[هل تنجح المقاومة العراقية في رسم مستقبل العراق؟]
د. أكرم عبد الرزاق المشهداني
حذَّرَ تقرير سرّي أعدّته وكالة الاستخبارات الأمريكية لتقديمه للرئيس بوش ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في ١٦/٩/٢٠٠٤م من حصول «حرب أهلية» في العراق.
ووضع التقرير ثلاثة سيناريوهات يمكن أن ينتهي إليها الوضع العراقي: أسوؤها حرب أهلية وإقتتال داخلي، وأفضلها «استقرار سياسي وأمني هش» ويبدو أن وعود الإدارة الأمريكية ببناء عراق ديمقراطي يكون بمثابة «نموذج مشع في منطقة الشرق الأوسط» قد تلاشت.
فقد غزت أمريكا العراق وهي مصدقة وعود أصدقائها وحلفائها في ما يسمى بالمعارضة العراقية، من أن العراقيين المستبشرين بسقوط نظام صدام سوف يستقبلون القوات الامريكية المُحَرِّرة بالورود والرياحين مثلما استقبلتها الجماهير في دول أوروبا الشرقية بعد الأنهيار الفظيع للمعسكر الشيوعي أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وبعد عام ونصف من احتلال العراق يبدو أن مشروع العراق الديمقراطي الذي يشع على الشرق الاوسط عامة ويؤذن ببداية ازدهار ورفاه اقتصادي للجميع، بدأ يبتعد مثل سراب الصحراء. وبحسب تحليل نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في ١٥/٩/٢٠٠٤م، فالمشروع الامريكي الذي ولد في اذهان المحافظين الجدد الراغبين بحماية دولة العدو يبدو أكثر قتامة مما كان عليه قبل ١٨ شهراً، عندما غزت امريكا وبريطانيا العراق. فأعداد الجنود الأمريكيين القتلى تجاوز الألف، وللمرة الثانية هذا العام تفقد القوات الأمريكية سيطرتها على عدد من معاقل المقاومة التي ما زالت لا تعرف عنها شيئاً باستثناء بعض المعلومات المتضاربة. وأن المناطق التي تعتبر خارج السيطرة الأمريكية والبريطانية تتزايد كل يوم مما يعني أن عقد الانتخابات في موعدها سيكون في حكم المحال؛ فمدينة الفلوجة لم تكن الوحيدة في خروجها عن سيطرة الأمريكيين؛ فهناك معظم محافظة الأنبار، وصلاح الدين، ومعظم الأحياء داخل العاصمة بغداد، مثل مدينة الصدر والكرخ وشارع حيفا والأعظمية واللطيفية، وكذا النجف وكربلاء وتلعفر بالموصل، حتى بات موضوع الحديث عن انتخابات قريبة في العراق كلاماً سخيفاً إلى درجة أن معلق (الغارديان) قال متهكما: «إن الانتخابات قد تجري في المنطقة الخضراء التي يعمل فيها السفير الامريكي وفريقه والحكومة المؤقتة» .
وتنقل صحيفة (وول ستريت جورنال) يوم ١٤/٩/٢٠٠٤م عن أحد مستشاري الدفاع الأمريكية قوله: إن المقاومة العراقية لم تعد تعمل في جيوب معزولة، بل أصبح لديها القدرة على التنسيق والاتصال مع مناطق أخرى. وخشي أن تفقد حكومة إياد علاوي سيطرتها حتى على بغداد نفسها؛ حيث اندلعت في وضح النهار معارك شرسة بين مسلحين والقوات الامريكية في شارع حيفا في قلب بغداد وعلى بعد كيلو متر واحد عن مقر غروبونتي. وبحسب مراسل صحفي فإن شارع حيفا صار في يد المقاومة. وتشير الصحيفة إلى أن عملية احتواء مناطق الثوار تظل مهمة صعبة للأمريكيين والحكومة العراقية التي تعتمد اعتماداً كلياً عليها. والوضع ليس مقصوراً على العاصمة، بل على مدن عراقية أخرى؛ حيث لم يعد بمقدور الأمريكيين وحلفائهم العراقيين دخولها أو المجازفة بذلك؛ فعندما دخل الامريكيون مدينة سامراء ما لبثوا أن أُخرجوا منها على يد المقاومة التي أعادت تحريرها.
ومع فقدان السيطرة على المناطق بدأت تزدهر صناعة الاختطاف، وهو تكتيك جديد للمقاومة؛ حيث تزايدت عمليات خطف الرهائن والمطالبة برحيل القوات الأجنبية والشركات الداعمة لها، رغم حالة من الارتباك سادت العمليات، إلا أن النتائج كانت في صالح مطالب المقاومة؛ فمنذ نيسان (إبريل) الماضي بلغ عدد المخطوفين من الأجانب ٣٧ من مختلف الجنسيات حتى كتابة هذه المقالة، كما ازداد معدل هجمات المقاومة من ٢٥ يومياً في تموز (يوليو) ٢٠٠٣م إلى ٨٧ يومياً في سبتمبر ٢٠٠٤م بعد أن كان القادة الأمريكيون في بداية العام الحالي، يقللون من أهمية المقاومة وحجمها؛ حيث قالوا حينها إنها لا تزيد عن ٥ آلاف عنصر، أما الآن فهم يتحدثون أن عددها ربما تراوح ما بين ١٥ ـ ٢٠ ألف عنصر أغلبهم من العناصر المتدربة جيداً.
ويطرح محللون معضلة أمريكا في العراق التي كانت تريد منه أخباراً طيبة للرئيس الأمريكي عشية الانتخابات؛ فبقاء الأمريكيين يعني استمرار المقاومة وخروجهم يضع مستقبل العراق في الظرف الآني على الأقل في خطر. يقول غاريث ستانفيلد مؤلف كتاب (مستقبل العراق: ديمقراطية، ديكتاتورية أم تجزئة؟) : (إن الحل الوحيد لبقاء العراق موحداً هو بقاء قوات التحالف الأمريكي ـ البريطاني) ، ويرى ستانفيلد أن مستقبل العراق يثير التشاؤم. وسخر من ادعاء إجراء الانتخابات في كانون الثاني (يناير) القادم؛ حيث قال: (إن أي فكرة عن ديمقراطية قريبة في العراق مثيرة للسخرية) . ويرى الباحث أن السيناريو المحتمل في العراق هو بقاء الأمريكيين والبريطانيين لدعم نظام ديكتاتوري وليس ديمقراطياً هناك. ويقول إن بقاء القوات يعني حماية للحكومة المؤقتة، وفي حالة انسحاب الأمريكيين والبريطانيين فإن هذا يعني انتصاراً للمقاومة، وسيفتح الباب لفصل دموي وصراع على السلطة. وأن العراق قد يتحول لأفغانستان جديدة.
- تهاوي ذرائع أمريكا من احتلال العراق:
تصريح كوفي عنان يوم ١٤/٩/٢٠٠٤م عن (عدم شرعية الحرب على العراق) وإن كان متأخراً فإنه كشف جانباً مهماً من دحض افتراءات أمريكا من شن الحرب. إن الكلام عن مستقبل العراق يقودنا لبحث دوافع احتلال أمريكا له. إن ما حصل في العراق لم يكن غريباً أو مفاجئاً للمتابعين للاستراتيجيات الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة؛ لأن عدداً من المفكرين والسياسيين الأمريكيين كتبوا عن هذا، وموضوع فكرة احتلال العراق كان سابقاً على موضوع أسلحة الدمار الشامل، وسابقاً على حرب ١٩٩١م، بل سابقاً حتى على غزو الكويت في آب (أغسطس) ١٩٩٠م؛ فالجنرال شوارزكوف ـ وهو الرجل الذي قاد القوات الأمريكية والمتحالفة فيما سمي عاصفة الصحراء عام ١٩٩١م كتب في مذكراته التي نشرت بعد الحرب في كتاب بعنوان: (لا يحتاج الأمر إلى بطل) : أنه بعد أن عين قائداً للقيادة المركزية الأمريكية، طُلِبَ منه أن يزور الشرق الأوسط ليُقَيِّم الأخطار التي تواجه أمريكا فيه. ونتيجة لهذه الجولة وفي أواخر عام ١٩٨٩م رفع تقريراً بنتائجها قال فيه: إن الخطر الأول والرئيس على المصالح الأمريكية يتمثل في العراق. ونتيجة لهذا التقييم وتهيئة للرأي العام الغربي لهذا التحول ضد العراق؛ فقد بدأت منذ أول عام ١٩٩٠م حملة إعلامية مكثفة ضد العراق، كان منها موضوعا المدفع العملاق وإعدام (بازوفت) الصحفي البريطاني بتهمة التجسس على العراق، وتم تجميد بعض التسهيلات الائتمانية (القروض) التي كان بنك التصدير والاستيراد الأمريكي قد منحها للعراق. كما أن القيادة المركزية حولت أساس خطط تدريباتها السنوية ابتداء من عام ١٩٩٠م من الاتحاد السوفييتي إلى العراق، علما أن تنفيذ هذا التدريب السنوي بدأ منذ تموز (يوليو) ١٩٩٠م، أي قبل الغزو العراقي للكويت.
كما بدأت أمريكا بالحديث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلاقة العراق بالقاعدة، وذهبت لاحتلال العراق مع من يرغب بدون قرار من مجلس الأمن ومخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز الدفاع عن النفس في حالتين: في حال التعرض لاعتداء خارجي، والولايات المتحدة لم تتعرض لاعتداء من العراق، أو في حال وجود خطر وشيك على الولايات المتحدة من دولة معينة، وقد ثبت أن العراق لم يكن عنده أسلحة دمار شامل ولا يمثل خطراً وشيكاً.
أما الهدف المعلن الآخر وهو هدف الديمقراطية؛ فالمعلوم أن أمريكا كانت وما زالت تتعاون مع نظم حكم لها السمات نفسها الموجودة لدى النظام العراقي. ثم هل تريد أمريكا الديمقراطية فعلاً في البلدان العربية؟ الجواب بالتأكيد بالنفي؛ لأن أمريكا وقفت بشدة ضد نتائج الديمقراطية في تركيا والجزائر وماليزيا؛ لأنها تعرف يقيناً أن الديمقراطية الحقيقية سوف تأتي بقوى لا تسمح لبلدانها بالمزيد من الأستخذاء والطاعة لأمريكا. إن موضوع نشر الديمقراطية في العراق كذبة كبرى، وممارسات قوات الاحتلال الأمريكية في العراق تُكذبها، وهي خير شاهد على ذلك.
- المقاومة العراقية ترسم مستقبل العراق:
بدأت ظاهرة المقاومة بعد احتلال بغداد يوم ٩/٤/٢٠٠٣م بأيام قليلة، وما شهدته من استمرارية وتوسع أفقي ونوعي، قد أذهل الجميع داخل العراق وخارجه. ولقد حاولت دعايات الاحتلال وأتباعه في الداخل والخارج، أن تركز وتكثف الظن بأن المقاومة لا تعدو أن تكون محصورة ضمن ما أطلقت عليه تسمية (المثلث السُنّي) ومن عمل الفئات اليائسة حتى الموت (الانتحارية أو الاستشهادية) ، ومن بقايا النظام البعثي، وأخيراً من عمل أجانب يعملون ضد مصلحة العراق والعراقيين.
(*) باحث عراقي.