للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

على أطلال اليمن:

المجد لكرسي الحكم!

د. عبد الله عمر سلطان

مع تصاعد موجة عدم الاستقرار والحروب المصغرة على مستوى العالم بدا

واضحاً أن الشعارات الفضفاضة كالنظام العالمي الجديد، وزوال خطر الحرب

النووية، وانتصار الديموقراطية النهائي (بصورتها الغربية) ، ونكتة نهاية التاريخ

وبزوغ فجر السلام المزعوم ... لا يمكن أن تغطي سوأة الأحداث الملتهبة والإفلاس

الذي تشهده الساحة السياسية الدولية، أو أن تحجب كساح الأمم المتحدة التي لا

تحمل من اسمها سوى الرسم، ومن مضمونها القبيح إلا هامة بطرس غالي وسمعته

المثيرة للغثيان.

وفي هذا الخضم الفوضوي والدوائر المتلاقية، أخذت مراكز الدراسات

الغربية تبحث باهتمام عن ظاهرة مثيرة للجدل: وهي مستقبل اليسار في العالم

لاسيما النصراني منه، ففي المجر أزاح الناخبون الحكومة الليبرالية الديموقراطية

التي خلفت نظام الستار الحديدي الشيوعي؛ ليقفز الشيوعيون مرة أخرى إلى

السلطة، بينما يتوقع أن يشهد العالم الحالي عودة قوية لليسار في أوربا لاسيما

ألمانيا، حيث يسعى الديموقراطيون الاشتراكيون إلى الوصول للحكم، في الوقت

الذي يظهر أن حزب العمال البريطاني في طريقه إلى إسقاط حكم المحافظين الذي

لايزال يحكم لعقد ونيف؛ ليزيل أسطورة التفوق اليميني في المجتمعات «الأنجلو

سكسونية» كما حدث العام الماضي في كندا ومن قبلها الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد أظهرت نتائج الانتخابات الأوربية هذا التوجه، حيث سجلت الأحزاب

ذات التوجهات اليسارية تفوقاً واضحاً لاسيما في البلدان التي تحكمها الآن أحزاب

يمينية ومحافظة، لكن هذا الصعود الظاهر لا يمكن أن يخفي في طياته بعض

الملاحظات الجوهرية وأهمها أن اليسار اليوم هو يسار يختلف في ملامحه وتوجهاته

عن يسار الستينيات، حيث خفت حدة الطرح السياسي وأخذ اليسار الحالي يتجه

كثيراً نحو الوسط، لاسيما في طروحاته الاقتصادية هذه الطروحات في حد ذاتها

تجعله اليوم يؤمن أكثر بقداسة السوق وآلياته بعد أن كان يلعنها ويمقتها ويصنفها

على أنها من آثار الإقطاع والرجعية، وهو بإضافته قضية البيئة والمخاطر المحدقة

بها شَكّلَ نقاط جذب وكسب بعد أن أصبحت مشكلة البيئة ملحة لاسيما في أوروبا

المكتظة سكانياً والمعادية بحكم وثنيتها للطبيعة في خضم معركتها معها لقهرها

وإذلالها، وإضافة إلى هذه الملاحظة فإن المرء لا يمكن أن يتجاهل تراجع اليسار

الحاكم في دول كفرنسا وأسبانيا على سبيل المثال، حيث شكلت النتائج الأخيرة

مصاعب جمة ليسار لايزال يتربع على سدة الحكم.

كل هذه العوامل تجعل أنصار الدورة التاريخية لتفسير الأحداث وتشريح

الجسم السياسي ينتشون، وهم يوظفون هذه السلسلة الحاشدة من الأحداث للتدليل

على نجاح نظريتهم القائلة: بأن الغرب منذ القرن الماضي يشهد دورة كل ثلاثين

سنة، ينقلب فيها الناخبون من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار بعد أن

يفرغ كل جيل من هذا الطرف أو ذاك برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي،

وأن هذا التوازن حفظ لأوربا الغربية وأمريكا التوازن المطلوب لتكريس الهيمنة،

وتجديد الدم المطلوب لخوض معركة الهيمنة الدولية.

إن اليسار هو نتاج وإفراز متراكم للتجربة الغربية، لذا فإن دوره في الحياة

الغربية مفهوم، كلما شعرت المجتمعات هناك بأن «اليمين» قد استنفذ طاقاته

وأفكاره، واليسار هناك لا يكف عن تطوير شعاراته ونظرياته وممارساته في سبيل

«المصلحة القومية» ، وهو في سبيل هذا لا يتجاهل مثلاً مكونات الحضارة التي

ينتمي إليها، أو يتعامى عن صعود الشعور الديني الملتهب في العالم والغرب وإذا

استثنينا ديناصورات الماركسية المتحجرة، فإن بإمكاننا القول أن اليسار الأوربي

من خلال الأمثلة الحاكمة في أوربا وأمريكا لا يخفي عداءه المتأصل للإسلام وأهله،

وإن أضاف إلى نظريته العدائية بعض الأطر الفلسفية المطلوبة.

لقد أردت باستعراضي هذا الدخول إلى موضوع مهم هو «دور اليسار

العربي في واقع الحياة العربية الحالية وتراكم السحب الداكنة التي تلف حاضرنا»

فقد وصلت الأمة إلى شفا الجرف الماثل بعد سلسلة طويلة من عملية الاستلاب

السياسي والعقائدي والاقتصادي، وجاءت مأساة اليمن لتبرهن لنا جميعاً على أن

التشرذم لا حدود له، والمؤامرة لا نهاية لها، والتوجس القائم من المخاطر القادمة

له ألف سبب يبرره، لقد ضربت اليمن مثالاً؛ لأنه نموذج يستحق الفحص ومأساة

تفرض نفسها مع استمرار النزف والدم المراق والحلم المتهشم وتساءلت عن دور

التيارات العلمانية واليسارية بخاصة في صنع هذه المأساة حيث يبحث الغرب عن

دور لليسار يلعبه، بينما كان اليسار الشيوعي في عالمنا العربي ينقلب ليتحول إلى

«إنزيم» مضاف إلى التفاعل المفزع في اليمن ليحولها إلى ساحة ترتفع فيه

الحناجر بشعارات براقة تختلط بواقع مزري؟ !

ويسار اليمن مثالاً:

وقد يقول قائل: إن الأزمة اليمنية والحرب الأهلية القائمة هي من صنع

القبيلة الحاكمة التي تختفي تحت رداء الحزب، وتسكن القصر الجمهوري وترفع

شعارات الوحدة، بينما تتعاطى القات السياسي، وتسعى في نفس الوقت إلى

استثمار حماس الدعاة وطيبة الإسلاميين وتعاطف الشارع معهم، ليخوضوا معركتها

ويفصلون جهاداً على مقياس المرحلة، وإن الاشتراكيين في جنوب اليمن بتوجههم

الانفصالي يحمون شعبهم وثرواته من نزوات الحكم الشمالي وقد يبدأ هؤلاء بسرد

مساوئ النظام في الشمال، وما أتت به الوحدة من مآس وأضرار على الشطر

الجنوبي السابق، ونحن حين نحصر التسلسل في هذا المقال حول دور اليسار

العربي في المثال اليمني، قد نضطر إلى الاستشهاد بواقع أو مشهد ماثل الآن، لكن

ليس الغرض هنا تحليل الحرب الأهلية القائمة أو الممارسات السياسية هنا وهناك،

بل الغرض إلقاء الضوء على ممارسة اليسار العربي لاسيما في اليمن خلال الأزمة

المحتدمة هناك.

يدعي الماركسيون منذ قديم الزمن أنهم وحدويون حتى النخاع ومستشهدون في

سبيل يمن واحد، ويكفي للتدليل على ذلك أن تتأمل قائمة الأحزاب اليمنية التي

نبتت بعيد إعلان الوحدة والتعددية الحزبية، لتجد أن كلمة «وحدوي» أو

«وطني» أو «موحد» أو «اتحادي» تشكل العامل المشترك بينها، حتى إنك تكاد تخلط بينها من شدة التشابه.

واليساريون في اليمن ليسوا مقصورين على الحزب الاشتراكي في الجنوب،

بل إن أحزابهم «الوحدوية» في الشمال أكثر بسبب الانفتاح السياسي الذي لا

يخشى من تجمعات سياسية كل رصيدها بضعة يساريين حالمين، ومقر مستأجر،

وخط تليفوني ومطبوعة لا يقرأها إلا مصحح المطبعة وأعضاء الحزب الطليعي،

ورصيد طبعاً يصب فيه حساب يتضخم مع كل دور يلعبه الفتيان اليساريون

الوحدوين التقدميون! !

ولا شك أن الاشتراكيين الجنوبيين هم أكثر التيارات اليسارية تطرفاً في قضية

الوحدة، فالحزب ظل لأكثر من عقدين يحلم بالوحدة، ويجعلها هدفه الأسمى

وقضيته التي لا تقبل المساومة، وحين شكلت الوحدة مخرجاً من المأزق الناتج عن

انهيار الاتحاد السوفيتي ووسيلة لتحسين سمعته البالغة السوء في المنطقة (حارب

جيرانه السعوديين والعُمانيين والشماليين ثم التفت إلى الرفاق فأوقع بهم مجزرة لا

تقارن بشاعتها بالحرب الدائرة الآن) ، لم يتردد الوحدويون الاشتراكيون في تبنيها

دون أن يكون للشعب في الجنوب أي رأي أو مشورة وبخاصة أنهم قطيع من

المتخلفين الذين فشلت الثورة في جعلهم من بلوريتاريا الحزب..!

وما أسرع اللحظات التي تمر فإذا الحزب اليوم ينادي بالانفصال ويقاتل من

أجل التشطير، ويهرب قادته من العاصمة إلى المدينة الساحلية الرجعية «المكلا»

لكي يكملوا ما بدؤوه من مخطط الدولة التي يستطيعون أن يستمروا في حكمها، بعد

أن رأوا لعبة الكراسي الموسيقية تقذف بهم خارج المنافسة في ظل منافسين

محترفين في الشمال.

لقد نسف الحزب ورموزه الفارين كل البرامج والشعارات والأحلام الوحدوية

التي طالما تغنوا بها، وأصبحت كلمة وحدة تثير لديهم حساسية في الصدر، وحكة

في الجلد، وتهيجاً في الأعصاب، وغدت كل المصطلحات الثورية والوحدوية

جريمة لا تغتفر بين الرفاق اليساريين، في الوقت ذاته بدأ اليساريون في الشمال

من ورثة الشعارات الوحدوية إزاحة منافسيهم في الصناعة الوحدوية والسوق

الاتحادي، كل ذلك يتم باستخدام نفس المصطلحات الثورية التقدمية اليسارية.

قام الاشتراكيون في الجنوب بثورتهم في سبيل «الكادحين» ومن أجل إنهاء

الإقطاع، وإطفاء نار الاستغلال الطبقي الذي كان يمارسه السلاطين وأصحاب

النفوذ ممن يسمون «بالسادة» والسيد هو الذي ينتهي نسبه إلى النبي -صلى الله

عليه وسلم- وينتشر جل هؤلاء السادة في الجنوب حيث يشكلون طبقة من علماء

الصوفية التي تمارس شعوذتها باسم الانتساب إلى آل البيت، لقد صمم الشيوعيون

في الجنوب على أن الدين وأتباعه لاسيما السادة هم عدوهم الأول ولاسيما «رابطة

أبناء الجنوب» التي كان السادة يتسترون من ورائها ويمارسون من خلالها نشاطهم

السياسي، ومع الردة عن المبادئ الأولى شكل الجنوبيون المنفصلون دولة يرأسها

سيد من هؤلاء السادة (البيض) ، ويرأس حكومتها سيد آخر (العطاس) ، ويدير

أمورها في الواقع رئيس الرابطة الصوفية السابق (الجفري) ، وتجمع عدداً لا بأس

به من سادة آخرين، حتى إن الشارع الجنوبي أسماها «دولة السادة» .

ترى هل هذا تكفير عن اثم الماضي أم جواز سفر مطلوب لإثبات رجعية

النظام وقدرته الفائقة على الرقص في حلبة الدراويش، وإثبات للجدية في الانقلاب

من متطرفين ماركسيين إلى رجعيين يخدرون المريدين بهجمات الأقطاب وكرامات

السادة الذين طلقوا كل مبدأ ومعتقد؟ !

وإن كان الشيوعيون الملاحدة في الأمس يعادون المشايخ التقليديين فإنهم ظلوا

بالأمس، ولايزالون يرفعون لافتة ضخمة تقول إنهم ينادون بالدولة العصرية التي

لا تتحكم فيها القبيلة كما هو الواقع في الشمال، ويتباهون دائماً بأنهم قضوا على

القبلية نهائياً في الجنوب، فهل هذا صحيح؟ !

الواقع يقول إن اليساريين شمالاً أو جنوباً قد ارتدوا وتشرذموا وانقسموا حسب

قانون القبيلة والقبيلة وحدها، فالشمالي لاذ بحصن الفخذ، والجنوبي الشيوعي

السابق أصبح أكثر مناطقيةً ورجعية من خصومه، ويكفي أنه تحالف مع قبائل بكيل

في الشمال، ومد يده إلى قبائل «شبوة» و «حضرموت» بعد أن حطم كياناتها،

وسحلها لمدة عقدين، وبات الجميع يرون أنه لا فرق بين الجمهوريين الوحدويين

الذين وظفوا العامل القبلي بذكاء، واليساريين السابقين الذين يحاولون أن يطبخوا

وجبة قبلية باستعجال جعلهم يقدمون وجبة سريعة عسرة الهضم، صعبة الفهم.

ويتهم الماركسيون القدامى ومومياوات العصر الشيوعي في اليمن الحكم في

صنعاء بأنه صاحب علاقات قوية بالإسلاميين المتطرفين، وأنه احتضن الخارجين

على القانون والإجماع العربي! ! والواقع يقول إن هذه هي أهم الأوراق التي لا

يكف قادة الجنوب من التلويح بها كلما حاصرتهم الحقائق وأعياهم الواقع المتناقض،

لكن مهلاً فهؤلاء الماركسيون تحالفوا مع قوى متطرفة تدعي العمل الإسلامي مثل

«حزب الحق» الزيدي المرتبط بإيران الدولة صاحبة الباع الطويل في التآمر والإرهاب، ومع هذا لم يعتبروا هذا التحالف الذي استمر طوال فترة الوحدة وحتى قبيل اندلاع المعارك، نوعاً من التطرف أو الأصولية أو الرجعية!

وما دمنا نتحدث عن الرجعية فيكفي أن نتأمل أن الشيوعيين قرروا أن

يتحالفوا مع أكثر الفصائل الحاملة للراية الإسلامية ارتباطاً بالنظم المنقرضة، فقد

تحالفوا مع الأحزاب الصوفية الخرافية البائدة، ومع أتباع النظام الإمامي الزيدي

المتلاشي، وربما دأب الماركسيون على جمع شتات كل الفرق التي تسير في درب

الانقراض وفلك النسيان.

وظل الماركسيون يعتزون بتحالفهم مع الدول التقدمية في أنحاء العالم لاسيما

(صين ماو وشيوعية موسكو) مقابل اتهام أعدائهم بأنهم صنيعة الاستعمار الغربي،

لاسيما قائدة الاستعمار العالمي (أمريكا) ، كما أن للزمن أحكاماً وللشيوعيين منطق

عجيب وقانون انقلاب مخيف، فقد أصبحت صداقة أمريكا والغرب لهم إنجازاً،

والتفات مجلس الأمن لهم الذي طالما كالوه أقذع الشتائم أصبح وعياً وتحضراً،

وأصبحت الزيارات العلاجية لأمريكا وأوروبا مسابقة يتنافس عليها الأمين العام

للحزب مع منظر الحزب مع فراش الحزب ... الحزب عرف الطريق يا سادة إنه

يبدأ في شارع بنسلفانيا وينتهي بمبنى الكونجرس، ومن سبق فاز..!

لقد غدت مفردات اليسار العربي سهلة الفهم، فهي تساوي اليوم نقيض ما قام

عليه هذا التيار وما استورده قبل عقود، ويكفي أن تنظر إلى الموقف قبل عشرين

عاماً أيام النضال الثوري، والمد القومي، ثم تنظر إلى موقف اليمين الرجعي،

لتخرج بموقف اشتراكي اليوم وشيوعي الحاضر، إن مفردات الخطاب السياسي

هي مفردات الرجعية السابقة مضروبة بالأس ثلاثة.

لقد كانت الدولة الشيوعية في جنوب اليمن مثالاً للتطبيق الصارخ للماركسيين

في جميع أنحاء العالم، أما في الغد فلا يستبعد أن يقيم هؤلاء قبة للسيد البيض تحج

إليها القبائل ويرقص بجانبها الدراويش، وتقوم بتمويل الرحلات السياحية إليه

شركة أمريكان إكسبرس بالتعاون مع فرع الحزب الاشتراكي في المنطقة.

ولكم أن تتأملوا اليسار في محضنه الغربي، وهذا الخبل السياسي الذي يصر

على أن يقيم كرسي حكمه على جماجم البشر وهياكل الشعارات والمبادئ المفلسة،

بينما يغذي جنونه وشبقة شوق عارم للسلطة والنفوذ، ورغبة جامحة للوصول إلى

كرسي الحكم، حتى لو أريقت الدماء، وأزهقت الأوراح ومورس الدجل السياسي

بصورة تدعو للخجل، لو كان هناك خلق فضيلة، أو خصلة حياء.