للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

أرض سائبة.. وقيادة خائبة

[لك الله يا شعب العراق]

بقلم: حسن قطامش

نقلت مؤخراً صحيفة (نيويورك تايمز) عن أحد المسؤولين الأمريكيين قوله:

(لقد فعل صدام حسين لترويج سياستنا أكثر مما فعلنا ... بارك الله في صدام) ! !

العائلة التكريتية بصدامها، والبرزاني والطالباني، وأوجلان بأكرادهم،

والخليج، وأمريكا والموساد ولجان التفتيش، ودمشق وأنقرة وطهران بحدودها،

وروسيا والصين وفرنسا باعتراضهم، وأشياء أخرى كثيرة، ترسم صورة الحكاية

الطويلة المريرة والحسابات المتشابكة والمصالح المتداخلة، ويجري هذا كله على

أرض واحدة.. العراق المنكوب بقيادته.

قصة بدأت تفاعلاتها الدرامية المأساوية مع بداية حرب الخليج في العام

١٩٩١م، وخسرها صدام في أم المعارك، وصدرت قرارات مجلس الأمن

(المؤمرك) تتوالى على العراق، وفُرض الحصار الجامع المانع، الذي لن يرفع إلا

بشرط واحد: وهو أن تقوم اللجنة الدولية المكلفة بتفتيش العراق (أونسكوم) بتقديم

تقرير نظيف يفيد أن العراق أصبح خالياً من أي أسلحة للدمار الشامل، وما لم تقدم

اللجنة هذا التقرير فإن الحال سيبقى على ما هو عليه حتى إشعار آخر.

وقد مر حتى الآن ست سنوات عجاف على شعب العراق، وما زال صدام في

السلطة، وما زال الحصار مستمراً، وما زالت اللجنة الدولية غير مقتنعة، ويبدو

أنها لن تقتنع، وما زالت شعوب المنطقة تخشى (صدام) وتعيش في حالة من القلق

الدائم من غدر صدام، وما زالت لعبة القط والفأر التي يحسنها صدام وأمريكا

تجري على الأرض المسلمة، فصدام يهدد ويرغي ويزبد ويستأسد، ويرسل

الخطب الرنانة عبر إذاعاته، وترسل أمريكا تعزيزات إلى المنطقة، وتبدأ الجولات

المكوكية للشرح والتفسير وطلب التأييد من قبل الدول المعنية، ثم ... تنقشع الغمة

وتعود المنطقة للمراوحة مكانها.

فإلى متى سيستمر هذا المسلسل الدرامي المأساوي للمسلمين! ؟ متى يرفع

الحصار؟ ومتى يرحل صدام؟ ومتى يطمئن أهل المنطقة على أمنهم وسلامتهم؟

ومتى ترحل الجيوش الأجنبية بلا رجعة؟

هذه الأسئلة وكثير غيرها يدور في الأذهان كلما ثارت ثائرة الثور الهائج، أو

أثاروه لتضطرب المنطقة بأكملها، ولعلنا نقف على بعض المواضيع لسبر غور تلك

الأحاجي.

التطورات الأخيرة: بدأت القصة الجديدة في ١١/٦/١٩٩٧م الماضي حين

أعلن مجلس الأمن الدولي بأنه سيتخذ إجراءات عقابية شديدة ضد (النظام) العراقي

إذا لم يبرهن على التعاون مع اللجنة الخاصة، وأعلن المجلس أنه لن يجري أية

مراجعة دورية للعقوبات الدولية على العراق قبل الاستماع إلى التقرير الجديد

لرئيس اللجنة الدولية (ريتشارد بتلر) وقدم التقرير الذي أفاد: أن العراق ما زال

يستخدم كل الأساليب من أجل منع المفتشين من الكشف عن أماكن الأسلحة الممنوعة

وعددها، ومواقع إنتاجها، وتقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وسبع دول أخرى

بصيغة قرار تفرض فيه حظراً على سفر الموظفين العراقيين المسؤولين عن عرقلة

لجنة التفتيش، ومع تواضع هذه العقوبة إلا أنه تبلور حولها اعتراض روسي

صيني فرنسي، ليس لأجل سواد عيون العراق، ولكن للمتأخرات المالية الكبيرة

على العراق لهذه الدول ولحاجتها لبتروله ولسوقه، ومحاولة لاستعادة بعضٍ من

الهيبة التي أفقدتهم إياها أمريكا.

ولهذا الاعتراض أجّلت أمريكا العقوبة ستة أشهر، ثم قام العراق بمنع

المفتشين الأمريكيين العاملين ضمن اللجنة، وقام بطردهم، وجاء على أثرها التهديد

الأمريكي الأخير وقرار مجلس أمنها الدولي رقم ١١٣٤، وبدأت الزيارات

الديبلوماسية لمنع الضربة العسكرية التي هددت بها أمريكا.

قصة العقوبات: بعد أن دمرت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة

القوات العراقية، بما ألقته من آلاف الأطنان من القنابل، ورفضت أن ترمي صدام

برصاصة واحدة! ! فرضت حظراً شاملاً على شعب العراق، وقلصت مساحة

الأراضي العراقية، وقسمته إلى أجزاء ثلاثة: الشيعة في الجنوب، والسنة مع

صدام في الوسط، والأكراد في الشمال، وكأن مصطلح (الأكراد) أصبح مذهباً دينياً!! ثم حددت الهدف من العقوبات بأنه: ضمان أمن دول الجوار، وتدمير أسلحة

الدمار الشامل التي يحتفظ بها صدام، وعودة الأسرى الكويتيين، أما صدام فلم يرد

اسمه في قوائم العقوبات البتة على الرغم من أنها شملت الأجنة في بطون أمهاتها،

مروراً برجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ إلى أن تنتهي القائمة عند الموتى الذين منع الحظر

استيراد أكفانهم. وقد مرت ست سنوات على هذه القصة، ولم ينفذ صدام قرارات

مجلس الأمن، ولم يقدم للجنة الخاصة المكلفة بتدمير أسلحة الدمار الشامل القصة

الحقيقية حول برامج تسلحه، وما زالت قضية المفقودين الكويتيين بغير حل، وما

تزال العقوبات سارية المفعول، فلا يسمح للبلد إلا ببيع ما قيمته مليارا دولار كل

ستة أشهر، تذهب منها ٦٠٠ مليون دولار للجنة التعويضات عن أضرار حرب

الخليج، وعدة ملايين تذهب للجنة التفتيش، و١٣٠ مليون لمناطق الحكم الكردي

في الشمال، ويبقى للعراقي الواحد: ٣٠٠ فلس كل ستة أشهر للغذاء والدواء! !

وهذا هو برنامج النفط مقابل الغذاء. ويالله لشعب العراق من جور النظام العالمي

الجديد ومن ألاعيب صدام وحزبه.

إن المشكلة الحقيقية في حالة العراق أن العقوبات لا تشكل جزءاً من

استراتيجية محددة لإنهاء النظام، بل إن النظام لم يُذكر قط صراحة على أنه هدف

لها، بل لقد جاءت التطمينات الأمريكية أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في

(الأجندة) الأمريكية.

ففي المقابلة التي أجرتها معه شبكة (أي. بي. سي) يوم ٨/٥/١٤١٧هـ

صرح الرئيس الأمريكي أن (الولايات المتحدة ليس لديها مشروع حل واضح يخلو

من التناقضات.. وهنا المشكلة. إن ما تسعى إليه واشنطن هو التأكد من أن

الرئيس العراقي سيتقيد بقرارات مجلس الأمن ومن أنه لا يهدد جيرانه، إننا لا

نحاول التخلص من صدام، فإن مما تعلمناه من التعاطي مع صدام هو أن يذهب إلى

أقصى الحدود، ولهذا وسّعنا منطقة الحظر الجوي في الجنوب، وهو الآن مقيد

الحريات، وبات صعباً عليه تهديد جيرانه) . [الحياة ع/١٢٢٦٢/٩/٥/١٤١٧هـ] .

وكانت (مادلين أولبرايت) قد كررت القول بأن واشنطن سوف تدعم استمرار

العقوبات ضد النظام العراقي الراهن مهما استغرق ذلك من وقت، وهددت أيضاً

بعدم تجديد اتفاق بيع النفط مقابل المواد الغذائية والطبية إذا لم تنفذ بغداد كل شرط

من شروطه الصارمة، وأوضحت أن السياسة الأمريكية المتشددة هذه سوف تتغير

فوراً.. إذا تغيرت القيادة في بغداد، وقالت: إذا حدث ذلك ومتى يحدث! ؟ فسوف

نكون على استعداد للتنسيق مع حلفائنا وأصدقائنا كي ندخل بسرعة في حوار مع

النظام الجديد.

وهذا (كولن باول) رئيس هيئة الأركان في حرب الخليج يطلقها صريحة وبلا

موارية: (إن من غير الحكمة أن نلطخ اسم صدام وسمعته! ! ، وننعش آمال

الجماهير ونحرضهم ضده، ثم نتركه وشأنه بعد ذلك) .

فإن كانت أمريكا لا تريد إسقاط صدام، فالمنطق العقلي يفرض عليها اتخاذ

إجراءين حيال الوضع الحالي:

الأول: رفع الحصار عن الشعب العراقي مع وجود صدام في السلطة، حتى

يشعر الشعب العراقي بنوع من الراحة والاستقرار ويفكر على روية في التخلص

من صدام، وهذا لم ولن تفعله أمريكا.

الثاني: دعم المعارضة العراقية بقوة لتنظيم صفوفها للتخلص من صدام،

ومن ثمّ يرفع الحظر، لتعيش شعوب المنطقة في سلام ووئام، وهذا أيضاً لم ولن

يحدث.

بل لقد انتقد زعيم المعارضة العراقية (محمد باقر الحكيم) الذي يقود المجلس

الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وهو هيئة شيعية مؤيدة لإيران انتقد الولايات

المتحدة واتهمها بخيانة المعارضة العراقية، وقال: لقد خانت أمريكا الشعب العراقي

مرتين حينما كنا على وشك التخلص من صدام، وكان يشير بذلك إلى انتفاضة

سكان جنوب وشمال العراق عام ١٩٩١م، وإلى تمرد الجيش العراقي في عام

١٩٩٥م ضد نظام صدام.

إذن: ماذا تريد أمريكا بالضبط من المنطقة ومن العراق؟ ولعلنا مع الوقفات

القادمة نتبين إجابة تريح العقول المتعبة.

العداء الصليبي: هناك سياسة عدائية صليبية ضد المسلمين تتزعمها الولايات

المتحدة، تمر الآن بفترة حرب باردة من الجانب الأمريكي وتقابل بأعصاب باردة

من جانبنا، ولعل المقام لا يتيح التفصيل.

المصلحة الأمريكية: في ١٥/٦/١٩٩٧م زار وزير الدفاع الأمريكي اليهودي

(وليم كوهين) إحدى القواعد الأمريكية في المنطقة، وقال مخاطباً الجنود الأمريكيين: إنني متأكد من أن كثيراً منكم يتساءلون من وقت لآخر عن سبب وجودهم هنا،

وعما إذا كان ذلك ضرورياً؟ إن الجواب هو: نعم؛ لأن الشرق الأوسط منطقة

ذات أهمية كبيرة (لاقتصادنا) وبالنسبة لبقية العالم. إن بلادنا ينبغي أن تحمي منابع

النفط في الخليج؛ ولهذا فإن الأمن في هذه المنطقة سيبقى ذا أولوية لوقت طويل.

[الأنباء ع/٧٥٧٠/١٦/٦/١٩٩٧م] .

ولكيان اليهود نصيب: إن ضمان أمن إسرائيل هو مما آلت أمريكا على

نفسها التعهد بالمحافظة عليه، وهي التي رسخت ولا زالت ترسخ أقدام اليهود في

المنطقة، بأساليبها المعروفة، والعراق كغيره من الدول العربية التي تسعى

العصابات اليهودية لعقد اتفاق سلام معها، وقد جرت اتصالات كثيرة بين الجانبين

لعقد اتفاق سلام وتبادل تجاري عن طريق الأردن مع اعتراف عراقي بكيان اليهود، وقد قدم صدام حسين مبادرة علنية للمصالحة مع اليهود حينما قال أكثر من مرة:

إن العراق سيبارك أي اتفاق مع إسرائيل يقبله الفلسطينيون والعرب، ولم يحاول

الاعتراض على يهود السلام بما في ذلك (مؤتمر مدريد) واتفاقيتي (أوسلو ١، ٢) .

وقد قام ياسر عرفات أكثر من مرة بمحاولة فتح قنوات اتصال بين صدام

وإسرائيل، وآخر هذه المحاولات تم الكشف عنها في مارس ١٩٩٥م عندما بث

راديو الجيش الإسرائيلي خبراً يقول: إن صدام حسين طلب من عرفات ترتيب

اجتماع مع (موسى شاحال) وجاء في نص الرسالة الشفوية التي حملها عرفات:

(إن العراق لم يتخذ موقفاً عدائياً من إسرائيل منذ التوقيع على اتفاق الحكم الذاتي،

وهو يرغب في تحسين علاقاته بالدولة العبرية) والمعروف أن (شاحال) من

الوزراء الذين يميلون إلى إقامة قنوات اتصال مع العراق، ويرجع ذلك إلى أصوله

المنحدرة من العراق، إضافة إلى حاجة اليهود الاقتصادية للبترول العراقي، وقد

ذكرت صحيفة (جيروزاليم بوست) اليهودية نقلاً عن مصادر ديبلوماسية أن

الشركات الإسرائيلية تبيع حالياً أغذية وأدوية تقدر بحوالي مليوني دولار عن طريق

الأردن في مقابل أن يمد العراق إسرائيل بالبترول الذي يتم عن طريق ميناء العقبة

الأردني، وتُوُقِّعَ حينها أن تزدهر التجارة بين البلدين بهذه الطريقة لتصل إلى ١٠٠

مليون دولار خلال عام [الأنباء ع/٧١٩٠/٥/١/١٤١٧هـ] . والحاجة الأشد هي أن

يوقع العراق اتفاق سلام يسبق الاتفاق السوري حتى يتم الحصار الشامل للأخيرة،

وتسقط بين دول مسالمة ومستسلمة لليهود (الأردن تركيا العراق) كذلك فإن الوجود

اليهودي في المناطق الشمالية العراقية كان ولا زال بارزاً منذ عقود؛ من خلال

عناصر الموساد التي استغلت لعبة الأكراد جيداً لخدمة مصالح إسرائيل.

إيران وسوريا: إن أخوف ما تخشاه الولايات المتحدة هو توسيع الدور

الإيراني في المنطقة، خاصة وهو مرشح لذلك، مع وجود مثلث الود الباطني بين

إيران وسوريا ولبنان، وحيث إن إيران هي البديل في المنطقة، في حال سقوط

الحكم في أيدي المعارضة العراقية التي يتزعمها موالون لإيران، ومع تخوف

أمريكا من القوة العسكرية الإيرانية برغم الحصار الاقتصادي المفروض عليها

واحتوائها المزدوج مع العراق، ومع وضعها على قائمة الإرهاب العالمية، ومع

الأطماع الفارسية التي تعلمها أمريكا جيداً من إيران في المنطقة مع ذلك كله فإن

أمريكا تدرك جيداً أن بقاء صدام حسين معادياً لحكومة طهران أوْلى من رحيله

وتولي حكومة موالية لطهران.

ومع تشابك وتداخل المصالح الإيرانية الأمريكية حول الإرث الشيوعي في

آسيا الوسطى يزداد التوتر بين البلدين، ولا مجال هنا للنوايا الحسنة؛ حيث إن كلاً

منهما ترتب مصالحها على ضعف الأخرى أو احتوائها أو الخلاص منها.

أما سوريا، فهي الدولة (العنيدة) ! ! التي استعصت على أمريكا أن تسلمها

لإسرائيل لقمة سائغة، ولعل النظام السوري المخضرم يفهم اللعبة السياسية في

المنطقة جيداً فلا يريد التوقيع على اتفاق سلام يخسر فيه كما خسر غيره ما ظنه في

بادئ الأمر مكسباً كبيراً. ومع الانفتاح السوري العراقي الأخير، ومع التهديدات

التركية لكلا الدولتين نيابة عن أمريكا وإسرائيل، وهي قوة لا يستهان بها أو مع

التلويح بتفعيل مشكلة المياه، أو الضغط بورقة الأكراد وحزب العمال الكردستاني،

تبقى سوريا رقماً صعباً في الأزمة العراقية المتشابكة.

الدول العربية: كانت حسابات الدول العربية مختلفة كلياً عن الحسابات

الأمريكية، فأقصى أمنيات العرب كانت رد صدام عن غيّه وتحرير الكويت من

الاعتداء الآثم، وعودة الأمان للنفوس المروعة الفزعة؛ وحسبوا أن الوقت لن

يطول بمقام قوات التحالف في المنطقة أكثر من عام على أعلى تقدير، أما

الحسابات الأمريكية فكانت مختلفة؛ فها هي أعوام ستة تمضي على التعنت

الأمريكي، وهذا ما أضر دولاً عربية كثيرة، وتفكك التحالف العربي المجمع على

إدانة صدام، وأصبح الجميع يطالبون العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن؛ إلا أن

الجميع أيضاً يعبرون عن تعاطفهم مع شعب العراق.

المصلحة غير غائبة أيضاً عن الحالة العربية، فقد صرح (نبيل العربي)

السفير المصري في الأمم المتحدة قائلاً: (إن أحداً لا يفهم لماذا العراق دائماً تحت

الحظر؟ يجب أن يكون بمقدرونا رؤية نهاية النفق) ، بل لقد صرحت مصادر

مصرية أنها مقتنعة تماماً بأن العراق ليس لديه أي أسلحة يخفيها! ! فقد تضررت

مصر بسبب ضياع ما يفوق مليون فرصة عمل كانت متوفرة داخل العراق،

فإلحاحها على ورقة مأساة الشعب العراقي يرجع في الأساس إلى عوامل اقتصادية،

خاصة بعد التنصل من الوعود بعقود كبيرة في إعمار الكويت.

وهناك من الدول العربية من ارتضى الاحتماء بصدام على وضعه الراهن؛

لأن البديل سيكون سيطرة إيرانية، وهو ما حدا بكل من الإمارات والبحرين، برفع

أصواتهما بالتنديد بما يجري داخل العراق.. الآن فقط! ! وخاصة أن كلاً منهما

لهما مشاكل سياسية كبيرة مع إيران. ومع تزايد الضغط الشعبي المطالب برفع

الظلم الواقع على الشعب العراقي، تحركت الحكومات العربية على استحياء، فقد

توفي بحسب الأرقام المعلنة منذ بدء الحصار وحتى الآن مليون ومئتا ألف عراقي

بسبب فقدان الدواء والعلاج، وحتى لو كان نصف هذا الرقم صحيحاً! ! فأي دولة

تقبله؟ وأي أمة ترتضيه! ؟ وفي أي دولة في العالم يموت مليون إنسان وهم

يطلبون الدواء! ؟ مع أن حاكمه المستبد يؤتى إليه بأشهر النطاسين وأنجع الأدوية

حتى ولو شاكته شوكة؟

الأكراد: الأكراد بأحزابهم الثلاثة الكبار: الحزب الديمقراطي الكردستاني

بزعامة مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني،

وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان، هذه الأحزاب تعتمد (سياسة

اللامبالاة) المتعمدة، وتستمر في هذيانها غير واعية لإفرازات خدماتها للأنظمة

المحنكة، بل إن بعضها يتصور حقاً أنه يفرز استراتيجية تاريخية دائمة في شمال

العراق، ولكن الحقيقة التي يجب أن يعيها الأكراد هي أن أقصى ما تفعله هذه

القيادات عملياً: هو عرض نفسها سلعة للاستقطاب بمعزل تام عن الطموحات

الكردية؛ فالعراق وسوريا وإيران وتركيا يلتقون في تطابق معارضتهم لقيام دولة

كردية مستقلة في أي جزء من دولهم، كما حرصت هذه الدول كذلك على أن لا

تقوى الورقة الكردية في يد أي لاعب كان، ومن هذا يبدو أن الحفاظ على موازين

القوى بين الفصائل الكردية مرغوب فيه من هذه الأطراف، إضافة إلى الولايات

المتحدة التي تركت الأكراد فريسة لصدام حين دخل أربيل في عام ١٩٩٦م،

والعجيب أن صدام هاجم الأكراد المتعاونين مع الولايات المتحدة في الشمال، فقامت

أمريكا بضرب القوات العراقية في الجنوب! ! بحجة انتهاك صدام لحقوق الإنسان

الكردي!

النفاق الأمريكي الدولي: لا تتوقف الولايات المتحدة عن ممارسة النفاق

السياسي المفضوح كلما تعلق الأمر بحقوق الأكراد، فقد صمتت عن محنتهم حين

تعرض (حزب العمال الكردستاني) للتصفية الكاملة من قبل القوات التركية، وحين

تعرضت الحركة الوطنية الكردية للقمع من إيران، ثم صمتت عن انتهاكات تركيا

وإيران (للمناطق الآمنة) الكردية في منطقة (الحظر الجوي الشمالية) ، وفي

مناسبات كثيرة اجتاحت القوات التركية أرض كردستان العراق، بل إن أمريكا لم

يرف لها جفن حين تعرض أكراد العراق للإبادة في الحرب الأهلية التي نشبت بين

أحزابهم، وقد أصبح في حكم المؤكد أن ما يسمى بحقوق الأكراد ليس سوى الاسم

الحركي للتدخل الأمريكي في العراق، ولو كانت واشنطن ترغب في تمتع الأكراد

بحقوقهم الطبيعية لكان أجدر بها أن تمارس الضغط على تركيا وإيران للاعتراف

الدستوري بهذه الحقوق؛ أليس هذا أوْلى من الدوران بهذا (الشعب المحتار) في

حلقة مفرغة؟ !

وما أشد نفاق المجتمع الدولي حين يصمت عن هذا كله وقد أُصدر باسمه

القرار ٦٨٨/١٩٩١م عبر مجلس الأمن معتبراً أن نتائج القمع المسلط على الشعب

داخل العراق تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين في المنطقة! ! ولذلك أدان القمع

مطالباً بوقفه فوراً، كما أعرب عن الأمل في فتح حوار لكفالة احترام حقوق الإنسان

والحقوق السياسية لجميع مواطني العراق، وذلك عقب أحداث انتفاضة العام ١٩٩١م

ثم ها هي (أولبرايت) ، وقت أن كانت مندوبة دائمة لأمريكا في الأمم المتحدة

تقول: لدينا أدلة كثيرة وغير مشكوك فيها بأن صدام حسين ونظامه يُخِلّون بالوعود، ويتنصلون من التواقيع ويكذبون، ويقتلون، ويضعون مصالح أقلية مختارة فوق

مصالح الملايين من المواطنين المقموعين! ! [الوطن ع/٧٤٩٠/٨/٨/١٤١٧هـ] .

ولو جئنا بمحلل عراقي لوصف الوضع الداخلي للعراق وشعبه فلن يأتي بمثل

هذا التصريح المدرك لحقائق الأمور بجلاء ووضوح.

ثم يأتي خليفتها (ريتشارد سون) في ٢٤/٦/١٤١٨هـ ومع الأحداث الأخيرة

ليقول: إننا لا نقترح عقوبات واسعة قد تؤدي إلى معاناة الشعب العراقي، وهدفنا

لا يزال مساعدة الشعب العراقي.

وباختصار شديد، فقد وجدت أمريكا في صدام الشخص المناسب لتمرير

مخططاتها في المنطقة، ووجد صدام في أمريكا الدولة التي تبقيه في السلطة دون

خسائر شخصية؛ فكل من الطرفين منتفع بالآخر في منطقة يراد لها ألا تستقر على

حال.

إن أمريكا بأسلحتها الفتاكة، وتقنيتها العسكرية من الأقمار الصناعية،

وطائرات التجسس التي تكشف ما وراء العظام لا تستطيع التفريط بصدام! ! فهل

المعارضة العراقية ستسقطه؟

وإن كانت هذه المأساة في المنطقة بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل في

العراق، فماذا عن الترسانة النووية اليهودية؟ وإن كان أمن المنطقة هو المطلب

الرئيس، فلماذا لا تعجل أمريكا به لراحة الشعوب الفزعة منها ومن صدامها؟ !

خاصة وقد ربطت أمريكا رفع العقوبات برحيل صدام؛ فقد صرح كلينتون في

١٤/ ٧/١٤١٨هـ: أن العقوبات ستبقى قائمة إلى ما لا نهاية ... وبأي حال ستبقى ما دام صدام في السلطة! !

لقد كان جديراً بالمسؤول الأمريكي أن يبارك خُطا صدام، ولا عجب إن بُني

له مقام في أمريكا لتلمس البركات منه، أو استنساخه لوضعه في مناطق أخرى تريد

أمريكا البقاء فيها، وحسبنا الله ونعم الوكيل.