البيان الأدبي
[قضية الإبداع]
أ. د. محمد يحيى [*]
من القضايا التي يكثر الإلحاح على طرحها في هذه الفترة تلك المسماة بـ
(مسألة الإبداع) ويجري طرحها عادة من زاوية الزعم بالحرص على حرية وطلاقة
التأليف والتعبير الأدبي والفني؛ لأنه فيما يقال يؤدي إلى تقدم وخير الأمة، وعادة
ما يأتي طرح هذه القضية والدفاع عنها من جهات ومنابر علمانية التوجه لم يعهد
عنها اهتمام يذكر بالإسلام وبقضاياه. والإبداع عند أصحاب هذا الطرح له قدسية
وحصانة مطلقة لا تعلو عليها أي اعتبارات أخرى، وهم يروجون القول بأنه لا
يحق لأحد أن يحجر على هذا الإبداع (الذي يختصون وحدهم بتعريفه وتحديده)
ولو بالدفع باعتبارات مجافية للدين والقيم والتقاليد والأعراف. والواقع أن هذه
القضية تحوطها منذ البداية التباسات عديدة؛ فالمثيرون لها يستخدمون لفظة لها وقع
خاص وإيحاءات جذابة هي مصطلح «الإبداع» ولا يستخدمون المصطلحات
الأدق وصفاً مثل التأليف أو التعبير أو الكتابة أو حتى التشكيل الفني أو الأدبي،
ومصطلح «الإبداع» يوجد هالة من القداسة حول الأعمال الأدبية والفنية
المقصورة؛ كما أنه وبذكاء يحصنها من النقد الذي يميز بين الجيد والسيئ؛ ذلك
لأنه إذا كان كل ما يقدم في هذه الأعمال يوصف بأنه «إبداع» أي تأليف متفرد
متميز وعبقري فإن يد النقد تغل عنه؛ حيث إن الناقد سواء كان ناقداً للمضمون أو
للشكل لن يرقى إلى مكانة المبدع الذي يفترض (حسب التعريف) أنه في مرتبة
أعلى وأسمى، وهذا الطرح لمصطلح «الإبداع» يرتكن على أصول معينة
معروفة في التراث الغربي منها الوصف الإغريقي للشاعر كشخص يتلقى الوحي
والإلهام من بعض معبوداتهم، أو رؤية الحركة الرومانسية الأوروبية للأديب
والفنان (كنبي) أو ملهم له رؤية ثاقبة في الكون، والحياة لا يصل إليها سواه من
الأفراد العاديين الذين هم لذلك في مرتبة أدنى منه. كذلك فإن حركة الحداثة الأدبية
والفكرية في الغرب شاركت سابقتها الرومانسية (ولو لاعتبارات جد مختلفة) في
النظر للأديب والكاتب والفنان باعتباره من طينة بشرية أسمى وأرقى؛ ليس لأنه
يتلقى الإلهام، أو لأن له رؤية ميتافيزيقية سامية؛ بل لأنه صاحب حساسية وذوق
وقدرات تخيلية أرقى ممن حوله من الناس العاديين المنغمسين في المادة والسياقات
الحياتية التي أولع دعاة الحداثة بالحط من شأنها بوصفها بألفاظ شتى تفيد الحط من
المكانة والتحقير من شأن البورجوازية إلى الجلافة وما أشبه ذلك.
ويتبين من ذلك أن مصطلح «الإبداع» أو ما يسمونه (الخلق الفني) تحيط
به في الاستخدامات الغربية المتنوعة وعلى مدى تاريخ الثقافة الغربية هالة من
القداسة من ناحية، وإيحاءات من الناحية الأخرى تضع ذلك «الإبداع» والمنتجين
له في مواجهة صدامية عنصرية مع مجتمع ينفرون منه ويتعالون عليه ويسعون إلى
إيجاد نظام خاص بهم من القيم والرؤى والسلوكيات في مواجهته.
والحق أن مستخدمي وناقلي مصطلح «الإبداع» في الأوساط العربية
والإسلامية ينحون بشدة إلى هذا المعنى الأخير حتى وإن بدا من كلامهم أنهم
يقصدون فحسب ذلك التقديس الساذج وغير المسوَّغ للأعمال الأدبية الذي يتجلى في
كتاباتهم؛ ففي نهاية المطاف نجد أن المنظور الذي ينطلق منه الحديث المكرر
والملحّ عن الإبداع والمبدعين في كتابات العلمانيين عندنا هو المنظور الحداثي
الغربي الذي لا يركز على إلهام ميتافيزيقي للمبدع ولا على رؤية سامية في ذهنه،
بل على كونه المبتدع لقيم اجتماعية جديدة تقف في مواجهة القيم السائدة الموصوفة
بالجمود والتخلف والتقليدية.
وتتضح الصورة أكثر عند طرح هذا الموقف في المجتمعات الإسلامية؛ فإذا
كان حداثيو الغرب يطرحون قيماً جديدة خاصة بنخبتهم في مواجهة ما يسمونه بالقيم
البورجوازية السائدة فربما يكون في هذا الرأي بعض الوجاهة لطبيعة هذه القيم
المادية والمتولدة عن مجتمع رأسمالية القرن التاسع عشر. أما عندما يطرح دعاة «
الإبداع» المحليون قضية الإبداع فإن القيم المرفوضة والمطلوب إقصاؤها تصبح
هي القيم الإسلامية؛ بينما تصبح القيم الجديدة التي يروج لها «المبدعون» من
خلال الأعمال الأدبية والفنية هي قيم النخبة الغربية المعنية (النخبة الحداثية) التي
تتلخص في معاداة المجتمع القائم ومصادمة قيمه من خلال التركيز مثلاً على نبذ
العقيدة الدينية وطرح الأخلاق جانباً بحجة أنها زائفة أو غير صالحة. وينقل
«المبدعون» المحليون هذه المواقف والتصورات بلا تدبر ولا نقد باعتبارها
هي المضمون الوحيد لفكرة «الإبداع» الفني دون الالتفات إلى كونها نبت بيئة
معينة وسياق تاريخي وثقافي واجتماعي خاص لا يجوز نقله كنقل
النسخة.
وجوهر المشكلة كله وحل الالتباس في رأينا وكما قلنا هو في العودة إلى
تسمية الإنتاج الأدبي والفني باسمه الحقيقي كتأليف، ووضع لتصورات ورؤى وقيم
حياتية واجتماعية خاصة من خلال أشكال وأساليب لغوية وشكلية متعارف عليها
داخل الثقافة المعنية التي يطلق عليها التقاليد الأدبية والفنية.
إن قضية «الإبداع» ليست في النهاية سوى الاستخدام المغلوط للمفاهيم
ترويجاً ودعماً لموقف علماني معين.
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.