مساحة للحوار
[بين أهل الفكر وأهل الإدارة]
جمال سلطان
هل أصبحت المشكلة مزمنة إلى هذا الحد، الذي يضطرنا إلى بسطها عبر
صفحات منابرنا الإعلامية؛ من جانبي وعلى مسؤوليتي الشخصية أجيب بالإيجاب: نعم؛ إن هناك مشكلة داخل إطار العمل الإسلامي، سواء أكان هذا الإطار
جماعات أو حركات أو أحزاباً أو مؤسسات، وتجاهل هذه المشكلة في تقديري أمر
غير صحي وغير مفيد، وإن كان يخفي ضجيج المشكلة حيناً من الوقت إلا أنه لن
يستطيع أن يخفيها طول الوقت، كما أن هذا التجاهل يراكم من آثار المشكلة ويعزز
من خنادق كل فريق من فرقائها.
وبداية، أود التمهيد المختصر للمشكلة: بتحرير مفرداتها، ووجه الخلاف
بين أطرافها، فالمقصود بأهل الفكر: القطاع الإسلامي المشتغل بقضايا الفكر
الدعوي: مفكرون، ودعاة، وكتاب، وصحفيون، وأكاديميون، وعلماء،
والمقصود بأهل الإدارة: أولئك المتميزون بمهارات التنظيم والإدارة والإشراف
على خطط الأداء الوظيفي في المؤسسات أو الجماعات أو الأحزاب أو نحوها.
ووجه الخلاف يمكن تبسيطه في أن بعض أهل الفكر دائمو الشكوى مما قد
يبدو لهم كجبروت وسوء تقدير يلقونه من أهل الإدارة، ونزعات هيمنة تعوق
انطلاقة الجهد الفكري، وتجتهد لتقنينه وضغطه في قوالب معينة، ويصل الاتهام
أحياناً إلى حد القول بتحقير الجهود الفكرية إلى جانب الجهود الإدارية، والنظر إلى
المفكر أو الداعية كموظف في جهاز إدارة، الأمر الذي يمس كرامة النشاط الفكري
والدعوي وأصحابه، ويطفئ جذوة التأمل والتفكير ووهج النشاط والتجدد في نفس
الداعية والمفكر، ويحبط بالتالي أي معنى للعطاء الفعال الرائد في هذا المجال.
على الجانب الآخر قد ينظر أهل الإدارة بشيء من القلق والضجر أيضاً إلى
أهل الفكر، ويرون أنهم يغالون في شعورهم بالتميز، ويبالغون في حساسيتهم من
الانضباط والتأطير ويزدرون العمل الإداري.
ولاشك أن الجهود الفكرية والجهود الإدارية، هما بمثابة جناحي الطائر طائر
العمل الإسلامي العام الذي إذا أصاب الخلل أحد جناحيه، فقد أصابه في صميمه.
ولاشك أيضاً، في أن كلا الطرفين في حاجة ماسة إلى وجود الطرف الآخر،
بل وإلى تعزيز دوره، ومساعدته بكل سبيل من أجل تحقيق الخير العام للعمل
الإسلامي، فالمفكر بدون القاعدة الإدارية أشبه بالطائرة التي فقدت الاتصال
بمحطتها الأرضية، كما أن الإدارة في مجال العمل الإسلامي بدون المفكر الداعية،
تنتهي إلى آلية منغلقة ورقابة وظيفية مملة، تعجز عن ريادة الواقع، واستشراف
آفاق العمل ومستقبله.
وهذه المشكلة في الحقيقة ليست خاصة بالمجال الإسلامي وحده، بل هي
شائعة في المجتمع الإنساني بوجه عام، وإذا كان الغرب قد استطاع إلى حد كبير
حل هذه المشكلة في إطار منظومته الحضارية فإن الشرق بوجه عام مازال عاجزاً
عن إيجاد الحلول الواقعية والجادة لهذه المشكلة، كما أن هذه المشكلة، بارتباطها
المباشر وغير المباشر بمنظومة القيم والشرائع والمرجعية العليا للمجتمع، هي غير
قابلة لمبدأ استيراد الحلول، فالحل الذي نجح في الغرب وهو حل يطول شرحه ولا
يناسب المقام بسطه لا يصلح بتمامه وكماله في مجال العمل الإسلامي، ويصبح من
المحتم علينا بسط المسألة للحوار الهادف البنّاء الصريح، وبذل الجهود الجادة من
أجل ضبط العلاقة المتوترة بين الجهتين، لوقف نزيف الطاقات الإسلامية، وبناء
منظومة إسلامية تكاملية متضامنة.
وحتى يتم هذا الحوار، أرى أن أهم أسباب الجمود الذي تشهده قطاعات كبيرة
من العمل الإسلامي، إنما يعود إلى إهمال الجانب الفكري، ووضع أصحاب الفكر
والدعوة في الصفوف الخلفية من مسيرة العمل، وضعف الإحساس لدى بعض
العاملين بأهمية هذه الجهود الفكرية والدعوية وقيمتها في تجديد نشاط الدعوة وفتح
آفاق جديدة أمام طاقاتها فضلاً عن الدفاع عن مكتسباتها وصد الغارات الفكرية
والإعلامية والثقافية العديدة التي تنهش في جسد الصحوة ومؤسساتها وتياراتها فضلاً
عن ترشيد الصحوة ذاتها من خلال رصد وتحليل فعلها في الواقع، وتقويمه،
وطرح الأفكار الجديدة التي تحرك النشاط نحو الأفضل والأكثر رشداً وإنجازاً.
إن قيمة الداعية أو المفكر، والنشاط الذي يصدر عنهما، يرتبط ارتباطاً
حميماً بوضعهم في مسيرة العمل كرواد للطريق، يستطلعون ما وراء الأكمة،
وينذرون القافلة، ويحدون الركب، فإذا ما أهملتهم القافلة، أو وضعتهم في مؤخرة
الركب، فلاشك أن الخسارة تكون فادحة، والمسيرة تصبح مغامرة في متاهة،
ووراء ذلك كله يصبح النشاط الفكري والدعوي عديم القيمة، وعديم الفاعلية،
ويتحول وجوده في المسيرة إلى مجرد تحفة فنية تكمل جمال الديكور! .