الإسلام لعصرنا
[هل نداوي بالتي كانت هي الداء؟]
أ. د. جعفر شيخ إدريس
[email protected]
في خطابه الأخير عن مشروع العلاقات الجديدة بين الولايات المتحدة والعالم
العربي ذكر وزير الخارجية الأمريكي حقائق عن وضع العالم العربي الاقتصادي
والتقني كان كثير من المثقفين العرب يعرفونها، ويندى جبينهم لها حين يسمعونها.
فنقول: إذن إن معظم ما ذكره وزير الخارجية في هذا الجانب هو حقائق
نحن معترفون بها، ولا مجال لإنكارها.
ونقول ثانياً: إنه مهما كانت لهذا التخلف المزري من أسباب خارجية فإننا
نحن المسؤولون أولاً عن أسبابه الداخلية.
لكننا نقول ثالثاً: إن علاجها ليس في ما اقترحه علينا باول، بل إن في ما
اقترحه ما يزيد طينتنا بلَّة، بل هو نذير شؤم يذكِّرنا بالمنطق الذي استعملته
الحضارة الغربية لاستعمار بلدان العالم. لقد كانوا يسوِّغون غزوهم واحتلالهم
وتسخيرهم للشعوب بأنه إنقاذ لها من وهدة التخلف وسوقهم قسراً إلى يفاع التحضر.
أليس هذا هو الذي تعنيه كلمة الاستعمار في أصلها اللغوي؟
لقد ظل الغربيون كُتَّاباً وساسة يدندنون حول فكرة سخيفة باطلة هي أنه لن
تتقدم أمة تقدمهم المادي إلا إذا سلكت طريقهم الراهن حذو القُذة بالقُذة. أي إلا إذا
صار نظامها السياسي مثل نظامهم، وموقفها من دينها مثل موقفهم من دينهم
يحرفونه كما شاؤوا، ويخضعونه لأهواء عصرهم، ويفصلون بينه وبين دولتهم،
وإلا إذا صارت حياتهم الجنسية مثل حياتهم اختلاطاً بغير ضابط بين الرجال
والنساء، وإباحة لكل علاقة جنسية بين كل بالغين متراضيين رجلين كانا أو
امرأتين أو رجل وامرأة، بل إلا إذا كانوا مع ذلك موالين للغرب خاضعين له
خادمين لمصالحه.
ونحن نعلم من كتاب ربنا ومن تجارب عصرنا والعصور التي سبقتنا أن كل
هذه أباطيل لا علاقة لها بالتقدم المادي.
الديمقراطية مهما كان فيها من حسنات ليست بشرط ضروري للتقدم
الاقتصادي والعلمي والتقني. فهذا الاتحاد السوفييتي كان قد تقدم مثل هذا التقدم،
بل كان سابقاً للغرب الديمقراطي في بعض المجالات رغم شنيع دكتاتوريته، وها
هي الصين، وها هي كوريا الشمالية تتقدمان في هذه المجالات تقدماً يزعج الغرب
أيما إزعاج.
وحياة الإباحية التي نُدعَى إليها الآن ليست من أسباب تقدم الأمم بل من أسباب
هلاكها. لقد كانت الحضارة الإسلامية حضارة العصر حتى بداية القرن السادس
عشر الميلادي، وكانت سابقة في كل مجال من مجالات العلم والتقنية كما يعترف
بذلك الغربيون ولم تكن تبيح ما نُدعى الآن إلى إباحته. والحضارة الغربية نفسها لم
تكن في بداية تقدمها المادي والعلمي تبيح ما تبيحه الآن؛ فلم تكن هذه الإباحية من
أسباب تقدمها، بل هي من علامات تدهورها كما يعترف بذلك كثير من عقلائها.
وفصل الدين عن الدولة ليس شرطاً في هذا التقدم كما يشهد بذلك تاريخ الحضارة
الإسلامية التي كان الدين جوهرها وكان السبب الأساس لقوتها.
نعم! إن الدين يكون عائقاً حين يكون ديناً يحول دون الأخذ بالأسباب
الموضوعية للتقدم المادي. وكما يكون الدين عائقاً يمكن أن يكون غيره من الأفكار
والمعتقدات عائقاً أيضاً.
ولكن إذا لم يكن الدين الحق عائقاً فهو أيضاً ليس شرطاً ضرورياً للتقدم
المادي! ولو كان الأمر كذلك لما تقدمت مثل هذا التقدم دولة كافرة. لكننا نشاهد في
واقعنا، ونعرف من تاريخ عالمنا، ونقرأ في كتاب ربنا ما يدلنا على غير ذلك.
[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ] (الفجر: ٦-
١٠) .
بل إن العدل ليس شرطاً في مثل هذا التقدم؛ فالحضارة الفرعونية ازدهرت
بتسخيرها لبني إسرائيل حتى أنقذهم منها نبي الله موسى - عليه السلام -.
[فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيل] (طه: ٤٧) .
والدول الأوربية استعانت على تقدمها المادي باستعمار الشعوب واستغلال
خيراتها، والولايات المتحدة استعانت على ذلك باصطياد البشر من أفريقيا
واستعبادهم وتسخيرهم.
وما يقال عن الديمقراطية يقال عن حرية التعبير، وإنصاف المرأة. إن كل
هذه وغيرها أمور حسنة في نفسها ومساعدة على الحياة الطيبة لكنها ليست شرطاً
في الازدهار المادي كما يشهد بذلك تاريخ الدول الغربية نفسها. لقد بدأت ثورتها
الصناعية ولم تكن تعطي المرأة ما تعدُّه الآن من حقوق لها لازمة للتقدم وللحداثة؛
فلم يكن لها حتى حق الانتخاب.
إن للتقدم المادي - كما لكل أمر حسي - أسباباً من أخذ بها آتته أُكُلَها براً كان
أو فاجراً، عادلاً كان أم ظالماً. فمن أكل الطعام المناسب شبع حتى لو كان طعامه
مسروقاً، ومن جامع امرأة قد ينجب حتى لو كان جماعاً سفاحاً، ومن زرع فقد
يحصد حتى لو كان في أرض مغصوبة. إن الله تعالى لم يجعل الاستقامة شرطاً في
التمتع بخيرات الدنيا: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (البقرة: ١٢٦) . أراد إبراهيم - عليه السلام - أن
يحصر الرزق بثمرات البلد الحرام في المؤمنين؛ لكن الله تعالى أخبره أنه ينعم بها
حتى على الكافرين؛ ثم يذيقهم العذاب الأليم. ويؤكد هذا قوله تعالى: [قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: ٣٢) .
فالطيبات من الرزق هي للمؤمن والكافر في هذه الحياة الدنيا، ولا تكون خالصة
ممحضة للمؤمنين إلا في الدار الآخرة.
قلت: إن للتقدم المادي أسباباً، وأقول: إن من أول ما يذكر من هذه الأسباب
الاستقرار السياسي؛ فإذا لم تكن الأمة مجتمعة، ولم تكن مستقرة فأنى لها أن تنجح
في إقامة مشروعات تعليمية واقتصادية طويلة المدى؟ والعالم العربي لم يذق طعم
الاستقرار السياسي إلا في فترات متباعدة هنا وهناك. وكان من أهم أسباب ذلك أن
كثيراً من أبناء الطبقة المثقفة المؤهلة للحكم فيه كانت طبقة قد ابتعدت عن دينها
وتقمصت قيم الحضارة الغربية، وظنت كما ظن أصحاب تلك الحضارة أن التقدم لا
يكون إلا بتقليد الغرب، فراحوا يقلدونه بل ويفرضون على الأمة تقليده في فكره
العلماني، وفي عاداته وتقاليده الاجتماعية، وجعلوا هذا وما يزالون يجعلونه
رسالتهم الكبرى التي يصالحون عليها ويعادون. وكان ممن عادوا إخوانهم
المستمسكين بدينهم الذين يرون على العكس منهم أن نهضتنا لا تكون إلا على أساس
من ديننا. بهذا انقسم المجتمع وفقد الاستقرار السياسي اللازم للتطور المادي.
فالعلمانيون كانوا إذن هم سبب تمزق العالم العربي، ومن ثم سبب تخلفه المادي.
وكان الغرب وراءهم وعوناً لهم بدعايته وماله وقوته في كل ما يدعون إليه. واليوم
تريد أمريكا أن تعاد المعركة بين الفريقين، وبشكل أشرس؛ إذ المطلوب من
العلمانيين هذه المرة ليس فصل الإسلام عن الدولة فحسب، بل إعادة تفسيره بحيث
يكون متناسباً مع الفكر الغربي، والمصالح الغربية. أليس هذا علاجاً بالتي كانت
هي الداء؟
وإذا كان الاستقرار السياسي شرطاً ضرورياً لنيل القوة المادية فإنه ليس
بالشرط الكافي، بل لا بد أن تتحقق معه شروط أخرى. لا بد للأمة التي تريد أن
تخطو في طريق هذا التقدم المادي أن تعرف معالم هذا الطريق فلا تؤفك عنه
بمظاهر كاذبة لا علاقة لها به. وقد كان من أسباب تقدم الاتحاد السوفييتي إدراكه
لهذه الحقيقة. عرف في ضوء معتقداته ماذا يأخذ من الغرب الرأسمالي وماذا يدع.
كان يركز على ترجمة العلوم، وعلى تبادل التقنيات، وكان يبتعد كل البعد عن
آداب الغرب الرأسمالي وفلسفاته ونظرياته السياسية والاقتصادية وفنونه وأفلامه
ومسارحه وموسيقاه وأنواع رقصه. أذكر أننا زرنا دولة تشيكوسلوفاكيا ونحن
طلاب بجامعة الخرطوم فوجدنا بعض الناس هنالك مستعدين لأن يعطوك ما شئت
من مبالغ مقابل أسطوانة فيها موسيقى الروك آند رول التي كانت ذائعة الصيت
آنذاك. لكن كل هذا الذي كان ممنوعاً في البلاد الشيوعية كان متوفراً في بلادنا ولم
يساعد على تقدمنا.
قلت: إن الدين ليس بشرط في التقدم المادي، لكنني أبادر فأقول: إنه وإن لم
يكن شرطاً ضرورياً إلا أنه بلا ريب شرط كاف. أعني أن الأمة قد تكون قوية وإن
لم تكن على دين صحيح، لكنها تكون حتماً قوية ومنتصرة إذا كانت على دين
صحيح. [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن
فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم] (المائدة: ٦٦) . [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] (الأعراف: ٩٦) . [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل
لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً] (نوح: ١٠-١٢) .
وأبادر فأقول ثانياً: إن الدين إذا لم يكن شرطاً ضرورياً في نيل القوة المادية
فإنه شرط ضروري لبقائها ودوامها. فالنعمة لا تدوم على مجتمع كافر إذا هو لم
يرجع إلى الحق. فإرمُ لم ينفعها عمادها، وثمودُ لم ينفعها جوبها الصخر بالواد،
وفرعون لم تنفعه أوتاده حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بل صب عليهم
ربك سوط عذاب، وهو سبحانه صاببه على كل أمة ترتكب ما ارتكبوا.
والنعمة لا تدوم حتى لمجتمع مسلم إذا هو استحدث نوعاً من الجحود، بل إن
سلبها منه يكون بقدر جحوده. وهذا يعني أن الله تعالى قد يعطي مجتمعاً كافراً لم
يمتحن من أسباب القوة المادية ما لا يعطي مجتمعاً مسلماً امتُحن فسقط سقوطاً كاملاً
بالنكوص إلى الكفر، أو سقوطاً جزئياً بترك بعض ما يعلم أن الله افترض عليه.
ولكن حتى حين يعطي الله تعالى المجتمع الكافر بل والفرد الكافر من النعم
المادية ما يعطيه، فإنه يحرمه من كمال الاستمتاع بها؛ لأن كمال الاستمتاع بها لا
يتأتى إلا مع شكر المنعم بها. وأما بغير هذا الشكر فهي قمينة بأن تصاحبها
منغصات لا يطيب العيش معها.
وعليه: فإذا أردنا أن نحقق لمجتمعاتنا تقدماً اقتصادياً وعلمياً وتقنياً، فلنكن
صفاً واحداً يجمعه الاستمساك بالدين الحق، ثم بكل ما في تراثنا وتجاربنا وتجارب
غيرنا من حق. وإذا كنا صفاً واحداً متماسكاً فلن يعجزنا التواصي على نظام
سياسي يحقق لنا الاستقرار؛ وإذا ما تحقق الاستقرار، فآنذاك نبدأ في الأخذ
بالأسباب التي تحقق القوة والأسباب التي تديمها. لا بد من الأمرين معاً. إن التقدم
الحق لا يقوم إلا على هذين الجناحين.
وما أقوله ليس دعوة إلى البداية من الصفر؛ فقد سارت كثير من دولنا رغم
العقبات في هذا الطريق؛ فنحن إنما نؤكد هنا ضرورة السير في الطريق الصحيح،
وندعم السائرين فيه، وندعو غيرهم إلى سلوك طريقهم.