للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أوقاف المسلمين..آخر الحصون

هذا مثل آت من فلسطين، وهو في سياقه هكذا - ليس مفاجئاً لأحد، لا

لخصوم الإسلام، ولا لأنصاره، يوضح باختصار ودون تعقيد - كيف يجهد اليهود، ويحرصون على القضاء على كل المقومات التي تمثل أدلة على هوية فلسطين

الأصلية، ويضعون الخطط التي تمحو كل البصمات التي تدل على انتماء سكان

البلاد الشرعيين.

فقد زار مفتي فلسطين مصر أواخر شهر ١٠/١٩٨٦ ليعرض على علماء

الأزهر، ويتدارس معهم أوضاع المسلمين في فلسطين المحتلة، والصعوبات

والمشاكل الناجمة عن سيطرة اليهود المباشرة على أوقافهم، وكثير من مساجدهم،

والتدخل السافر في كل أمر مما يخص إدارة شؤونهم الدينية، حتى البسيط منها،

وإمكانية عرض هذه القضايا في المؤتمرات الدولية، وفي الهيئات الإسلامية

العالمية.

وقد ذكر مفتي فلسطين أن المسلمين لم يتمكنوا إلى الآن من استعادة أوقافهم

الإسلامية، ومساجدهم المصادرة منذ عام ١٩٤٨، والتي حولت إلى متاحف! !

وذكر، كذلك، أن كثيراً من مقابر المسلمين لا تزال تنبش وتقام عليها الملاهي

الليلية، والمستوطنات، وأن المسلمين -وحدهم من بين جميع الطوائف الموجودة

في فلسطين - هم الذين تخضع شؤونهم الدينية للإدارة اليهودية، ما جل منها، وما

صغر؛ حتى لو كان تعيين " مؤذن " أو " فراش "، في حين أن للطوائف اليهود ية

مجلساً مستقلاً عن الدولة هو " المجلس الرباني " وللطوائف المسيحية المختلفة

مجالسها التي تتولى الإشراف على أنشطتها، دون تدخل، أو رقابة من أحد.

وذكر من المساجد التي هدمت في فلسطين مساجد: المزيدل، ومعلومة

وصفورية، ولوبيا، وحطين، وتمرين وشجرة، وعين حوض، والطيرة، وجبع، والطنطورة، وكفر لام.

وكذلك أغلقت المدارس الإسلامية في حيفا، والنصارية، وعكا، ويافا.

وألغيت أيضاً جميع الوظائف الحيوية للمسلمين، مثل: مفتش المحاكم العام ومراقبة

الدعوة والإرشاد.

وبيّن أن أساليب المماطلة والتواطؤ التي تسلكها المحكمة العليا فيما يخص

الدعاوي التي يقيمها المسلمون، مطالبة بحقوقهم، وكيف تدفع هذه الدعاوي وترد

بحجة عدم الاختصاص..

وهناك دلالات لابد من الإشارة إليها وردت في هذه الشهادة لمفتي فلسطين:

١- أول هذه الدلالات:

التدخل السافر في شؤون المسلمين، مهما صغرت، وعدم إتاحة الفرصة

لهم، ليقوموا بأي نوع من التجمع، وعلى أي أساس كان والحرص على ضرب كل

ما يجعلهم يشعرون بكيان عقائدي يربطهم، ويستمدون منه الأمل في مستقبل أفضل.

ولا يصرفنك عن هذه الحقيقة ما يتشدق به أعداء الإسلام من كلمات مثل:

حقوق الإنسان، وحرية العقيدة والديموقراطية.. فكأن هذه المصطلحات وضعت

ليفهم منها أن الإنسان المسلم مستثنى منها بداهة.

فالإنسان المسلم - عند أغلب الناس غير المسلمين - لم يصل - ولن يصل،

مادام مسلماً - إلى مرتبة الإنسانية أبداً!

والإنسان المسلم ليس حراً، لا في فهم عقيدته، ولا في تطبيقها، وإذا ما

حاول ذلك، فإنه يُرمى عن قوس واحدة، من كل الجهات، حتى ولو كان بين هذه

الجهات ما بينها من الخلافات والعداء، فإنها تتفق على حربه والكيد له، يرمى

بشتى أنواع التهم من تخلف، وتطرف، وتعصب وسير بالناس إلى الوراء،

ومحاولة فرض أفكاره على الناس، وإرهابهم فكرياً - مع أنه هو الذي تطبق عليه

هذه المفهومات، ويرهب فكرياً، ويغتال جسدياً، ويسلب أبسط حقوقه ألا وهو حق

الدفاع عن النفس.. ماذا أقول؟ ! بل حق الهمس بالشكوى والتوجع والأنين من

هول ما يلاقي في سبيل قوله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وقد طلب كاتب مسلم من بعض الناس أن يعرف له الديموقراطية، فأجاب هذا:

إن الديموقراطية هي: حكم الشعب بالشعب. فأجابه الكاتب المسلم: لقد

نسيت استثناءً مكملاً لهذا التعريف، اتفق عليه الشرق والغرب، ولعله محذوف

للعلم به - حتى صار ذكره أو حذفه سواء - وهو أن الديموقراطية حكم الشعب

بالشعب، إلا أن يكون هذا الشعب مسلماً!

فحتى هذه الديموقراطية، التي هي وليدة مجتمعات وبيئات لها خلفيات ثقافية

مغايرة للإسلام في أهدافه ووسائله؛ أصبحت حقاً مشاعاً لكل بني البشر، واستثني

المسلمون بقسوة من حق المشاركة فيها، لا لشيء، إلا لأنها تعطيهم الحق في أن

يقولوا: هذا نريده، وهذا نرفضه.

٢- الدلالة الثانية:

مأساة الأوقاف الإسلامية، ي أغلب بقاع العالم الإسلامي، فقد سلُطِّ على هذه

الأوقاف سيفان ماضيان، بل ذئبان جائعان، يفتكان فتكاً ذريعاً في هذه الأوقاف

المكشوفة!

أول هذين الذئبين:

كثير من متولِّي شؤون الأوقاف، والقائمين على تدبيرها في القديم والحديث،

ممن فسدت ذممهم، وخربت نفوسهم، وباعوا دينهم بِعَرَضٍ من الدنيا قليل، فكم

من مال نهب، وكم من بيوت موقوفة أخفيت أو أتلفت صكوكها وحججها، ليستولي

عليها من يسكنها، أو تباع بثمن بخس لمن لا يستحق، وكم من مدارس تحولت إلى

بيوت، ومساجد تحولت إلى متاجر وأربطة تحولت إلى أملاك شخصية وإلى ما

شاء المسؤولون عنها، وكم من فقراء معدمين أثروا من أموال الأوقاف، واختالوا،

واستطالوا على الناس، ففسدوا وأفسدوا.. وكم.. وكم.. مما يطول ذكره، ويؤلم

تعداده

أما الذئب الثاني:

فهو ذئب قديم حديث أيضاً، ولكنه كان في القديم يعدو على هذه

الأوقاف بين الفينة والفينة، ولا يعدم من يصرخ به أحياناً، أو ينهره، فيرجع متخفياً موتوراً يتحين غفلة من الحراس لينزو ثانية، لعله ينشب أظفاره بصيد

جديد.

أما الآن.. فقد أمن الهجوم متخفياً بعد أن آلت إليه وراثة حقوق المسلمين

المعنوية والعينية، وأصبح هو الذي يبت في أمر تدبير شؤون هذه الأوقاف،

وصرفها، وتعيين من يحق له أن يطلع على أسرارها، ويكون له حق القوامة

عليها.

وهكذا، بعد أن أصبح للأوقاف وزارات، صار طبيعياً أن يكون من بين

المسؤولين عنها أناس لادين لهم أصلاً فالمسلم الذي خربت ذمته، وانهارت نفسه

لمطمع مادي، قد يشعر في حين من الأحيان - بذنبه، فيتوب، ويكفّر أو يعمل

على إصلاح هذا العيب بالعمل الصحيح في مجال آخر.

أما من لادين له فالأمر عنده لا يتعلق بنهمة يسدها بمطمع مادي، ولا بنفس

شرهة يحرص على تلبية رغباتها، وإنما المشكلة عنده انحراف عقائدي يريه الأمر

أمر أموال لو صرفت إلى مصارفها المحددة لها بأمانة، ووجهت حسب رغبة

واقفيها المسلمين باستقلالية وتجرد، لجعلت المسلمين أعزة في ديارهم، يتمتعون

باستقلالية في اتخاذ قراراتهم، وجعلت علماءهم لا يتكففون من يذلونهم ويسومونهم

ويسومون دينهم الخسف والهوان، ولجعلت المسلمين يعرفون مواطئ أقدامهم على

خريطة العالم، وذلك بتعليم أولادهم دينهم وعقيدتهم، وتنشئهم التنشئة التي تتفق

وإرثهم الثقافي والحضاري، بدل تلقينهم ما يقطعهم عن جذورهم، ويجعلهم مشوَّهي

الفكر، فاقدي أهم واكرم ما يمتاز به الإنسان.

ولهذا، فإن هذا وأمثاله، ممن وسدت إليهم هذه الأمانة التي ليسوا أهلاً

لها، يجهدون في أن يسيروا في أموال الأوقاف سيرة سلفهم " محمد علي باشا " في أوقاف مصر، «الذي أخذ ما كان للمساجد من الرزق، وأبدلها بشيء من النقد يسمى [فائض رزنامة] لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها، وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو ٤ آلاف جنيه في السنة.. وقصارى أمره (أي: محمد علي) في الدين، أنه كان يستميل بعض العلماء

بالخلع (الملابس) أو إجلاسهم على الموائد لينفي من يريد منهم إذا اقتضت الحال ذلك، وأفاضل العلماء كانوا عليه في سخط ماتوا عليه» [١] .

٣- الدلالة الثالثة:

ظاهرة تحويل مساجد المسلمين إلى متاحف، فقد كان المعتاد أن تتحول

المساجد إلى كنائس في ظل السيطرة النصرانية على كثير من بلاد المسلمين وكانت

الرموز الإسلامية في هذه المساجد تقتلع أو تطمس، كما حصل في الأندلس، أما

في ظل الظروف الحالية، عندما عزف أهل الكنائس عن ارتياد كنائسهم، وعندما

وقع كثير من المسلمين تحت الملاحدة وعندما لا يوجد الجمهور الذي يملأ فراغ هذه

المساجد، فيما إذا حولت إلى كُنُسٍ ومعابد لليهود - كما في حالة فلسطين - يُلجأ

إلى تحويل هذه المساجد إلى متاحف، لئلا يتعرض العاملون على ذلك لاستنكار

بعض الجهات الدولية، مثل " اليونيسكو " وغيرها، فيما لو هدوا هذه المساجد.

وليجتذبوا بواسطتها السائحين، بعد أن يكونوا قد عطلوا دورها الذي قامت من أجله، وجعلوها مثابة للمتبطلين والفارغين الذين يقصدون هذه الأماكن بقصد الترويح

والفرجة.

٤- الظاهرة الرابعة:

وهي ذات معنى يؤسف له، فكم من الجهات - في أرجاء العالم الإسلامي

الواسعة - نستطيع أن نشير إلى ما يصنع بأوقاف المسلين فيها - غير فلسطين

المحتلة -؟

فإذا كنا نستطيع أن نرفع أصواتنا مستنكرين منددين بما يفعل بحقوق الإنسان

على أيدي اليهود في فلسطين؛ فهل نستطيع أن نفضح الممارسات المشابهة في بقاع

وبلاد أخرى؟ مع أن هذه الممارسات إن لم تكن أشد خبثاً وأكثر التواءً فهي لا تقل

بحال عما يفعله اليهود من اغتصاب، ومماطلة، وتخطيط دائب من أجل تجريد

المسلمين من كل شيء له فاعلية..

ــ

(١) من المقال الشهير الذي كتبه الشيخ محمد عبده عام ١٩٠٥، بمناسبة مرور مائة سنة على تولي محمد علي وأسرته حكم مصر.