للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الاعتداءات الإثيوبية المستمرة على الصومال

أهداف وأطماع

محمد حاج يوسف أحمد [*]

اجتاحت القوات الإثيوبية مدينة لوق الصومالية للمرة الثالثة خلال ثلاثة أعوام

وكان آخرها في ٢١/٢/١٤٢٠هـ الموافق ٥/٦/١٩٩٩م، كما اجتاحت تلك القوات

مدينة بيدوه في اليوم التالي لغزو لوق، واحتلت القوات الغازية كلتا المدينتين وكل

المناطق الشاسعة التي تقع بينهما. فلوق تبعد عن بيدوه حوالي ١٨٠ كيلو متراً نحو

مقديشو العاصمة، ومعنى ذلك أن محافظات جدو وباي وبكول الصومالية قد

وقعت تحت الاحتلال الحبشي في الوقت الحاضر، ولا يغير من هذه الحقيقة شيئاً

ادعاء جبهة الرحنوين بأنها هي التي استولت على مدينة بيدوه وطردت من المدينة

مليشيات حسين عيديد، كما أنه لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً ادعاء أحمد شيخ علي

برالي بأن جبهته هي التي استولت على مدينة لوق وطردت منها أيضاً أنصار

حسين عيديد وأورومو، كل هذه مزاعم لا أساس لها من الصحة، وأصحاب هذه

المزاعم ما هم إلا أداة طيعة في أيدي الأحباش وتحت إشارتهم يتكلمون بأمرهم،

ويسكتون حين يشاء الأحباش ذلك.

ولعل الجميع يتذكر ادعاء عمر حاج مسلى بأن جبهته هي التي استولت على

«منطقة جدو» بالصومال في يونيو عام ١٩٩٧م، وليست إثيوبيا هي التي

استولت على تلك المنطقة آنذاك، ثم لما ساءت علاقته بإثيوبيا وانشقت جبهته إلى

فريق متحالف مع حسين عيديد يقوده هو، وفريق آخر عميل للحبشة يقوده أحمد

برالي بدأ عمر حاج مسلى يرسل الصيحات تلو الصيحات مطالباً بإخراج القوات

الحبشية من منطقة جدو بأنها قوات احتلال غير مرغوب فيها، ويعلم كثير من

المتتبعين للشؤون الصومالية أن عمر حاج مسلى كان كاذباً في مزاعمه عام ١٩٩٧م

أيام أن كان عميلاً لإثيوبيا، وأنه صادق في مطالبه الأخيرة لكونه قد ابتعد عن

عمالته لإثيوبيا، ويتكلم الآن بإرادته الحرة وهو بعيد عن تهديدهم، وليس ببعيد أن

يأتي عما قريب دور هؤلاء العملاء الجدد لتكذيب أنفسهم بأنفسهم عندما يتخلى عنهم

الأحباش.

ويبدو أن كثيراً من الصوماليين قد أصيبوا بفقدان الذاكرة ونسيان الماضي

القريب؛ فقد روى التاريخ الصومالي الحديث: أن إحدى الجبهات الصومالية كانت

متحالفة مع الأحباش ضد حكم محمد سياد بري أوائل الثمانينيات من هذا القرن

الميلادي، فاحتل الحلفاء مدينة غلدغب الصومالية، فرفع أحد أفراد الجبهة علمها

على المدينة إيذاناً بوقوعها في يد الجبهة، ولكن الأحباش قتلوا ذلك الرجل وأنزلوا

علم الجبهة، ورفعوا بدله علم الحبشة إيذاناً بوقوع المدينة في أيدي الأحباش؛

ومعنى ذلك أن الصوماليين المتحالفين مع الأحباش ما هم إلا قنطرة تعبر عليها

إثيوبيا لاحتلال وطنهم وإذلال شعبهم.

لسنا نؤيد جبهة ضد جبهة أخرى، ولم يكن ذلك من دأبنا منذ اندلاع الحرب

الأهلية في الصومال، بل كنا نعادي عيديد عندما كان يحتل محافظتي باي وبكول

أواخر عام ١٩٩٥م، ولكننا ضد الغزاة الأحباش وضد من يدور في فلكهم من

العملاء والخونة الذين باعوا دينهم ووطنهم وأمتهم للشيطان وللأعداء أياً كان

انتماؤهم وولاؤهم، كما أننا ضد الحروب الأهلية القذرة في الصومال، وضد

التدخلات الأجنبية المشبوهة في الشؤون الداخلية للصومال، ومهما يكن من أمر فإن

ذلك العدوان الحبشي الغاشم على تلك المحافظات قد سبب خسائر فادحة في الأرواح

والممتلكات؛ حيث قام الغزاة بأعمال وحشية من القتل والنهب وانتهاك الأعراض

وغير ذلك من المفاسد والمظالم.

تصعيد خطير للتدخل الإثيوبي في الصومال:

إن هذا الغزو الإثيوبي الأخير للصومال هو تصعيد خطير للتدخل الإثيوبي في

الشؤون الصومالية مما يدل على أن هذا التدخل قد وصل إلى مرحلة متقدمة لتحقيق

أغراض إثيوبيا من ذلك التدخل، فلم يكن هذا الغزو الأول من نوعه؛ لأن العدوان

الحبشي المسلح على الصومال كان مستمراً منذ وقت بعيد؛ فكثير من الناس على

علم تام بالغزو الحبشي على منطقة جدو بالصومال في تاريخ ١٥/٣/١٤١٧هـ

الموافق ٩/٨/١٩٩٦م ثم الاجتياح الحبشي لتلك المنطقة مرة أخرى في ٦/٢/١٤١٨

هـ الموافق ١٢/٦/١٩٩٧م واحتلال إثيوبيا مدن لوق ودولو وحواء من المنطقة

نفسها، وقد كتبت صحف عديدة عن ذلك الغزو في حينه وخاصة «الحياة»

و «المستقلة» و «المسلمون» وكلها تصدر في لندن، ونشرته أيضاً صحف

عديدة تصدر في البلاد العربية وبخاصة في اليمن وبعض دول الخليج، كما

أذاعته إذاعات كثيرة وخاصة إذاعة لندن باللغتين العربية والصومالية، وما زالت

الحبشة تحتل أجزاءاً من منطقة جدو الصومالية حتى يومنا هذا؛ حيث تذيق

أهالي تلك المنطقة مرارة الذل والإهانة والاستعباد والتهجير وضرب بعضهم

ببعض.

كل ذلك كان ولا يزال يحدث على مرأى ومسمع من العالم الذي يدعي

التحضر ورعاية حقوق الإنسان، ولم يحرك أحد ساكناً لصد العدوان الحبشي على

الصومال؛ حيث لم يصدر مجرد الإدانة والشجب لا من الأمم المتحدة، ولا من

المنظمات الإقليمية إلا أصوات باهتة متناثرة لا تغيِّر من واقع الأمر شيئاً، وكذلك

لم يصدر شيء من الإدانة والشجب من الذين يتشدقون بأنهم حُمَاةُ حقوق الإنسان في

كل مكان؛ فهنا في الصومال حقوق شعب تنتهك بأيدي الأحباش لما يقرب من ثلاث

سنوات دون أن يلتفت إليها أحد، بينما نسمع صيحات الاستنكار والإدانة من أجل

شخص واحد أو أشخاص معدودين بزعم انتهاك حقوقهم، كمجموعة اليهود الذين

اعتقلتهم حكومة إيران بتهمة التجسس لحساب (إسرائيل) فقامت الدنيا من أجلهم

ولم تقعد بعد، وذلك دليل قاطع على أن ما يحدث في الصومال من قِبَل الأحباش

هو تآمر عالمي تشارك فيه بطريقة أو بأخرى أيادٍ خفية دولية يحسب لها حسابها

تضمن لإثيوبيا التمويل وإسكات أصوات الشجب والإدانة، وتضمن لها عدم التدخل

لإيقاف إثيوبيا عن اعتداءاتها المتكررة على الصومال منذ وقت بعيد.

وعلى أي حال فإن الغزو الإثيوبي الأخير على محافظات جدو وباي وبكول

لدليل صارخ على خطورة الوضع، وأن الخطة الإثيوبية التي وضعتها لاحتلال

الصومال قد وصلت إلى مراحلها النهائية؛ فمدينة بيدوه تبعد عن الحدود الصومالية

الإثيوبية حوالي ٢٥٠ كيلو متراً نحو عمق الصومال، بينما تبعد بيدوه عن مقديشو

العاصمة المطلة على المحيط الهندي حوالي ٢٤٧ كيلو متراً؛ فتجرُّؤ إثيوبيا على

الوصول إلى هذا العمق في داخل الأراضي الصومالية شيء في منتهى الخطورة،

ونظراً للتدهور الذي تردت إليه الحالة الصومالية، فإن الوضع يحتاج إلى تدارك

وتدخل سريع ممن يهمهم أمر الصومال قبل فوات الأوان، وإن المقاومة المحلية

التي لا تلقى دعماً من أي جهة لا تجدي في منع الأحباش من احتلال الصومال،

والدليل على ذلك أن أهالي منطقة جدو الصومالية كانوا يقاومون القوات الحبشية منذ

٩/٨/١٩٩٦م حتى يومنا هذا، وأوقعوا خسائر فادحة في صفوف القوات الغازية في

مواقع كثيرة جرت فيها معارك رهيبة، واستشهد أعداد كبيرة من المدافعين عن

وطنهم، وجرح منهم أعداد كثيرة ومع كل ذلك لم يستطع أهالي تلك المنطقة

إخراج المعتدين من بلدهم؛ لأنهم لم يجدوا من يقدم لهم الدعم اللازم لدحر المعتدين؛

حتى الجرحى لم يجدوا من يقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة، وهناك كثير منهم

ينتظرون إجراء عمليات جراحية متطورة لهم بعدما عجز الطب المحلي عن القيام

بمثل هذه العمليات؛ ومعنى ذلك أن ما يجري في الصومال مأساة حقيقية بكل

المقاييس.

أهداف التدخل الإثيوبي السافر في الشؤون الصومالية:

قد يتساءل المرء: لماذا تبذل إثيوبيا كل هذه الجهود من الغزو المسلح الذي

يكلفها الكثير من المال والمعدات والرجال مع العلم بأنها في حروب مستمرة منذ

سنوات ضد جبهات أوغادين وأورومو وعفر وغيرها من جبهات التحرير

بالإضافة إلى القلاقل الداخلية والاقتصاد المنهار والحرب الضروس بينها وبين

إريتريا؟ والجواب هو أنَّ كثيراً من خبراء منطقة القرن الإفريقي على علم تام

بالعداوة المستحكمة بين الشعبين الصومالي والإثيوبي، تلك العداوة التي سببت

حروباً طاحنة كثيرة استمرت بين الجانبين أكثر من ستة قرون، وأدت في بعض

مراحلها إلى احتلال إثيوبيا أجزاءاً كبيرة من الوطن الصومالي مما ترك جرحاً لا

يندمل في جسد الوطن الصومالي، وأجبر ذلك الحكومات الصومالية المتعاقبة منذ

الاستقلال أن تحاول استرداد تلك الأجزاء بكل وسيلة ممكنة ولو كان الاسترداد عن

طريق الحرب وقوة السلاح. وليس عنا ببعيد اندلاع الحرب التي اشتهرت بحرب

أوغادين بين الصومال وإثيوبيا عام ١٩٧٧م؛ حيث كادت الصومال أن تسترد فيها

كل أراضيها لولا تدخل قوات حلف وارسو في الحرب لصالح إثيوبيا وطرد

الصومال من الأراضي التي استولت عليها.

ومنذ ذلك التاريخ استخدمت حكومتا البلدين ضد الأخرى كل الوسائل المتاحة

لديها لتدمير البلد الآخر، ولسوء الحظ لم يجد الصومال من يهتم بها ويقف بجانبها

لإيقاف الحرب والنزيف قبل استفحاله، فتم تدميرها بسبب الحروب الأهلية التي

تفاقمت بعد سقوط (محمد سياد بري) ووجدت إثيوبيا من اهتم بشأنها، ووقف

بجانبها وأوقف النزيف، وحال دون تطور الأوضاع إلى حرب أهلية شاملة، وتم

إخراج (منجستو هيلا مريم) بطريقة سلمية مع توحيد الجبهات المعارضة

المتنافسة لاستلامها السلطة بعد تمهيد دقيق وجيد من قِبَل القوى الكبرى في العالم

وخاصة القوى الغربية وبذلك سلمت إثيوبيا من التدمير.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن للصومال ساحلاً بحرياً يبلغ طوله حوالي

٣٣٣٠ كيلو متراً ابتداءاً من باب المندب ومروراً بخليج عدن حتى حدود كينيا على

المحيط الهندي، وقد يكون هذا الساحل الأطول في شرق إفريقيا إن لم يكن أطول

ساحل لدولة إفريقية على مستوى القارة، بينما لا يوجد شبر واحد من المنفذ البحري

لدولة إثيوبيا التي ترشحها القوى الكبرى لتكون القوة الإقليمية المهيمنة في منطقة

القرن الإفريقي، هذه العوامل الثلاثة أعني. العداوة المستحكمة بين الشعبين

الجارين، واستعمار إثيوبيا لأراضي صومالية شاسعة، والموقع الاستراتيجي

للصومال الذي يتمتع بتلك السواحل الطويلة؛ هذه العوامل جعلت إثيوبيا تفكر

وتخطط لتدمير الصومال وتمزيقه لتحقيق أحد الهدفين الآتيين:

١ - احتلال جميع الأراضي الصومالية، ووضعها تحت الحكم الإثيوبي

المباشر: لتكون السواحل الصومالية عوضاً عن فقدها لميناءَيْ عصب ومصوَّع

الإرتيريين اللذين فقدتهما إثيوبيا بعد استقلال إريتريا من استعمارها، وقد قُدِّمت

بالتأكيد إلى إثيوبيا دراسة من هذا القبيل من قِبَل بعض الخبراء الأوروبيين ضمن

مشروع لرسم خريطة إفريقيا من جديد، وجعلها أربع دول كبيرة فقط وتوزيع الباقي

بين هذه الدول الأربع؛ والدولة المرشحة عند تطبيق هذا المشروع لا قدر الله لقيادة

شرق إفريقيا هي إثيوبيا بينما الصومال قد رشحت طبق هذا المخطط لتكون من

نصيب إثيوبيا، وتزول بذلك من خريطة العالم؛ لا قدر الله ذلك وتحقيق هذا الهدف

هو الأمثل والمفضل لدى الحبشة التي اشتهرت بالأطماع التوسعية وابتلاع الشعوب

الأخرى، كما توسعت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على حساب

شعوب أورومو وعفر وبني شنغول والصومال وغيرها من الشعوب المنضوية

تحت اسم ما يسمى إثيوبيا حالياً، وقد بذل هيلاسلاسي إمبراطور إثيوبيا السابق

جهوداً كبيرة لضم الصومال قبل استقلالها إلى إثيوبيا كما فعل سلفه منيلك بالشعوب

الأخرى المذكورة آنفاً، ولتحقيق ذلك الهدف أسس هيلاسلاسي في الصومال حزباً

عميلاً أواخر الخمسينيات من هذا القرن الميلادي يسانده في تحقيق أطماعه التوسعية

وينادي بضم الصومال إلى إثيوبيا. وبفضل الله تعالى ثم بيقظة الشعب الصومالي

آنذاك أُحبط ذلك المشروع الخبيث.

٢ - الهدف الآخر لإثيوبيا عند تعذر تحقيق الهدف الأول هو تجزئة الصومال

إلى خمس دويلات ضعيفة تتشكل على أساس قبلي تعيش تحت هيمنة إثيوبيا،

وتأتمر بأوامرها، وتتخلى عن محاولة استرداد الأراضي الصومالية لتستريح بذلك

إثيوبيا نهائياً من الإزعاج الصومالي، وهذا الاقتراح مقدم أيضاً من خبراء إنجليز

لديهم خبرة واسعة بطبيعة الأرض الصومالية وتركيبتها السكانية وتوازنها القبلي؛

حيث كانت إنجلترا تحكم معظم الأراضي الصومالية بعد الحرب العالمية الثانية،

وقد بُدئ فعلاً بتنفيذ هذا الاقتراح؛ حيث أنشئت في بعض المناطق الصومالية

حكومات إقليمية بعضها أعلن الانفصال عن بقية الصومال كلية، وبعضها الآخر ما

زال يعلن أنه جزء من الصومال، وقد وضعت إثيوبيا كل ثقلها وراء هذه

الحكومات الإقليمية بالدعم والتسليح، وتستخدم موانئها بعد أن تعذر عليها استخدام

الموانئ الإرتيرية، وقد تقتنع إثيوبيا وتفضل مرحلياً تحقيق هذا الهدف لسهولة

إقناع كثير من الصوماليين به، ولقلة تكلفته بالنسبة لإثيوبيا مثل ما فعلت بإرتيريا

حين اقتنعت أول الأمر بالحكم الفيدرالي فيما بين البلدين ثم ابتلعتها كلية؛ فالقضية

مسألة وقت وتهيئة ظروف، ولكن الهدف النهائي لإثيوبيا فيما يتعلق بالصومال هو

الابتلاع والسيطرة الكاملة عليها.

الخطوات العملية لتحقيق أهدافها:

١ - إيجاد جبهات صومالية عميلة لإثيوبيا: ما من جبهة صومالية قامت ضد

آخر حكومة في الصومال إلا وقد أنشئت في داخل إثيوبيا بإشراف وتوجيه وتمويل

وتسليح ودعم كامل من الحكومة الإثيوبية التي كانت قائمة آنذاك، فاختارت

الحكومة الإثيوبية الحالية من بين تلك الجبهات الصومالية مجموعة قد اشتهرت

بمجموعة (سودرا) ، وقد سميت المجموعة باسم المدينة الإثيوبية التي أنشئ فيها

هذا التجمع العميل للأحباش العدو اللدود للشعب الصومالي منذ عصور سحيقة،

ومما يبرهن على عمالة هذه المجموعة وأنها لا تخدم المصالح الصومالية أن إثيوبيا

قد غزت منطقة جدو بالصومال عام ١٩٩٦م عندما كانت المجموعة تعقد اجتماعاتها

في مدينة سودرا، ولم يصدر منها ما يدل على أنها ضد هذا العدوان الغاشم، ولم

تنسحب المجموعة من إثيوبيا احتجاجاً على هذا العدوان، ولم تصدر بيانات الشجب

والاستنكار نحو هذا الغزو، بل تبارك كل الخطوات التي تنفذها إثيوبيا لتدمير

الصومال وتعرقل كل الخطوات الاصلاحية التي لا تخدم مصالح إثيوبيا.

فبذلك كسبت هذه المجموعة ثقة إثيوبيا، فتدفقت الأسلحة الإثيوبية بغزارة إلى

هذه المجموعة عن طريق المحافظات الحدودية الصومالية من أقصى الشمال إلى

أقصى الجنوب. فالمعابر البرية الرئيسة لدخول هذه الأسلحة إلى الصومال هي:

محافظة جدو، ومحافظة بكول، ومحافظة هيران، ومحافظة مدق، ومحافظة

الشمال الغربي؛ فمعظم الأسلحة المستخدمة في الصومال حالياً جاءت من الحكومة

الإثيوبية التي جعلت مدينة جدى المحتلة مركزاً رئيساً لتصدير الأسلحة إلى

الصومال، ويوجد في تلك المدينة مكاتب تموين لتلك الجبهات الصومالية العميلة

لإثيوبيا، وتنقل الأسلحة الإثيوبية عن طريق الجو إلى المناطق الصومالية النائية

التي تتبع تلك الجبهات؛ مثل مدينة كسمايو في أقصى جنوب الصومال؛ فقد

وصلت إليها الأسلحة الإثيوبية بغزارة عن طريق الجو.

وزيادةً على ذلك تدرب القوات الإثيوبية أعداداً كبيرة من ميليشيات تلك

الجبهات العميلة، وأهم المراكز لتدريب هذه المليشيات هي هيزان ودولو وباري

التي تقع في داخل المناطق الصومالية المحتلة لإثيوبيا.

من هنا نعلم أن القلق الذي أبداه مجلس الأمن الدولي حول تدفق الأسلحة على

الصومال ما هو إلا ذرٌّ للرماد على العيون؛ فالأسلحة الإثيوبية المتدفقة على

الصومال منذ خروج (يونصوم) منها معروفة للجميع، والاعتداءات الإثيوبية

المستمرة على الصومال تقع في وضح النهار على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة

ومجلس أمنها ومن جميع دول العالم، والتعتيم الإعلامي المفروض على تلك

الاعتداءات مقصود ومخطط.

٢ - محاولة تحطيم جدار الكراهية والبغضاء بين الشعبين الصومالي

والإثيوبي: فتحت إثيوبيا أبوابها للصوماليين النازحين من نيران الحرب الأهلية في

الصومال، وسهلت لهم الحصول على الوثائق الإثيوبية بما فيها جوازات السفر

بإشعارهم أنهم جزء من الشعب الإثيوبي، وأن حكومة إثيوبيا هي الحكومة

المسؤولة عن كلا الشعبين وعن رعايتهم والاعتناء بشؤونهم، واغتر بهذا الخداع

بعض الجهلة ضعاف النفوس والمنحرفون أخلاقياً الذين ليس لهم همٌّ إلا ملء

بطونهم وقضاء شهواتهم؛ فظن هؤلاء المخدوعون أن العداء المستحكم بين الشعبين

شيء مصطنع لا وجود له، فبذلك كسبت إثيوبيا لصالحها مجموعة لا يستهان بها

من الصوماليين من تلك الأصناف المذكورة تستخدمهم لأغراضها الدنيئة من

الجاسوسية والدعاية والدفاع عن مصالحها، وقد جندت مرتزقة من هذه الأصناف

للقتال في صفوف قواتها ضد إرتيريا، والأخطر من ذلك أن كثيراً منهم يحاربون

في صفوف قواتها المستخدمة لتدمير بلدهم واحتلاله من قِبَل إثيوبيا.

٣ - السيطرة على ملف القضية الصومالية: بذلت إثيوبيا كل ما وسعها من

حيل خبيثة وأساليب ملتوية للسيطرة على ملف القضية الصومالية لا للوصول إلى

حل مُرْضٍ لهذه القضية، وإنما لتعقيد القضية والحيلولة دون قيام كيان صومالي

متماسك، وللتخريب وتدمير البقية الباقية من مقومات المجتمع الصومالي، والسؤال

هو: هل هذه العملية تمت مصادفة أو بحسن نية؟ أم أنها حلقة من حلقات التآمر

لبعض القوى المتنفذة في عالم اليوم على الشعب الصومالي المنكوب؟ وهل يمكن

لإثيوبيا أو يُتَصوَّر منها وهي العدو اللدود للصومال أن تكون حَكَماً مخلصاً ناصحاً

للقضية الصومالية قضية عدوها الأول؟ إن هذا لمنطق في منتهى العجب والغرابة

إن لم يكن منطقاً معكوساً والقصدُ منه التخريب!

وعلى أي حال فإن إثيوبيا قد بدأت تعقد في أراضيها ما يسمى بمؤتمرات

المصالحة الصومالية التي كان يشارك فيها كثير من رؤساء الجبهات المتحاربة في

الصومال منذ مارس عام ١٩٩٣م، وحتى شهر مايو الماضي ١٩٩٩م، ومع طول

هذه الفترة التي تزيد عن ست سنوات فإن القضية الصومالية كانت تزداد سوءاً

وتتعقد يوماً بعد يوم؛ لأن إثيوبيا كانت تجمع الصوماليين للتفريق والتشتيت

وضرب بعضهم بالبعض الآخر، وليس ذلك مستغرباً صدوره من إثيوبيا بل العكس

هو المستغرب، وكما قيل قديماً: «حاميها حراميها» ولأن الحَكَم هو الخصم،

والأخطر من ذلك أن إثيوبيا قد أحبطت كل المحاولات الجادة التي بذلت لحل

المشكلة الصومالية مستعينة بعملائها الصوماليين، وآخر تلك المحاولات مؤتمر

المصالحة الصومالية الذي عقد في القاهرة أواخر عام ١٩٩٧م، واجتمع فيه ممثلو

الفئات الصومالية كلها لأول مرة منذ عام ١٩٩٣م، ولم ينجح المؤتمر؛ لأن إثيوبيا

تعتبر نفسها الوصي والقيم على القضية الصومالية ولا يجوز للآخرين أن يلتفتوا

إليها أو يقتربوا منها كما يفهم من تصريحات مسؤوليها الذين كانوا يوجهون النقد

والإدانة إلى مصر لجرأتها على عقد مؤتمر المصالحة في القاهرة دون الاستئذان من

إثيوبيا.

وعلى أي حال فإن سيطرة إثيوبيا على ملف القضية الصومالية أعطاها فرصة

ذهبية لم تحلم بها يوماً من الأيام كي تجمع المعلومات الدقيقة المتعلقة بالشؤون

الصومالية في جميع المجالات، ولكي تتصرف بعد ذلك بمصير الشعب الصومالي

حسب رغباتها الدنيئة.

٤ - إرسال الجواسيس إلى المناطق الصومالية: فقد جندت إثيوبيا الآلاف من

الجواسيس لدراسة الأوضاع الصومالية من جميع جوانبها وخاصة تصنيف طوائف

الشعب الصومالي من حيث التأييد لإثيوبيا ومن حيث معارضتها، وكذلك جمع

المعلومات عن الفئات المعادية للتدخلات الإثيوبية والمتوقعة مستقبلاً، وكذلك تحديد

الأماكن الاستراتيجية في الصومال لاستخدامها من قِبَل الجيش الإثيوبي في المراحل

اللاحقة عند الاحتياج إليها، ومن المهام التي كانت منوطة بهؤلاء الجواسيس تنفيذ

عمليات الاغتيال والاختطاف ضد الأشخاص الذين ترى إثيوبيا أنهم خطر على

مصالحها في داخل الصومال، وقد نفذوا فعلاً عمليات من هذا القبيل في مقديشو

وبورما وغيرهما، وجرت محاولات عديدة لتنفيذ مثل هذه العمليات في مناطق عديدة

في الصومال ولكنها أُحبِطت قبل وقوعها. وقد جندت إثيوبيا هؤلاء العملاء من

القوميات العديدة التي تعيش تحت كنفها من التجراي والأورومو والصومال وغيرهم،

كما أنها جندت كثيراً من الرجال والنساء، واخترعت أساليب عديدة: من تجارة،

ودخول في الإسلام، وادعاء للفرار من الاضطهاد الإثيوبي، وغير ذلك من

الأساليب لتغطية أعمالهم الإجرامية، وما زال هؤلاء الجواسيس منتشرين في طول

البلاد الصومالية وعرضها لجمع معلومات في غاية الأهمية ولتقديمها إلى الحكومة

الإثيوبية لاتخاذ القرارات الإجرامية لتفتيت الشعب الصومالي وتدميره، وللسيطرة

على مقدراته على ضوء تلك المعلومات المخابراتية.

٥ - الغزو الإثيوبي المسلح على الصومال: كانت هذه الخطوة آخر

الخطوات التي وضعتها إثيوبيا لتدمير الصومال أولاً، ثم للتحكم في مصيرها حسب

مصلحتها ثانياً من حيث التنفيذ والتطبيق للخطوات الأخرى المذكورة؛ فكانت بداية

هذه الخطوة في ١٥/٣/١٤١٧هـ الموافق ٩/٨/١٩٩٦م حينما اكتسحت القوات

الإثيوبية منطقة جدو بالصومال واحتلت مدن لوق ودولو وحواء في تلك المنطقة؛

فمنذ ذلك التاريخ كانت إثيوبيا تغير مرة بعد أخرى على أجزاء مختلفة من الوطن

الصومالي تعيث في الأرض فساداً وتخريباً، وكانت تغطي أهداف هجومها بحجج

واهية لا تقنع أحداً؛ فمرة تدعي أنها تحارب الأصولية الإسلامية في منطقة

اعتداءاتها مما يدل دلالة قاطعة على أن الغزو الإثيوبي على الصومال ما هو إلا

حرب صليبية مكشوفة، وأنه جزء من تصفية الحسابات القديمة بينها وبين

الصومال منذ القرن الخامس عشر الميلادي.

والسؤال هو: من هي الجهة التي خوَّلت إثيوبيا للتدخل في الشؤون

الصومالية ولتصنيف المسلمين فيها إلى أصوليين ومعتدلين؟ إنه لشيء محزن

وخطير يشير إلى الحالة المخجلة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية في هذا العصر،

ومرة أخرى تنكر إثيوبيا غزوها للصومال مع أنه يقع في وضح النهار ومعلوم

للمتتبعين للشؤون الصومالية، ومرة ثالثة تسنده إلى الجبهات القبلية الصومالية

العميلة لها مع أنه غزو إثيوبي قد استخدمت فيه الأسلحة الثقيلة من الطائرات

والدبابات والمدافع الفتاكة، وليس لدى الجبهات الصومالية في الوقت الحاضر مثل

هذه الأسلحة المتطورة، ومرة رابعة تذكر إثيوبيا بأنها غزت الصومال لتصفية

قواعد الأورومو والاتحاد الإسلامي في منطقة الصومال الغربي التي تحتلها إثيوبيا

تلك القواعد الموجودة في داخل الصومال حسب مزاعم إثيوبيا؛ فقد نقلت جريدة

الخليج الإماراتية في عددها ٧٣٣٢ بتاريخ ٢/٣/١٤٢٠هـ الموافق ١٦/٦/١٩٩٩م

عن صحيفة الريبورتر الإثيوبية ما يلي: «إن معسكر جبهة تحرير أورومو

والاتحاد الإسلامي في بيدوه الواقعة جنوب الصومال تم تدميره تماماً، وإن جميع

قوات المعارضة التابعين للجبهتين المذكورتين البالغ عددهم ٧٥٠ فرداً لقوا حتفهم

في العملية التي تمت بصورة خاطفة؛ حيث إن الاتحاد الإسلامي وجبهة تحرير

أورومو أكملا استعداداتهما بمساعدة الحكومة الإرتيرية لضرب العمق الإثيوبي

وإثارة الفوضى والاضطراب فيه، وإن قوات الإرهاب المدعومة من الحكومة

الإرتيرية تم استئصالهم والقضاء عليهم نهائياً» هذا ما أوردته الصحيفة الإثيوبية

ولم تذكر الجهة التي دمرت تلك القواعد المزعومة؛ إلا أن الصحيفة الإثيوبية وإن

تجاهلت ذكر الجهة التي قامت بالهجوم الخاطف على بيدَوَه تتحدث بشكل لا لبس

فيه عن الغزو الإثيوبي الأخير الذي وقع على مدينة بيدَوَه في ٦/٦/١٩٩٩م تلك

المدينة التي تقع في عمق الصومال، وتبعد عن الحدود الصومالية الإثيوبية حوالي

٢٥٠ كيلو متراً، وذلك دليل قاطع على صدق ما قلناه من أن إثيوبيا تغزو الصومال

لأهداف أعمق بكثير مما تدعيه، وتغطي أهدافها بحجج لا أساس لها من الصحة مما

يجعلنا نتساءل: هل كان في بيدوه قواعد حقيقية لهاتين الجبهتين؟ والجواب لا، لم

تكن في المدينة قواعد لجبهات معارضة لإثيوبيا ولكن الحقيقة هي: أن بيدوه كانت

ميداناً لمعارك جرت بين ميليشيات حسين عيديد التي احتلت المدينة أواخر عام

١٩٩٥م وبين جبهة الرحنوين التي كانت تريد استرداد المدينة من جبهة عيديد

والتي تتلقى الدعم والتسليح والتمويل من إثيوبيا منذ ذلك التاريخ لا حباً في هذه

الجبهة ولا خدمة لها وإنما كانت إثيوبيا تريد من دعمها لهذه الجبهة أن تحقق أهدافها

من خلالها، وأهم تلك الأهداف هي تدمير قوات حسين عيديد الذي تعتبره إثيوبيا

أكبر عقبة تقف أمامها في تحقيق أهدافها في الصومال، فلما شعرت إثيوبيا أن هذه

الجبهة أضعف من أن تحقق أهدافها تلك خاضت الحرب ضد قوات حسين عيديد

كما سبق ذكره عن الصحيفة الإثيوبية.

ومن المعلوم أن جبهة تحرير أورومو كانت تخوض معارك دامية ضد قوات

إثيوبيا التي يسيطر عليها العنصر الحبشي منذ الستينيات من هذا القرن، ولها

قواعد على طول الأراضي الإثيوبية وعرضها، كما أن لها وجوداً فعالاً في

العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا» . وتذكر الأنباء أن التوترات تحدث بين الفينة

والأخرى بين إثيوبيا وكينيا بسبب هذه الجبهة التي تنتقل أثناء هجومها على القوات

الإثيوبية عبر الحدود بين البلدين.

أما الاتحاد الإسلامي في منطقة الصومال الغربي فكان ولا يزال يخوض حرباً

شرسة في المناطق الصومالية المحتلة ضد إثيوبيا منذ ما يقرب من سبع سنوات،

وله قواعد عديدة داخل تلك المنطقة، وإثيوبيا نفسها اعترفت مرات عديدة بأن هذا

الاتحاد قد قام بتنفيذ عمليات عسكرية ناجحة في عمق إثيوبيا بما فيه العاصمة:

أديس أبابا، فليست هاتان الجبهتان إذاً في حاجة إلى قواعد في الصومال الممزقة.

وبالإضافة إلى ما ذكرنا فإن إثيوبيا تحشد قواتها باستمرار وبكثافة أمام المدن

الصومالية القريبة من الحدود بين البلدين مهددة بالغزو والدمار إن لم تخضع

لرغباتها المشبوهة، وقد حدث ذلمك أمام مدن بلدويني وبلامبل وغلدغب

ولاسعانود ويرووي وبورما. وقد أغلقت المدارس العربية والإسلامية في بعض

تلك المدن خوفاً من الغزو الإثيوبي عليها؛ ومعنى ذلك أنه ما من منطقة صومالية

إلا وهي مهددة بالغزو الحبشي بشكل أو بآخر.

يتبين لنا من عرض هذه الخطوات العملية الإثيوبية لاحتلال الصومال أن

خيوط المؤامرة الإثيوبية ومن يقف وراءها على الصومال قد كادت تستكمل حلقاتها،

واستفحلت خطورتها ووصلت إلى مرحلة متقدمة، ويبدو والله أعلم أنه لم يبق لها

إلا التنفيذ النهائي لاستئصال الصومال وقطف ثمار الجريمة من قِبَل إثيوبيا بعد

التخلص نهائياً مما كان يسمى الصومال حسب التخطيط الإثيوبي إن لم تتدارك

الصومال عناية الله ورحمته وحفظه، ثم إن لم تقف الأمة العربية مع الصومال وقفة

جادة ترقى إلى مستوى الأحداث، وإن لم يستيقظ الصوماليون من غفلتهم ومن

تكالبهم على الاقتتال فيما بينهم وانشغالهم بسفاسف الأمور وتصفية بعضهم بالبعض

الآخر، وليس ذلك على الله بعزيز.

الحل لإنقاذ الوطن الصومالي:

وقبل أن نورد ما نرى أنه الحل الأنسب والأسرع للقضية الصومالية نعرض

أمام الجميع الحقائق الآتية:

١ - إن الأماني الطيبة التي يبديها بعضهم لحسم هذه المشكلة لم تكلل بالنجاح

حتى الآن، ولا يمكن أن تأتي بنتائج مرضية، وقد فات أوانها.

٢ - إن تقديم النصائح والكلمات المعسولة إلى العدو الإثيوبي ليتخلى عن

تدخلاته في الشؤون الصومالية وليكف عن الاعتداءات المستمرة على الوطن

الصومالي لا يجدي شيئاً، وإنما يحتاج الأمر إلى اتخاذ خطوات فعالة لصد هذا

العدوان بشكل سريع وحاسم.

٣ - إن عقد ما يسمى بمؤتمرات المصالحة الصومالية وملف القضية في يد

العدو الإثيوبي قد عفى عليه الزمن، وأثبت عدم جدواه فلا بد من أسلوب آخر أكثر

جدية من هذا الأسلوب العقيم الذي استمر ما يقرب من تسع سنوات، فرؤساء

الجبهات القبلية الذين أوصلت زعامتهم البلد إلى هذا الحد من التدهور قد أخفقت

ممارساتهم وجاوزت أنانياتهم كل الحدود وبذلك انتهى دورهم بالاندحار الذريع.

٤ - إن إبقاء القضية الصومالية في أيدي جهات عديدة لها مصالح وأهداف

متضاربة في الصومال قد أضر بالقضية أكثر مما نفعها وزادها تعقيداً وسوءاً،

وأوصلها إلى حافة الهاوية التي تنحدر إليها حالياً.

٥ - إن الأساليب التي اتبعت لحل القضية الصومالية من التدخل العسكري

والمؤتمرات ومقترحات الخبراء كلها أساليب مستوردة من الخارج ولا تمت بصلة

إلى الواقع الصومالي، وقد أثبتت أنها كانت عقيمة لا جدوى منها.

٦ - إن الحروب القبلية في الصومال بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة قد انتهت

منذ زمن بعيد، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنها انتهت منذ عام ١٩٩٣م، والحروب

التي كانت تندلع من وقت لآخر سببها من التدخلات الأجنبية، أو من تشجيع من

أعداء الحل السلمي وتمويلهم، أو من تحالفات سياسية بين بعض الجبهات وبين

بعضها الآخر؛ فمثلاً عندما كان عيديد يحتل محافظتي باي وبكول أواخر عام

١٩٩٥م كان يستخدم ميليشيات من قبائل صومالية شتى من بينها بعض أفخاد

الرحنوين، ومعنى ذلك أن الصوماليين العاديين باستطاعتهم أن يتنقلوا عبر الوطن

الصومالي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب بدون الخوف من القتل لانتمائهم

إلى القبيلة الفلانية أو تلك، والتجارة مزدهرة بين الأقاليم الصومالية المختلفة بدون

عوائق إلا في مناطق التدخلات الحبشية.

٧ - أثبتت التجارب الماضية أن الوطن الصومالي مع ما فيه من قلاقل وعدم

وجود حكومة مركزية لما يقرب من تسع سنوات لم يكن أكثر سوءاً من كثير من

البلاد الإفريقية، والسبب في ذلك يرجع بعد فضل الله تعالى إلى طبيعة الشعب

الصومالي المبنية على التكافل والتراحم، وأنه كان هناك في داخل الوطن وخارجه

صوماليون كثيرون حريصون على إنقاذ وطنهم وشعبهم، وكانوا جنوداً مجهولين

لخدمة بلدهم في ميادين التعليم والصحة وإصلاح ذات البين وتهذيب الأخلاق

ومحاولة إصلاح ما أفسده الآخرون، ولكن مشكلتهم كانت تكمن في فقدان الدعم

اللازم لتأدية واجبهم، بل لم تؤخذ آراؤهم لحل مشكلة وطنهم بينما كان المفسدون

يتمتعون بدعم بلا حدود بشكل مباشر أو غير مباشر.

٨ - كانت هناك في السنوات الماضية تجارب قد أثبتت نجاحها في تهدئة

الأوضاع في أكثر المناطق الصومالية قلاقلَ واضطراباً، وأهم تلك التجارب الحالة

التي كانت عليها منطقة جدو الصومالية قبل الغزو الحبشي لها عام ١٩٩٦م التي

كان يُضرَب بها المثل من ناحية الأمن والاستقرار والتعايش السلمي بين القبائل

المختلفة، واعترف بذلك الصديق والعدو، والتجربة الثانية هي (تجربة المحاكم

الشرعية) التي أنشئت في شمال مقديشو وجلبت للمنطقة أمناً واستقراراً لم تحلم به

قبل إنشاء تلك المحاكم، وقد أظهرت إحصاءات أجريت في شمال مقديشو أن جرائم

القتل التي حدثت في تلك المنطقة خلال سنتين من أيام عمل المحاكم لم تتجاوز

خمسة أشخاص في طول هذه الفترة، بينما كانت جرائم القتل بواقع خمس أشخاص

يومياً خلال عام ١٩٩٨م في تلك المنطقة، وقد أحبط هاتين التجربتين أعداء حل

القضية الصومالية، أما التجربة الثالثة فهي المحاكم الشرعية العاملة حالياً في

جنوب مقديشو والتي جلبت للمنطقة هدوءاً واستقراراً لم تنعم بمثلهما منذ بداية عام

١٩٩١م، ولم يفلح الأعداء حتى الآن بإلغائها [**] ، ومعنى ذلك أن حل القضية

الصومالية ليس ميئوساً منه، بل هو ممكن عند الدخول من الأبواب المناسبة للحل

الصحيح، ونبذ الحلول المغرضة التي تفرض على الشعب الصومالي بدون

استشارة منه.

وأخيراً:

بعد عرض هذه الحقائق نرى أن حل مشكلة الصومال سهل وميسر بإذن الله،

وأن الجو العام في الصومال مهيأ حالياً لحل سلمي بشكل جذري، ولكن مثل هذا

الحل لا يمكن تحقيقه إلا إذا وُجِدَتْ جهة محايدة ليس لها أهداف ولا أطماع خاصة

في الصومال غير التوصل إلى حل مُرْضٍ لمعظم الصوماليين، جهة تتمتع

بإمكانيات كبيرة؛ وذلك من خلال الآتي:

١ - على الأمة العربية حكومات وشعوباً، أن تضع خطة شاملة لإنقاذ

الصومال تشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والدفاعية والاجتماعية، وأن تنفذ

هذه الخطة بمرحلة زمنية كافية بعد توفير كل الامكانيات التي تتطلبها الخطة؛ وذلك

بإجراء انتخابات نزيهة بإشرافها في الصومال لتشكيل حكومة صومالية بعد تمهيد

جيد من استتباب الأمن وبناء المرافق العامة للوطن، وتأهيل أفراد الميليشيات

المسلحة للحياة المستقرة بعد تجريدها من الأسلحة، وإنشاء بوليس قوي للأمن

الداخلي من الشباب ذوي الأخلاق الفاضلة، وأهم من ذلك تأمين الحدود الصومالية

البرية منها والبحرية من الانتهاكات والاعتداءات الحبشية وغيرها؛ وذلك بنشر

قوات عربية على تلك الحدود تطبيقاً للدفاع العربي المشترك مع الصومال؛ وبذلك

بتم إغلاق الملف الصومالي نهائياً من المحافل الدولية ومن دول الجوار التي لها

أطماع خطيرة في الصومال، وينحصر الحل في أيدي الدول العربية فقط. ووضع

مثل هذه الخطة وتنفيذها سهل وميسر للأمة العربية بمشيئة الله لما تتمتع به من ثقة

الشعب الصومالي، وبما لديها من إمكانيات كبيرة ومن خبرات واسعة في جميع

المجالات تفوق كثيراً ما كان لدى دول غرب إفريقيا التي بذلت مجهوداً كبيراً لتهدئة

الأوضاع في ليبيريا ونجحت في مهمتها إلى حد كبير، ولكن لا بد للأمة العربية من

عزيمة صادقة وهمة عالية وتصميم أكيد لحل القضايا العربية التي من أخطرها

قضية الصومال في الوقت الحاضر، والقضية تتطلب التحرر من السلبية والتفرج

على الأحداث بدون الاقتراب من حل جذورها.

٢ - إذا كانت هناك ظروف دولية لا تسمح بالحل العربي المباشر ونرجو ألا

توجد مثل هذه الظروف فمن الممكن أن ينفذ الصوماليون المخلصون هذه الخطة

التي تضعها الأمة العربية لإنقاذ الصومال، وقد يكون مثل هذا التنفيذ سهلاً من قِبَل

الصوماليين إذا توقف تدخل الدول ذات الأطماع في الشؤون الصومالية ووقفت الأمة

العربية وقفة جادة بجانب الصومال، ووفرت لها الإمكانيات المطلوبة لحل القضية،

والمخلصون فيما أحسب على استعداد لتحمل هذه المسؤولية وتأديتها على الوجه

المطلوب مع القيام بعملية تنسيق بين الصوماليين الذين يقومون بتنفيذ الخطة وبين

بقية الجانب العربي الذي يقدم الدعم والمشورة لعملية الحل الجذري لهذه القضية

العويصة.

وأخيراً: نناشد المسؤولين في العالم العربي ملوكاً وأمراء ورؤساء في أن

يؤدوا مسؤوليتهم التاريخية نحو الصومال، وأن يتداركوا القضية قبل فوات الأوان،

كما نناشد الصوماليين بأن ينتبهوا لخطورة أوضاعهم، وأن يهبوا لإنقاذ وطنهم من

التمزق والاحتلال؛ فقد دقت ساعة الخطر؛ وطفَّ الكيل، وبلغ السيل الزُّبَى.

نسأل الله تعالى أن يعيد لهذه الأمة عزها ومجدها وريادتها للعالم، إنه قريب

مجيب.


(*) نائب رئيس المحكمة العليا في الصومال سابقاً، وممثل رابطة العالم الإسلامي في الصومال وفي بنين سابقاً.
(**) جاء في الأخبار مؤخراً أن إحدى الميليشيات الصومالية القبلية قتلت زعيم المحاكم الشرعية العاملة هناك بعد ما وجد هؤلاء أن سلطات المحاكم ستبسط نفوذها وستحرمهم من الأغراض الشخصية والحزبية الممقوتة.
- البيان -