للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المنتدى

[التفكير العلمي]

عبد العزيز اليحيى

التفكير: إعمال العقل لحل قضية أو لاقتراحات أخرى يتلمس منها ما بمكامنها

من خفايا أو خبايا سلباً أو إيجاباً، وما تخلف هذه القضية بعد ذلك ليخرج بعدها

بحلول أو اقتراحات لتلك القضية تنتج له عصارة فكر متميز ليحولها إلى واقع

وتطبيق عملي تسعد به الأمة ليَحْيَا لها مجدها التليد الذي ضاع على أيدي أناس

يفكرون بطريقتهم؛ فلنفكر نحن لنعيد الذي أخذ منا بتفكير.

قال ابن القيم - رحمه الله -: إن مبدأ كل علم نظري أو عمل اختياري هي

الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات،

والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. ا. هـ.

والله - عز وجل - وهب الإنسان فكراً ونظراً وعقلاً ميزه عن كثير من

مخلوقاته، يستطيع من خلاله إنشاء أعمال عظيمة كانت بدايتها فكرة أو لربما

خاطرة.

قال البخاري - رحمه الله -: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال رجل من

أصحابنا: ألا تعملون كتاباً يجمع الأحاديث الصحاح؟ - ولم يكن قبل ذلك كتاب

يجمع الصحاح فقط - فكانت فكرة لي حتى كتبت الصحيح. أ. هـ.

تأمل أخي الكريم! كيف أن البخاري ألف كتاباً سارت به الركبان وشرقت

وغربت، كانت بدايته بداية بسيطة كبداية أي عمل، إنها فكرة، وكم قدم البخاري

بعد هذا باستغلال الفكرة! ولذا فلا بد من استغلال الأفكار الإبداعية كما استغلها

البخاري - رحمه الله -. إن أكثر الناجحين من العلماء أو المفكرين أو الأثرياء

والمبدعين إنما تميزوا باستغلال الأفكار الإبداعية.

وقرر علماء النفس والإدارة أنه لا بد من أن يجعل الإنسان لنفسه وقتاً خاصاً

للتفكير ولو كانت دقائق معدودة أو ثواني محدودة.

ومن الملاحظ أن الإنسان كثيراً ما يستخدم حواسه ويستخدم جوارحه؛ ولكن

غالباً ما يكون معطلاً للعقل إلا في التفكير الساذج. إما في عيش البهمية [أولئك

كالأنعام بل هم أضل] {الأعراف: ١٧٩} أو حياة الذل والهمجية، ولو رجعتُ بك

قليلاً لتقليب صفحات الذكريات وشريط الحياة لأقول لك: يا تُرى! كم قدمت لأمتك

ولدينك من خلال تفكيرك؟ لذهلت ولرأيت أمراً عجباً؛ فتأمل هنا لترى حقاً ذلك

الوضع البئيس الذي نعيشه ويعيشه معظم المسلمين اليوم، ومع كل هذا التعطيل

لملكة التفكير ففي المقابل يستطيع البشر أن يقيدوا الأيدي والأرجل بالسلاسل

والأغلال وأن يكمموا الأفواه ولكن لا يستطيعون أبداً أن يعطلوا عقلك عن التفكير

إلا بإذهاب عقلك.

أخي الحبيب! أضرب لك مثالاً مشاهداً ملموساً يعقله كل ذي عقل وبصيرة أو

من ألقى السمع وهو شهيد: شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرجل الذي استحق لقب

شيخ الإسلام، سجنه أعداؤه في سجن القلعة في دمشق لما رأوه ينكر المنكر ويعرِّف

بالمعروف، وعُذِّب وأوذي في الله وابتلي ليخرج مؤمناً حقاً شيخاً جليلاً.

أخي الحبيب! قد تتساءل: لماذا كل هذا التعذيب والاضطهاد لشيخ الإسلام؟

فأقول لك: إنه إن كان معطلاً عن العمل في كل شيء فهو لم يعطل عن التفكير،

إنه يفكر. إن كل هذا التعذيب والاضطهاد والخوف من ذلك الشيخ - مع كل ما به

- كان لأنه يفكر.

يقول - رحمه الله -: (أنا جنتي وبستاني في صدري) ، نعم إن الجنة

والبستان للمؤمن ليس في اليد ولا في الرجل، وإنما في القلب.

إن شيخ الإسلام مع أنه سجين إلا أنه يفكر، أما أنت - يا طيب الجسم - مع

أن الله أعطاك قدرات ومواهب وطاقات إلا أنك مع ذلك لست تفكر إلا في سفاسف

الأمور وسفسافها!

إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تفكير وإلى أناس يفكرون، وإن ما وصل إليه

الأعداء من أعمال وابتكارات ما هي إلا المرحلة الثانية بعد التفكير؛ فتجدهم

يفكرون طويلاً ليخرجوا لنا بابتكارات وأعمال تخدم دنياهم.

وهم على ضلال يفكرون. أما نحن مع أننا على الحق إلا أن كثيراً منا لا

يفكر.

أضرب لك مثالاً: في المؤتمر الذي عقد عام ١٨٩٧م وضع اليهود مخططات

لقيام دولة (إسرائيل) بعد ٥٠ سنة، وفعلاً تحققت لهم بعد ذلك.

أتعلم من الذي يفكر؟ إنهم اليهود الجبناء الذين [لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى

محصنة أو من وراء جدر] {الحشر: ١٤} ومع كل هذا الجبن والخور المتأصل فيهم

إلا أنهم يفكرون ... ؟ ! ولو أن شباب الإسلام في مدينة واحدة بدؤوا يفكرون بعد

تأمل وتألم في واقعنا وفي مستقبلنا فكم سيكون لدينا من المشاريع الخيرة الناجحة؟

مع أنهم في مدينة واحدة فكيف لو أن كل مسلم فكر؟ حينئذ: نعيد ماضينا ومجدنا

السليب بالتفكير ثم بعد ذلك بالعمل.

وبعد؛ فإن التفكير لا بد أن يخلف آثاراً نفسية على الإنسان ترغمه أن يحول

تلك الأفكار إلى واقع وحال، إلا من سلب روح العمل. والفكرة بلا تطبيق كالزهرة

بلا رحيق.

فبعد أن تتوصل إلى منتهى مراميك وغاية مقاصدك في التفكير.. فهناك:

تحول تلك الأفكار إلى واقع مشاهد ليخرُج لنا جيل يفكر ويعرف كيف يفكر،

ولنقول للغرب بلسان حالنا: نحن - المسلمين - الذين حرروا العقول بالأمس من

تخبط الجاهلية العمياء، ونحن - المسلمين - الذين يحررون العقول اليوم - إن

شاء الله - من تخبط الجاهلية المعاصرة.

نسأل ذلك من العلي القدير، وليس ذلك على الله بعزيز.