للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاحتفال بالمولد النبوي]

د. محمد الجيزاني

وصل إلى المجلة هذا التعقيب المهم ـ في شأن بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ـ من فضيلة الدكتور محمد بن حسين الجيزاني أستاذ أصول الفقه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ونحن ننشره في المجلة لأهميته، ولأن صاحبه له اهتمام علمي في موضوع البدع، وله كتاب بعنوان: (قواعد معرفة البدع) .

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

أما بعد: فإن لمجلة البيان جهوداً مشكورة في نشر منهج السلف الصالح، والعناية بقضايا الأمة، وقد أضحت هذه المجلة في عصرنا هذا منهلاً عذباً لأهل العلم وطلابه، ومورداً لا يستغني عنه الباحثون عن سواء الطريق.

أسأل الله ـ جل شأنه ـ أن يبارك في هذه الجهود، وأن يجزي القائمين على هذه المجلة خير الجزاء.

ولعل من باب التعاون على الخير، والنصيحة للأمة التنبيه على بعض ما ظهر لي من مآخذ في موضوع مهم، نشر على صفحات مجلتكم الموقرة، وذلك في العدد (١٩٩) بعنوان: رؤية في الاحتفال بالمولد النبوي للأستاذ الفاضل (الأمين الحاج محمد أحمد) .

ومما تجدر الإشارة إليه أن الباحث الكريم قد أفاد، وأجاد في تقرير بدعية الاحتفال بالمولد النبوي، بطريق علمي متين عندما أورد ـ جزاه الله خيراً ـ فتاوى بعض من أهل العلم المتقدمين، وصدَّر ذلك بذكر تاريخ ظهور هذه البدعة وأول من أحدثها.

وما هذه الملحوظات إلا من باب التكميل لمقالته القيمة، والإضافة عليها، فأقول مستعيناً بالله:

أولاً: ذكر الكاتب أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع، وهي: البدعة اللغوية، والحقيقية، والإضافية.

وأقول: إن هذا التقسيم لا يستقيم بالمعنى الاصطلاحي للبدعة؛ لأنه ذكر تحته البدعة اللغوية.

ثم إن البدعة اللغوية ليست قسيمة للبدعة الحقيقية، والإضافية؛ فلا يصح أن تكون القسمة ثلاثية.

لكن يمكن أن يصوَّب هذا التقسيم بأن يجعل لمطلق البدعة.

ثانياً: لما ذكر الكاتب البدعة الحقيقية قال: فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور والسماع المحدَث الصوفي.

وأقول: إن البدعة الحقيقية ليست خاصة بالعبادات؛ إذ البدعة الحقيقية باعتبار أصلها تختص بالعادات والمحرمات التي يُتقرب بها إلى الله، والبدعة الإضافية هي التي تختص بالعبادات التي يُتقرب بها إلى الله على صفة مخالفة للصفة المشروعة؛ كتخصيص يوم لم يخصه الشارع بالصوم، أو تخصيص ليلة لم يخصها الشارع بالقيام.

ثالثاً: قوله: والذي يعنينا هنا هو البدعة الحقيقية، وهل فيها حَسَن وقبيح؟

أقول: إن تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة لا يختص بالبدعة الحقيقية فقط، ولا بالبدعة الإضافية، ولا بهما، بل إن كلام أهل العلم في تقسيمهم للبدعة إنما هو في البدعة اللغوية.

أما البدعة الشرعية فإنها لا تنقسم، بل هي بدعة كلها وضلالة بأسرها، ومن قسَّم البدعة من أهل العلم فإنما أراد البدعة اللغوية دون الشرعية.

وبهذا النظر يتبين أن تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة أمر سائغ، والتقسيم في ذاته لا يلزم منه استحسان للبدع الشرعية، ولا إثبات لشيء منها، بل إن هذا التقسيم مأثور عن بعض أئمة السلف، كالشافعي في قوله: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة.

وأصل ذلك ما صح عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو قوله: نِعْمَتِ البدعةُ.

إلا أنه لا بد من التنبيه على أمر خطير، وهو أن القول بانقسام البدعة إلى حسنة وسيئة ربما صار ذريعة ـ عند بعضهم ـ إلى تحسين بعض البدع المذمومة شرعاً.

وبهذا يظهر أن الخلاف في انقسام البدعة إلى حسنة، وسيئة قد يكون من قَبِيل الخلاف اللفظي، وقد يكون من الخلاف المعنوي، ولا بد لمعرفة ذلك من النظر في قرائن الكلام، ومراد القائل ومقصده.

وبعد هذا التقرير أقول: ليس من اللائق إطلاق بعض الألفاظ مثل (زعم) في حق طائفة من أهل العلم ممن ذهبوا إلى تقسيم البدعة إلى حسنة، وقبيحة، أو إلى الأحكام التكليفية الخمسة؛ كالعز بن عبد السلام، والنووي، والقرافي، وابن الصلاح. كيف يقال هذا وسلفهم في ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والإمام الشافعي؟

إن الواجب أن يؤلَّف بين كلام الأئمة ما أمكن، بأن يُحمل كلامُ كلٍّ على وجه حسن؛ بحيث تؤوَّل كلماتهم إلى معنى محكم صحيح.

رابعاً: قوله: إن البدعة منها ما هو مكروه.

أقول: الصحيح أن البدعة الشرعية لا تكون إلا محرمة، ولا تكون مكروهة بحال، كيف وقد وصفت بأنها ضلالة وأنها مردودة، وهذه الأوصاف من خاصية المحرَّم.

ومقتضى هذا أنه متى ثبت في صورةٍ ما وصف الابتداع ثبت معه ـ ولا بد ـ حكم الحرمة، ومتى ارتفع عن صورةٍ ما حكم الحرمة ارتفع معه ـ ولا بد ـ وصف الابتداع.

ختاماً: أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


(*) أستاذ أصول الفقه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.