[كيف نكتشف أطفالنا المبدعين]
أ. د. مصطفى رجب
يتميز هذا العصر بالتقدُّم العلمي الزاخر الذي تجرف أمواجه العاتية، يوماً بعد يوم، تلك المجتمعات الكسلى التي لا تستطيع السباحة وسط تلك الأمواج العلمية الطاغية التي تتدفق من مراكز البحوث العلمية حاملةً معها أمواجاً موازية من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا ينشأ التقدُّم العلمي ويزدهر إلا على أيدي العباقرة والمبدعين، وهؤلاء ـ بدورهم ـ لا ينشؤون في فراغ، بل لا بد من استنباتهم كما تُستنبت السلالات النادرة من النبات والحيوان.
إذا سلّمنا بهذا؛ وجب علينا أن نؤمن بما للأسرة من دور خطير في تنشئة المبدعين ورعايتهم، والأسرة ـ بهذا الدور ـ تسهم في ترقية مجتمعاتها، وتلك ـ فيما أحسب ـ هي «الفريضة الغائبة» في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ü متى بدأت دراسة الإبداع؟
رغم حداثة علم النفس نسبياً بالمقارنة مع العلوم الأخرى، فإن الإبداع ـ بمعنى: دراسة القدرة العقلية للمتفوقين والموهوبين ـ قد بدأ مبكراً، فقد بدأت الأسرة الأولى لدراسة الإبداع عام ١٨٩٦م، أي: بعد نحو سبعة عشر عاماً من نشأة علم النفس بوضعه علماً مستقلاً عام ١٨٧٩م على يدي (ولهلم فونت) ، غير أن المحطة الرئيسة والعلامة البارزة في تاريخ الدراسات النفسية الخاصة بالإبداع بدأت على يدي (جيلفورد) عام ١٩٥٠م، بمقال ألقاه في صورة خطاب أمام جمعية علم النفس الأمريكية. وتوالت بعده الدراسات المتخصصة في هذا المجال، وساعد على نموّ تلك الدراسات ما ساد العلم من اتجاه نحو العنف وتسخير العلم في خدمة التسليح مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء ظهور بوادر الحرب الباردة التي كان السباق العلمي والتنافس التقني أهمَّ ملامحها.
ü كيف نكتشف أطفالنا المبدعين؟
لن ندخل في جدلٍ لغويٍّ حول ماهية الإبداع وتعريفاته، فهذا مجاله الدراسات العلمية المتخصصة، وإنما نكتفي ـ هنا ـ بتعريف بسيط للإبداع بأنه: (عملية إنتاج أفكار جديدة تتميز بدرجة عالية من الخروج على المألوف، وتستند هذه العملية إلى قدرات عقلية عالية، وسِمَات شخصية خاصة أبرزها المعرفة العلمية والدافعية للإنجاز والتميّز) .
وبالطبع؛ فإن هذا التعريف يشمل المفكرين والأدباء والعلماء المتفردين باختراعات خاصة بهم، وعباقرة الأطباء والمهندسين، ويدخل فيه بعد ذلك أصحاب المهن الأخرى كالمحامين وغيرهم.
والسؤال الذي يهمّنا طرحه الآن: كيف تكتشف الأسرة أن طفلها هذا أو ذاك «مشروع» إنسان مبدع؟
ولكي نجيب عن هذا السؤال يجب علينا تحديد ملامح أو سِمَات شخصية المبدع التي يمكننا إجمالها فيما يلي:
١ ـ الطلاقة: وتعني: قدرة الفرد على توليد الأفكار بعضها من بعض، واكتشاف بدائل عديدة للحلول المطروحة، والقدرة على حلِّ الألفاظ والمشكلات بأساليب غير مألوفة. ويمكننا أن نقدِّم مثالاً على ذلك بأن نفترض أن أمامنا مجموعة من الطلاب نريد أن نختبر قدرتهم على الطلاقة الفكرية، فنسألهم عما يمكن أحدهم أن يفعله إذا كان في قطار ـ مثلاً ـ واكتشف أن هذا القطار على وشك الوقوع في خطر، أو الاصطدام بقطار قادم.
هنا ستتوالى الأفكار نتيجة الشعور بالمأزق، فمنهم: من يقترح الاتصال بالسائق، ومنهم: من يفضّل البحث عن طريقة للقفز ينجو من خلالها بنفسه، ومنهم: من يفكر في البحث عن «فرملة» الطوارئ الموجودة في كل عربة ... إلخ. وقطعاً سيصل أحدهم إلى فكرة لم تكن واردة في ذهن واضعي الاختبار، وسيجد واضع الاختبار نفسه مبهوراً بتلك الفكرة الجديدة التي يمكن عدّها إبداعاً أو مشروعاً لإنسان مبدع في المستقبل.
ومثال آخر لاختبار الطلاقة اللفظية يمكننا فيه أن نؤمن لبعض الدارسين صوراً متعددة لوجوه بشرية ونطلب التركيز على حركة العينين ونوعية النظرة التي فيها والتعبير عنها بفعل مضارع، مثل: (يرى ـ يشاهد ـ ينظر ـ يتأمل ـ يرمق ـ يُمْعن النظر ـ يشاهد ـ يرنو ـ يشرئبّ ـ يتطلّع ـ يلاحظ ـ يتابع ـ ... إلخ) . والقدرة على توليد مترادفات مثل هذه تُعدّ مثالاً للطلاقة اللفظية.
٢ ـ المرونة: ضدّ التحجّر والجمود، ومعناها قريب من معنى الطلاقة، فهي تعني ـ أيضاً ـ: القدرة على الاهتداء لأفكار جديدة، ولكن بينها وبين الطلاقة فروق، فالطلاقة تعني: ثراء الأفكار واللغة أكثر من المرونة. والمرونة تعني: القدرة على الالتفاف حول الفكرة أو الجملة أو الكلمة والانحراف بها إلى معانٍ أخرى أو دلالات أخرى. وقد كان العرب يعبِّرون عن مفهوم المرونة بما كانوا يسمّونه (سرعة البديهة) ، مثل: ما روي عن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال لعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بعد أن فقد بصره في أواخر عمره: «ما لكم تصابون في أبصاركم يا بني هاشم؟» فردَّ عليه ابن عباس في الحال: «كما تُصابون في بصائركم يا بني أمية» . وكتاب علي بن ظافر الأزدي (بدائع البدائه) حافل بمئات الأمثال لهذه التلقائية في الردِّ التي كانوا يسمونها (سرعة البديهة) . فالتلقائية سِمَة من سِمَات المرونة، وكذلك القدرة التكيفية العالية بمعنى: قدرة الفرد على أن يتعايش مع أيِّ متغيرات تصيب حياته.
فإذا لاحظت الأسرة أن أحد أطفالها متشدّد في مطعمه وملبسه وطريقة نومه واستيقاظه ومذكراته ... إلخ، فلا يجب أن تفرح بهذه السلوكيات وتصف هذا الطفل بأنه «ذو عقل جامد» ، و «مخّه ناشف» كما يقولون. بل يجب عليها أن تفزع؛ لأن هذه الصفات (الجمود ـ التشدّد) تدل على مستقبل غير سعيد لهذا الطفل. وعلى العكس إذا لاحظت قدرة عالية على التكيّف لدى الطفل واستعداده للتأقلم مع أيِّ تغيير فعليها أن تدرك أنها أمام «مشروع» إنسان مبدع.
٣ ـ الإفاضة: الإفاضة قريبة المعنى من الطلاقة ـ أيضاً ـ ولكنها تعني بدرجة أكبر: القدرة على إعطاء تفاصيل لم ولا تخطر على بال الطرف الآخر. ونستشهد على هذا بذلك البدوي حينما قال: هي عصا، أعدّها لعداتي (أي: أعتمد عليها كسلاح) وأسوق بها غنمي، وأركزها لصلاتي، وهي مشجب ثيابي، وعلاّقة أدواتي، وأعتمد عليها في مشيي ليتّسع بها خطوي..، ولي فيها مآرب أخرى. فانظر إلى هذا الرجل كيف ذكر العديد من الاستعمالات في إفاضة وبلاغة وقدرة عالية على التفصيل، ولم يكتف بذلك بل أجملَ في النهاية وظائف أخرى لم يفصلها.
٤ ـ حب الاستطلاع: من أبرز سِمَات المبدعين التي يمكن للأسرة اكتشافها بسهولة، حب الاستطلاع، فكلما كان لدى الطفل شرهٌ للمعرفة ورغبة جارفة في الاكتشاف والتعرّف على الأشياء وخصائصها، كان ذلك دليلاً على جودة بذرة الإبداع في نفسه، وهنا يتعين على الأسرة الانتباه إلى هذه العبقرية الوليدة وتعهّدها بالرعاية؛ من خلال توفير العديد من القصص ذات الألغاز والحكايات المثيرة والمعلومات المتدرجة في التعقيد حتى تشبع لدى هذا الطفل تلك الحاجات التربوية شديدة الأهمية في حياته.
ü دور المدرسة في اكتشاف المبدعين:
إذا آنسَ المعلم في بعض تلاميذه قدرة على الإبداع فإن عليه أن ينمِّي هذه القدرة ويبذل الجهد الكبير لاصطفاء أولئك التلاميذ ذوي القدرات العقلية المتميزة بتقريبهم إليه وتشجيعهم على المزيد من التفكير ـ طبعاً من دون أن يهمل الآخرين ـ ويمكنه أن يفعل ذلك من خلال:
أـ تكليف هؤلاء الطلاب المتميزين بقراءة بعض القصص التي يختارها لهم من مكتبة المدرسة، وبعد ذلك تكليفهم كتابة قصص جديدة، ثم يعيد توزيعها عليهم، ويطلب منهم وضع عناوين متعددة لكل قصة، فمثل هذا العمل ينمِّي القدرة على الطلاقة اللفظية والفكرية لدى الطلاب.
ب ـ تكليف الطلاب المتميزين ذكر استعمالات كثيرة مختلفة لأشياء معروفة كالحبل والورق وما شابه ذلك، ففي هذا تحدٍّ للعقول المبدعة كي تتفق مواهبها وينطلق خيالها.
جـ ـ استخدام الألغاز في التدريس، أو أن يطلب المعلم من تلاميذه صياغة ألغاز حول بعض المواد التعليمية التي يقدمها إليهم.
ü دور الأسرة في تربية الإبداع:
وإذا كنا قد أشرنا إلى دور المعلم، فإن دور الأسرة هو المحور الأساسي في هذا الميدان، فالطفل يقضي معظم وقته ـ لاسيما السنوات الأولى من عمره ـ في أحضان أسرته، وعلى الأسرة أن تقدّم الرعاية الخاصة لأطفالها الذين تلمس لديهم قدرة أو ملامح قدرة إبداعية خاصة.
ويمكن للأسرة أن تؤدِّي هذا الواجب من خلال:
١ ـ تشجيع الاختلاف بين الأبناء، فلا ينبغي أن تنزعج الأسرة إذا وجدت نشوزاً أو إعراضاً من أحد أبنائها عن سلوك أخيه أو إخوته، بل يجب أن تدعم هذا الاختلاف بحيث يؤدي في النهاية إلى التميّز لا إلى العدوان.
٢ ـ عدم الإسراف في العقاب البدني أو النفسي.
٣ ـ عدم الإسراف في الحماية الزائدة لأطفالها.
٤ ـ تقبُّل أخطاء الأطفال المتميزين بصدر رحب.
٥ ـ مساعدة الطفل على استغلال كل إمكاناته المادية والبدنية والعقلية.
٦ ـ توفير مكتبة في المنزل مهما تكن إمكانات الأسرة المالية.
٧ ـ تجنيب الأطفال العزلة؛ لأنها تدمّر نفسية الطفل وتخلق لديها بوادر الاكتئاب والإحباط.
٨ ـ تعليم الطفل كيفية تقبُّل الفشل والخطأ.
٩ ـ انتقاء ألعاب تنمِّي الخيال والابتكار.