للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكذلك جعلناكم أمة وسطاً

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

من خصائص دين الإسلام التوسط، والاعتدال، والقصد، والتيسير؛ فهو وسط بين طرفين، وعدل بين عِوَجين. والمسلمون وسط بين أهل الملل.

وقد جاء لفظ (الوسَط) في لغة العرب على معانٍ، منها:

أولاً: العدالة:

عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يدعى نوح ـ عليه السلام ـ يوم القيامة، فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم! فيدعى قومُه، فيقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، أو ما أتانا من أحد. قال: فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] ، قال: الوسط: العدل. قال: فيُدعون، فيشهدون له بالبلاغ. قال: ثم أشهد عليكم» (١) .

ثانياً: الخيرية:

قال ابن كثير في تفسير الآية: «إنما حوَّلناكم إلى قبلة إبراهيم ـ عليه السلام ـ واخترناها لكم، لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل. والوسط ها هنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً، وداراً: أي خيرها. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وسطاً في قومه: أي أشرفهم نسباً، ومنه: الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها. ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: ٧٨] » (٢) .

ثالثاً: التوسط:

قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل وسَط الدار ... وأرى أن الله ـ تعالى ـ ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط، لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقِيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به. ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» (١) .

والحق أن هذه الأمة قد جمعت هذه الأوصاف الثلاثة كلها؛ فهي أعدل الأمم شهادةً، وخير أمة أخرجت للناس، وهي متوسطة بين أهل الإفراط وأهل التفريط من الأمم. ومن عجبٍ، أيضاً، أن موقعها الجغرافي، الذي انطلقت منه، وإليه تأرِز، وسَطٌ بين قارات الدنيا، وملتقى طرقها.

وكما أن هذه الأمة الإسلامية وسط بين الأمم، فإن أهل السنة والجماعة، المتمسكين بالإسلام المحض، الخالص عن الشَّوْب، هم الوسَط في فِرَق الأمة.

- التوسط في الاعتقاد:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: «هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في:

١ - باب صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.

٢ - وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية، والقدرية وغيرهم.

٣ - وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم.

٤ - وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.

٥ - وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة، والخوارج) (٢) .

ولنضرب مثلاً للون من الغلو في الاعتقاد، والشطط في التفكير، بهذه القصة المعبرة:

عن أبي سعيد قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم - يَقْسِم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله! فقال: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضربَ عنقه! قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة. يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رِصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر في نَضِيِّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدْي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فُرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي -صلى الله عليه وسلم -. قال فنزلت فيه: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: ٥٨] » (٣) .

وعن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية، وكانوا على حدتهم، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرِدْ عن الصلاة، لعلِّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلاَّ، إن شاء الله. فلبست أحسن ما قدرت عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم، وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلتُ على قوم لم أرَ قوماً أشد اجتهاداً منهم؛ أيديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، ووجوهم معلمة من آثار السجود. فدخلت، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، لا تحدثوه. قال بعضهم: لنحدثنَّه. قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً. قلت: ما هن؟ قالوا: أولهن: أنه حكَّم الرجال في دين الله، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: ٥٧] قلت: وماذا؟ قالوا: قاتلَ، ولم يَسْبِ، ولم يَغْنَمْ! لئن كانوا كفاراً لقد حلت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم. قال: قلت: وماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين. قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم - ما لا تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم! قال: قلت: أما قولكم إنه حكَّم الرجال في دين الله؛ فإنه ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: ٩٥] إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: ٩٥] ، وقال في المرأة وزوجها: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: ٣٥] ، أنشدكم اللهَ! أفحكم الرجال في دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات البين، أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وصلاح ذات بينهم. قال: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! وأما قولكم: إنه قتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، أتسبون أمَّكم، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام؛ إن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: ٦] ، وأنتم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم. أخرجتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - دعا قريشاً، يوم الحديبية، على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: واللهِ لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان أفضل من علي. أخرجتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف، فقُتلوا» (١) .

وفي هذه القصة من العبر والفوائد:

١ - فضل العلماء الربانيين الراسخين، وعظيم أثرهم على الأمة.

٢ - تجنب الغلاة للحوار، والبحث عن الحق: (لا تحدثوه) .

٣ - وجود أفراد مغرر بهم، يبحثون عن الحقيقة: (لنحدثنه) .

٤ - استناد المبتدعة إلى استدلالات نصية وعقلية، يشبِّهون بها.

٥ - فائدة الحوار المؤسس على العلم والحكمة.

٦ - إصرار بعض أهل البدع على باطلهم، بعد تبين الرشد من الغي.

- التوسط في العبادة:

قال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] .

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم -. فلما أُخبروا، كأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم -! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٢) .

أولاً: النصوص الدالة على متانة الدين، والنهي عن مشادته:

أخرج البخاري والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «الدين يُسر، ولن يغالب الدين أحد إلا غلبه. سددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» .

وأخرج الطيالسي وأحمد والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «عليكم هدياً قاصداً؛ فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه» .

وأخرج أحمد عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق» .

وأخرج البزار عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبَتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» .

وأخرج البيهقي عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تُكَرِّهوا عبادة الله إلى عباده؛ فإن المنبَتَّ لا يقطع سفراً ولا يستبقي ظهراً» .

وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الدين متين فأوغل به برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة ربك؛ فإن المنبتَّ لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى. فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبداً، واحذر حذراً تخشى أن تموت غداً» .

وأخرج الطبراني والبيهقي عن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشددوا على أنفسكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم. وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» .

ثانياً: النصوص الدالة على يسر الدين وسماحته:

أخرج أحمد عن الأعرج أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن خير دينكم أيسره. إن خير دينكم أيسره» .

وأخرج ابن سعد وأحمد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن عروة التميمي قال: سأل الناسُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: هل علينا حرج في كذا؟ فقال: «أيها الناس! إن دين الله يسر» ثلاثاً.

وأخرج البزار عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا ولا تنفِّروا» .

وأخرج أحمد عن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام ذلول لا يركب إلا ذلولاً» .

وأخرج البيهقي من طريق معبد الجهني عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «العلم أفضل من العمل، وخير الأعمال أوسطها، ودين الله بين القاسي والغالي، والحسنة بين الشيئين لا ينالها إلا بالله، وشر السير الحقحقة» .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: «سئل النبي -صلى الله عليه وسلم -: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة» .

وأخرج أحمد عن عائشة، قالت: «وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ذقني على منكبيه لأنظر إلى زَفْن الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم. قالت: وقال يومئذ: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة» .

ثالثاً: النصوص الدالة على فضل الأخذ بالرخص:

أخرج البيهقي عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» .

وأخرج البزار والطبراني وابن حبان عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» .

وأخرج أحمد والبزار وابن خزيمة وابن حبان والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما لا يحب أن تؤتى معصيته» .

وأخرج الطبراني عن عبد الله بن يزيد بن أديم قال: حدثني أبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو أمامة وأنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب أن تُقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه» .

وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: «لا تُعِبْ على من صام في السفر، ولا على من أفطر. خذ بأيسرهما عليك» .

فالنفس الإنسانية كالمطية يركبها المسافر؛ فإن شق عليها، وحمَّلها ما لا تطيق حُسرت، وانقطعت، وإن ترفَّق بها، وسايسها، بلَّغته المنزل؛ فقد أخرج أبو عبيد والبيهقي عن تميم الداري قال: «خذ من دينك لنفسك، ومن نفسك لدينك، حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها» .

- التوسط في السلوك:

كما يكون التوسط في الاعتقاد والعبادة، يظهر أيضاً في السلوك، وسائر التصرفات. ومن أمثلة ذلك:

١ - المشية: قال ـ تعالى ـ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: ١٩] ، قال ابن كثير: «أي امش مقتصداً؛ مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بينَ بينَ» .

٢ - الصوت: قال ـ تعالى ـ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: ١٩] .

قال ابن كثير: «أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه. ولهذا قال: {إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أي غاية من رفَع صوته أنه يشبَّه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى» (١) .

ويلتحق بذلك تجنب التقعر، والتشدق، والتفاصح، في الكلام؛ فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله! قد علمنا: الثرثارون، والمتشدقون؛ فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» (٢) .

قال النووي ـ رحمه الله ـ: «الثرثار: هو كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيهِ تفاصحاً، وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به، تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره» (٣) .

٣ - المعاملة: قال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩] .

فمن الناس من يكون فظاً، غليظاً، فيه عسر وجفاء. ومنهم من يكون مبتذلاً، لا كرامة له ولا حشمةَ، سُوَقَةً، ينال منه الكبير والصغير. والذي ينبغي للمؤمن أن يكون هيناً ليناً دون ابتذال، مهيباً كريماً دون فظاظة.

٤ - العشرة والمخالطة: عن أبي جحيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال: ما شأنكِ متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. قال: فلما جاء أبو الدرداء قرَّب إليه طعاماً، فقال: كُلْ، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم! فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: نم! فنام. فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن! فقاما، فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك، فقال له: صدق سلمان» (١) .

عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (٢) .

هذا، وإن من الناس من يكون انعزالياً، انطوائياً، لا يألف، ولا يؤلَف، ومنهم من يكون سخَّاباً بالأسواق، يهدر وقته جيئةً، وذهاباً، يغشى المجالس والمجامع، ولا يجعل لنفسه خلوة، ولا لأهله نصيباً. والوسط أن يخالط بقَدَر، ويخلوَ بقَدَر؛ فلا يستوحش من الناس، ولا يستغرق معهم.

- التوسط في الإنفاق:

قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: ٦٧] .

قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليتهم؛ فيقصرون في حقهم؛ فلا يكفونهم، بل عُدُلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها؛ لا هذا، ولا هذا. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} كما قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: ٢٩] . وقال الإمام أحمد، وساق بسنده، عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً، وساق بسنده، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما عال من اقتصد» لم يخرجوه. وقال الحافظ أبو بكر البزار، وساق بسنده، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر» (٣) .

هذا، وإن من الناس من لا يرعى هذا النظام؛ فيتشبع بما ليس عنده، ويتصنع الغنى، ومجاراة الناس، بتحميل نفسه الديون الثقال، وإشغال ذمته بالأقساط المرهقة، ولا يمد رجليه على قدر فراشه، كما في المثل الحكيم. كما أن من الناس من يحرم نفسه وأهله فضل الله عليه، فيكدس الأموال والأرصدة في المصارف، ويعيش عيشة البؤساء، ويموت ميتة التعساء. والعاقل اللبيب، والحازم الأريب، هو الذي ينفق ما يلائم حاله، ويأكل، ويشرب، ويلبس، ويركب، ما يليق به، دون أن يكون لأحد عليه منَّة، أو يلحقه في معيشته ضيق أو مذلة.

- التوسط في التقويم والحكم على الآخرين:

قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: ١٣٥] .

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: ٨] .

وقال: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: ١٥٢] ، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: ٩٠] ، فدلت هذه النصوص على وجوب تحري العدل، وتوخي الإنصاف في الأمور كلها، ومن ذلك الحكم على الناس، وتقويمهم، وعدم غمط أهل الفضل فضلهم والبعد عن التجني والعدوان، والاندفاع مع العاطفة الهوجاء، حتى مع المخالف.

- التوسط في العواطف والمشاعر:

ومن جوانب التوسط المهمة، أن يكون المرء معتدلاً في مشاعره، وعواطفه، وانفعالاته، فلا يسرف إذا أحب، ولا يسرف إذا أبغض، ولا يفجر إذا خاصم؛ بل يحكم مشاعره بحكم الشريعة، ويضبطها بضابط العقل.

عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «أحبِبْ حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» (٤) .

هذا؛ وإن من الناس من يفنى في محبوبه؛ فربما قاده إلى العشق والانجذاب، ومن يحترق بجحيم بغضه، فيحمله على الحسد والمضارَّة والعدوان، أو يُنضج الغيظ قلبه، فيمنعه فضيلة العفو. فلا بد للمؤمن الوسَط أن يضبط مشاعره فلا تنفلت، ويقيِّد انفعالاته فلا توبقه بسوء عمله. والموفق من استهدى بالله، واستعان به، وسأله السلامة، ولزوم السنة، والقصد في القول والعمل.


(*) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة القصيم.
(١) مسند الإمام أحمد: ٣/٣٢.
(٢) تفسير ابن كثير ١/ ١٩١.
(١) تفسير الطبري، ٢/ ٦.
(٢) الواسطية.
(٣) صحيح البخاري، ٦/٢٥٤٠، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه) وقد استوفاها مسلم في صحيحه، وخرَّج البخاري طائفةً منها.
(١) رواه الطبراني، وأحمد ببعضه. ورجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد: ٦/٢٣٩، ورواه عبد الرزاق، ١٠/١٥٨.
(٢) صحيح البخاري: ٥/١٩٤٩.
(١) تفسير القرآن العظيم، ٣/ ٤٤٧.
(٢) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(٣) رياض الصالحين، ١/ ١٧٥.
(١) جامع الترمذي، رقم (٢٤١٣) ، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
(٢) سنن ابن ماجه، ٢/ ١٣٣٨، قال الحافظ ابن حجر: سنده حسن. فتح الباري: ١٠/٥١٢.
(٣) تفسير ابن كثير، ٣/ ٣٢٦.
(٤) إسناده لا بأس به. الأحاديث المختارة: ٢/٥٥