقررها المؤرخون والدارسون للحضارة الغربية المعاصرة، وهي

أن روح المغامرة تُعد إحدى الخصائص السلوكية والنفسية والاجتماعية التي ساعدت

في بناء تلك الحضارة. فهي التي قادت عدداً كبيراً من التجار والعلماء والمستكشفين

إلى الضرب في أدغال القارات وركوب مخاطر البحر. ولقد كان اكتشاف الطرق

التجارية مثل طريق رأس الرجاء الصالح، والقارة الأمريكية أو ما يُصطلح عليه

بالعالم الجديد أثراً من آثار تلك الروح الاستكشافية.

ونصاب نحن المسلمين بالدهشة ونحن نتابع البرامج الوثائقية التي تصور

«رهبانية» علماء وباحثين غربيين انقطعوا انقطاعاً تاماً لبحوثهم وكشوفاتهم

ورحلاتهم، وخرجوا «في سبيل العلم» تاركين وراءهم أزواجهم ومتع الحياة

الدنيا فنمتلئ تقديراً وإعجاباً بهم؛ فهم لم يكتفوا بما راكموه من حقائق علمية حول

أسرار الكون وعجائبه، بل أبوا إلا أن ينقلوا ذلك في شكل برامج حية تسر

الناظرين. ومن منا لم يتابع بتقدير كبير وبرامج مثل رحلات العالم الفرنسي

كوسطو؟!

لكنه من اللازم أن ننبه إلى أن تلك الروح المغامرة إنما كانت أثراً من آثار

نمو طبقة بورجوازية ضاقت بها أقطار العالم الأوروبي، ولم يستجب ضيقها

لجشعها إلى المواد الأولية ولرغبتها في سوق واسعة تستهلك منتجاتها، مما أدى إلى

تحول روح الاستكشاف عندها إلى واقع استعماري وتوسع استكباري.

ولقد ارتبطت النجاعة والفاعلية عند المستكشفين والمغامرين الغربيين

بالأخلاقية العلمانية والنفعية مما جعل الحداثة الأوروبية انتقاماً من النظام الكهنوتي

الذي كان قد تسلط على دنيا الناس وآخرتهم، وتحالف لقرون طويلة مع الإقطاع،

وسانده وكرسه، وتحالف مع ملوك أوروبا خلال عصر، ولقد كان لذلك كله آثار

كارثية أدت إلى تدمير حضارات وإبادة شعوب بكاملها دون رحمة أو شفقة كما هو

شأن الهنود الحمر. ووصل الحد بتلك الأخلاقية الحداثية اللائكية إلى تسويغ تلك

الجرائم التاريخية كما نجد ذلك في أكبر الفلسفات الأوروبية التي اعتبرت كل ما

يحدث في التاريخ العالمي إنما هو ترجمة لصيرورة «منطق العقل» كما هو

الشأن عند الفيلسوف الألماني هيجل من خلال مبدئه الشهير «كل ما هو عقليٌّ فهو

واقعيٌّ، وكل ما هو واقعيٌّ فهو عقلي» ، أي أن كل حدث تاريخي مهما كان سلبياً

من الناحية الأخلاقية، فهو حدث في مكانه من ناحية منطق التاريخ أي منطق العقل

الكلي.

ووجدنا في فلسفة ينتشه «أيضاً شيئاً شبيهاً بهذا التسويغ حينما تحدث عن

أخلاق القوة (أخلاق الرأسمالية) وأخلاق الضعف (الأخلاق الدينية المسيحية) ،

وكذلك في فلسفة ماركس الذي اعتبر أن الأعمال القذرة التي قامت بها إنجلترا في

الهند تندرج في إطار رسالة ومهمة» تحضيرية «.

وهكذا؛ فوراء تلك الروح المغامرة التي قد تملأ بعضنا إعجاباً بحركة

الاستكشاف الأوروبي، وروح المغامرة التي تدفع بعضهم إلى أدغال ومجاهيل

إفريقيا، وتقود بعضهم الآخر إلى حياة أشبه ما تكون بحياة الزهاد الذين يتركون

وراءهم ظهرياً مُتَعَ الدنيا ولذَّاتها ونعيم العيش وكمالياته ورفاهياته داخل المجتمعات

الأوروبية. توجد أخلاق هي (أخلاق القوة) بتعبير هيكل، و (أخلاق الرأسمالية

الجشعة) التي لا تعرف سوى لغة المصالح ولا تعترف بقوة الأخلاق.

* أمة خروج وانتشار.. لا مغامرة واستكبار:

وإذا أردنا أن نقيم مقارنة بين ذلك الواقع التاريخي الأوروبي والثقافة التي

أنتجها أي ثقافة المغامرة والإقدام المدفوعة بغريزة القوة والتسلط، وبين المسار

التاريخي الذي أنبنت فيه حضارة الإسلام وأمة الإسلام أمكننا أن نؤكد بأن الإسلام

قد أخرج الأمة العربية من نطاقها الضيق المحدود كي تنتشر بسرعة مذهلة في

الأرض؛ حيث أظلت رسالة الإسلام وحضارته العالم المعروف آنذاك في سرعة

قياسية بالمقارنة مع الوسائل التي كانت متوفرة آنذاك.

ولنا أن نتصور كيف كان الصحابي الجليل يخرج من الحجاز قاصداً مجاهيل

المغرب الأقصى أو مجاهيل الهند أو السند أو الصين ليس في يده خريطة توضح له

المسارات، ولا يعرف لغة القوم ولا تخرَّج في معهد لتخريج الدعاة أو تعليم اللغات

والتكوين على المهارات، وكيف كان يخرج مجاهداً أو داعياً لله وهو موقن بأنه لن

يعود إلى أرضه ووطنه، ولن يستظل بعد ذلك بسمائه أو يشرب ماءه، وكيف كان

الصحابة والتابعون يركبون أهوال البحر، ويخترقون فجاج الأرض بجبالها

وسهولها ووديانها وشعابها، فلم يكونوا يحملون معهم سوى عقيدتهم وإيمانهم برسالة

الدعوة التي فهموا أنهم مستأمنون عليها منذ أن قرؤوا قول الله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس] (آل عمران: ١١٠) ، وقوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: ١٤٣) .

وهناك يكمن الفرق بين خروج وخروج؛ فذاك خروج منطلق من روح

المغامرة المنبعثة من أخلاق القوة وروح السيطرة، والرغبة في العلو والاستكبار،

استجابة لشهوات النفس المادية والمعنوية، وبين فلسفة الانتشار القرآنية الواردة في

قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه]

(الملك: ١٥) ، وقوله تعالى: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ

وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الجمعة: ١٠) .

* بين الانتشار والانفضاض:

إنه الفرق بين المشي في مناكب الأرض باعتباره أكلاً من رزق الله والانتشار

فيها ابتغاء فضله، وبين المغامرة باعتبارها اعتداء على الخلق وإفساداً في أرض

الله. إنه الفرق بين الإعمار للأرض والاستخلاف الراشد الذي لا ينسى صاحبه ذكر

الله وبين التسلط المفسد في الأرض المهلك للحرث والنسل وإن بدا في ظاهر أمره

إصلاحاً وإعماراً.

إنه الفرق بين المغامرة باعتبارها انفضاضاً عن الدين؛ أي باعتباره انفصاماً

بين حركة الإنسان على الأرض وأحكام الوحي ومبادئه وقيمه، وبين الانتشار

باعتباره ذِكْراً متواصلاً لله، وتذكراً أن ثمرة كل زراعة أو تجارة أو صناعة إنما

هي من رزق الله تقتضي شكراً وذكراً؛ وذلك هو المعنى الوارد في قوله في سورة

الجمعة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ

وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي

الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً

أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ

خَيْرُ الرَّازِقِينَ] (الجمعة: ٩-١١) .

لقد أُمرت الأمة أن تسعى إلى ذكر الله، فكانت الصلاة، وكان أكبر شيء فيها

ليس هو حركاتها ووقوفها وركوعها وسجودها وقيامها وغير ذلك مما لا تقوم الصلاة

إلا به مما أمرنا أن نقتدي فيه بهدي رسول الله، وإنما هو ذكر الله: [إِنَّ الصَّلاةَ

تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت:

٤٥) .

وكان للصلاة وقت وجب المحافظة عليه، وكان من تمام إقامتها حضور

جماعتها وجُمَعها، فكانت الصلاة واجباً، وكان إيقاعها في وقتها واجباً أيضاً. وأخذ

من ذلك العلماءُ أن من الواجبات ما لا يسقط، وما لا تسقط به التبعة إلا إذا تم

إيقاعه في الوقت، فأكدوا على وقت الواجب، وواجب الوقت.

ولذلك يتعين فضلاً عن القيام بالواجب إيقاعه في وقته: فللتنظيم الزماني

للعبادات حكم ومقصد قد نعلم بعضاً منها، وقد يخفى عنا بعضها الآخر، ولذلك كان

من الواجب السعي إلى الجمعة إذا وجبت بالنداء، وترك ما دون ذلك من الأعمال

والطاعات. ولقد أبطل الفقهاء كل العقود والتجارات والمبادلات التي يتم عقدها في

وقت الجمعة؛ لأنها ساعة ذِكْرٍ مخصوص في شكل مخصوص، وهي صلاة

أسبوعية جامعة يستمع الناس قبلها لموعظة أسبوعية راتبة.

ومن آيات سورة الجمعة نقف على ذلك التوازن الجميل في هذا الدين. ومن

جماله أن يأتي الأمر بالانتشار في الأرض بعد أن كان الأمر قبل ذلك بالسعي إلى

ذكر الله، وترك البيع، وأن صلاة الجمعة هي أفضل عمل يرجوه الإنسان إذا حل

وقتها، وأن يأتي بعده أيضاً الأمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، ثم

أن يأتي بعده ندم الانفضاض عن الصلاة والانشغال باللهو والتجارة في وقتها، وفي

كلتا الحالتين أي عند الأمر بالسعي إلى إقامة الصلاة أو الأمر بالانتشار والابتغاء من

فضل الله يبقى هناك قاسم مشترك ألا وهو ذكر الله في الصلاة، وذكر الله عند

الانتشار من أجل إقامة العمران والابتغاء من فضل الله ورزقه.

* الانتشار سر الانتشار، والانفضاض سر الانكسار:

والغريب أننا لم نقتبس من هذه الآية معنى جميلاً وذلك هو سبب قبحنا

الحضاري وتخلفنا التاريخي في القرون الأخيرة وهو أن يوم الجمعة الذي يجله

المسلمون ويعتبرونه عيداً ليس عيد عطلة وعطالة؛ فالخطاب موجه إلى أمة

منغمسة في أعمالها التجارية والتعميرية ينبهها ألا تنسيها تلك الأعمال ذكر الله

سبحانه.

وهنا وجه الفرق بين روح المغامرة والاستكشاف الأوروبيين المدفوعين فقط

بالجشع الفردي والجماعي لقوم فقدوا صلتهم بالله، وبين فلسفة الانتشار القرآني

التي هي سر الانتصارات الكبرى حين انتشروا دون أن يكفروا، فانتصروا دون أن

يبطروا. والسر هو أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة إنسانية» عمرانية «أي

تعمر الأرض والإنسان وتبتغي الرزق دون أن تفسد في الأرض، أو تخل بالعدل

وبين الحضارة الأوروبية التي تعتبر» التحضير «ملازماً جدلياً للتدمير والتخريب

للإنسان والبيئة والقيم والأخلاق.

فأين نحن من الانتشار والضرب في مناكب الأرض، وألسنتنا رغم ذلك تلهج

بذكر الله ودون أن تلهينا تجارتنا وأعمالنا عن ذكر الله؟ لماذا جعل بعضٌ منا

» عمارة المساجد «بما ترمز إليه من التزام بفرائض التدين وسننه ملازماً للتخلي

عن عمارة الأرض والسير في مناكبها والأكل من رزقه في تناقض فظيع مع قوله

تعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ

وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّه] (النور: ٣٦-٣٧) ؟

فعُمَّار المساجد لا يغفلون عن ذكر الله ولكنهم تجار أغنياء يبيعون ويشترون،

أي أنهم لم يبنوا نجاحهم الدنيوي على حساب آخرتهم، ولم يفهموا أن تعمير الآخرة

يتطلب العطالة والتوقف عن السير في الأرض. إنهم عُمَّار للمساجد وعُمَّار للأرض.


(*) نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح العربية.