للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

علماء معاصرون

جمال الدين القاسمي [١]

سليمان عبد الله الياسين

هو أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن

إسماعيل بن أبى بكر المعروف بالقاسمي، إمام الشام في عصره، محدثاً، فقيهاً،

مفسراً، مصلحاً وأديباً.

ولد الشيخ القاسمي في مدينة دمشق، يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى

الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف، نشأ في بيت علم وفضل، فوالده كان

فقيهاً، عالماً، أديباً، أفاد منه الشيء الكثير، فكان هذا عاملاً بالإضافة إلى ذكائه

واستعداده وقدراته على أن ينشأ نشأة علمية صالحة.

أخذ العلوم عن مشايخه على طريقة القدماء، نظراً في الأدلة، وتوثيقاً

للنصوص، ووقوفاً على أقوال السلف الصالح، الذين تعتبر أقوالهم مرجحة لما يقع

من خلاف في عصور المتأخرين، كل ذلك في حياة تقليدية يظهر عليها الجمود،

والجهل والتقليد.

نشأ الشيخ القاسمي في ظروف كانت الطرق الصوفية فيها في أوج انتشارها،

يعتنقها العامة حول بعض المشايخ الذين يشغلونهم عن العمل النافع الذي أمروا به

لإقامة المجتمع الصالح.

من هذا الوسط المختلف المشارب والمآرب دعا الشيخ القاسمي إلى العلم،

ونبذ التعصب والتقليد، وتصفية العقيدة مما علق بها من أفكار وفلسفات واعتقادات

دخيلة، وإرجاع مجد الإسلام، ورفع شأنه، وجعله الحكم على شئون الحياة كلها.

فكانت النتيجة أن اجتمعت عليه الجموع، وهذا حالهم في كل زمان، فهم

يختارون الأوساط التي تعينهم على ترويج ونشر أفكارهم ومعتقداتهم.

إن صفحات التاريخ لتضع أمام كل باحث ومفكر وطالب علم، حقيقة ذات

أهمية كبيرة وهى أن الخاصة من الرجال والعلماء والمفكرين هم وراء التجديد، ولا

أقصد بالتجديد تغيير حقائق هذا الدين العظيم، الذي تكفل الله بحفظه، ولكنه تجديد

العودة إلى الأصول، وتغيير المفاهيم الدخيلة، سواء في العقيدة، أو السلوك، أو

في مجال النظر والاستدلال.

لقد آمن القاسمي رحمه الله بنبذ التعصب والجمود، وفتح باب الاجتهاد لمن

ملك القدرة على ذلك، وكثيراً ما كان يستشهد بأقوال الأئمة الأربعة للتدليل على

أفكاره، فكان يقول: (إن من يطلع على كتب هؤلاء الأربعة رحمهم الله يرفض

التقليد، لأنهم أمروا تلامذتهم بالاجتهاد، وأن لا يجعلوا كلامهم حجة، وينقل كلاماً

للمزني - وهو من أئمة الشافعية- في كتاب الأم للشافعي فإنه يقول: أنقل لكم كلام

الشيخ الشافعي لا لتأخذوا به، فإنه كان نهانا عن التقليد فيقول: يجب الاحتياط

بالدين، والأخذ بالكتاب والسنة [٢] .

وعليه فقد لفقوا له تهمة خطيرة يستحق عليها السجن والتعذيب؟ !

إنها تهمة الاجتهاد، وتأسيس مذهب جديد في الدين سموه (المذهب الجمالي)

وشكلوا لذلك محكمة خاصة مثل أمامها مع لفيف من العلماء، كان ذلك سنة ١٣١٣

هـ وله من العمر ثلاثون عاماً، ثم خلوا سبيله.

يقول في كتابه الاستئناس [ص ٤٤] : (وإن الحق ليس منحصراً في قول،

ولا مذهب، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها) .

وفى كتاب إرشاد الخلق [ص ٤] : يقول: (وإن مراد الإصلاح العلمي

بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد، وإنما المراد إنهاض

رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها) .

ونحن اليوم في عصر قد كثر فيه الخلاف، وذهبت فيه العقول منازل كثيرة،

ما أحوجنا إلى نبذ التعصب، وتحرير العقل من الهوى، والسعي وراء الأدلة

الصحيحة، فندور حيث دارت، ونتمسك بها ولا ننتصر لرأي ذاتي فربما كان خطأ

أو صواباً.

أخذ القاسمي العلوم عن كثير من المشايخ أمثال: الشيخ سليم العطار، قرأ

عليه شرح الشذور، وابن عقيل، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي، وسمع منه

دروساً من صحيح البخاري دراية، والموطأ، ومصابيح السنة.

وقرأ على الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني، ووالده الشيخ محمد

سعيد القاسمي، وكان يحضر دروس الشيخ عبد الرزاق البيطار، مجدد مذهب

السلف في الشام، وقد استفاد منه الشيء الكثير.

وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته، يتوقعون له مستقبلاً مشرفاً

، ويتطلعون إلى ما يتحقق على يديه من نهضة عظيمة لمنطقة أحوج ما تكون إلى

الدعاة الذين يدعون إلى الله وفق أصول أصيلة في العقيدة والمنهج والتصور.

لقد اتصف رحمه الله بصفات العلماء الحميدة، فكان سليم القلب، نزيه النفس

واللسان، ناسكاً، حليماً وفياً لإخوانه، جواداً سخياً على قلة ذات يده، يأنس به

جليسه ولا يمل حديثه، حريصاً على الإفادة من أوقاته ولو كانت قصيرة، فقد جمع

مفكرة جميلة حوت من الفوائد واللطائف الشيء الكثير، (السوافح) وكان يربي

تلاميذه على حب الاعتماد على النفس، وعدم الكسب بالدَّين، والركون إلى الطغاة

والظالمين ومسايرتهم على ضلالهم، رغبة في عَرَضٍ من أعراض الدنيا،

ويستشهد على ذلك بابن تيمية، فإنه عَرَضَ عليه الحاكم منصب قاضي عسكر

براتب مغرٍ فأعرض عنها مخافة أن يكون عبداً وأسيراً لها.

وعن آثاره العلمية يقول ولده الأستاذ ظافر القاسمي في مقدمة كتاب قواعد

التحديث عند الترجمة لأبيه: (أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المئة، وأقدم ما عثرت

عليه من مؤلفاته مجموعة سماها (السفينة) يرجع تاريخها إلى عام (١٢٩٩هـ) ضم

فيها طرائف من مطالعاته في الأدب، والأخلاق، والتاريخ، والشعر، وغير ذلك

، وله من العمر ستة عشر عاماً، ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من

بعده كيف اتسع وقته- ولم يعش إلا تسعة وأربعين عاماً -لهذا الإنتاج الضخم،

فضلاً عن تحمل مسئولية الرأي، وترجيح الأقوال ومناقشتها، والرجوع إلى

المصادر، وفضلاً عن أعبائه العائلية، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد، وفضلاً عن

إمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع، ودروسه العامة والخاصة، وتفقده

للرحم، ورحلاته، وزياراته لأصدقائه، وغير ذلك من المشاغل [٣] .

ومن مؤلفاته رحمه الله: محاسن التأويل: وهو تفسير للقرآن الكريم امتاز

بأنه ينقل من كل تفسير خير ما فيه على منهج السلف، وهو مطبوع (١٧) جزءاً.

(دلائل التوحيد، إصلاح المساجد من البدع والعوائد، قواعد التحديث من

فنون مصطلح الحديث، شذرة من السيرة النبوية، رسالة الاستئناس لتصحيح

أنكحة الناس، كتاب المسح على الجوربين، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام،

حياة البخاري، شمس الجمال على منتخب كنز العمال، ميزان الجرح والتعديل،

موعظة المؤمنين في إحياء علوم الدين) وغيرها من الكتب والرسائل والمقالات.

وكان للقاسمي رحمه الله ميول شعرية فمن نظمه ما كتبه في دلائل التوحيد:

أدلة في وجود الحق قاهرة ... راحت لها شبه الإلحاد منكسرة

الحق يعلو ولا يعلى عليه فمن ... ناواه كانت جنود الله منتصرة

ونظم يرد على بعض الجاحدين الذين اتهموه ووشوا به إلى الوالي:

زعم الناس بأن مذهبي يدعى الجمالي ... وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي

لا وعمر الحق إني سلفي الانتحال ... مذهبي ما في كتاب الله ربى المتعالي

ثم ما صح من الأخ بار لا قيل وقال ... أقتضي الحق ولا أرضى بآراء الرجال

وهناك جوانب مشرقة، كان يتصف بها الشيخ القاسمي رحمه الله، حري

بالدعاة وبالمصلحين وبطلاب العلم أن يتحلوا بها: إنها عفة اللسان والقلم، وسعة

الصدر، ورحابته، وبشاشة الوجه وطلاقته، فقد كتب ولده الأستاذ ظافر القاسمي

عن هذا الجانب فيقول: (عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم، لم يتعرض بالأذى لأحدٍ من خصومه، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة، أو في مجالسه وندواته، وكانت له طريقته في مناقشة خصومه، لم يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبره، وكثيراً ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيداً، ولا مستوضحاً، ولا مناقشاً، بل محرجاً، فكان يستقبلهم بصدره الواسع، وعلمه العميق، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجاباً وتقديراً [٤] .

وكانت وفاته مساء السبت ٢٣ جمادى الأولى سنة ١٣٣٢ هـ ودفن في مقبرة

الباب الصغير بدمشق. لقد كان رحمه الله عالماً قدوة له أثر طيب في نفوس

معاصريه وطلابه، وترك آثاراً علمية نحن أحوج ما نكون إليها في هذا العصر

الذي قل فيه العلم والعلماء مع تعطش الأجيال الإسلامية وحاجتها إلى الموجهين

والعلماء الربانيين. [أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ] ، وآخر دعوانا أن

الحمد لله رب العالمين.


(١) انظر ترجمته في: تاريخ علماء دمشق، الأعلام للزركلي، مقدمة قواعد التحديث، ترجمة لحياة القاسمي لولده الأستاذ ظافر القاسمي، شيخ الشام جمال الدين القاسمي، محمود مهدي الاستانبولي، مقدمة محاسن التأويل.
(٢) شيخ الشام جمال الدين القاسمي، الأستانبولي/٤٤.
(٣) مقدمة قواعد التحديث / ٣١.
(٤) قواعد التحديث / ٣١.