للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

هذه هي القضية

هل أصبح المسلم منبوذ هذا العصر؛ يتحاشاه الناس كما يتحاشون من الجمل

الأجرب؟

إن الحملة الإعلامية الخبيثة التي تُشَن عليه تريد ترسيخ هذه الصورة في

أذهان الناس. وتستغل أخطاءً هنا وهناك كي تكتمل الصورة ويكتمل العرس

الإعلامي الذي يقوده الغرب بعد أن استفرد بالمسلمين على الساحة العالمية.

إن من طبيعة الغربي في تفكيره وسلوكه أن لا يرضى بالتنازلات القليلة،

فكلما تنازلت له عن شيء يطلب المزيد، أما المسلمون فليسوا على استعداد لترد

دينهم وعقيدتهم إرضاءً للغرب. وأما الذين يلهثون وراءه، فهل يستطيعون بعد

الانسلاخ عن دينهم تغيير جلودهم؟ .

لا شك ستبقى نظرة الغرب إليهم نظرة فوقية ولو قبَّلوا أقدامه.

ليست (قضية الأصولية) هي الغضية المستهدفة عند الغرب، وإنما المستهدف

هو الإسلام عقيدة وسلوكاً وحضارة، وقد عبرت عن هذه النوايا صحيفة يهودية

عندما طالبت بإلغاء البرامج الدينية من الإذاعة والتلفاز، بل وإلغاء العبارات

الدينية! .

تقول الصحيفة: (الأمر العجيب في القاهرة أن حوانيت الملابس تُسمع فيها

آيات القرآن، وتذيع إذاعة القرآن الكريم هذه الأيام (١٩) ساعة يومياً، ويدل

استطلاع الرأي أن ٩٦% من المستمعين المصريين يفضلون هذه الإذاعة على

غيرها) ، وتعلق الصحيفة على إلغاء برامج إذاعة القرآن والاقتصار على تلاوة

الآيات: (إن خلفية إلغاء البرامج الدينية من الإذاعة الإسلامية هو ادعاء الدوائر

العلمانية، إن مصر تستخدم عبارات دينية في جميع مجالات الحياة، مما يشكل

تربة خصبة للإسلام الأصولي..) [١] .

لقد عبر عن هذا الاتجاه أيضاً (أنس الشابّي) ، التونسي العلماني الذي كتب

معاتباً لدولة مجاورة لأنها تستقدم المشايخ من الأزهر لإلقاء المحاضرات والدروس

الدينية، يقول: (لا يمكن للأزهر إلا أن يكون السند الخفي والظاهر للتطرف

والانغلاق والتحجر، لأنه كان ولازال دائماً وأبداً معارضاً للتطور، وخصماً لحرية

الفكر، ومنذ بدايات هذا القرن مثَّل الأزهر مؤسسة الانغلاق، يدل على ذلك:

١- فصْله للشيخ علي عبد الرازق، وإخراجه من زمرة العلماء عام ١٩٢٥

بسبب إصداره كتاب (الإسلام وأصول الحكم) .

٢- تشنيعه على طه حسين إثر نشره (في الشعر الجاهلي) ، واتهامه بالكفر. ...

٣- مصادرته كتاب (مقدمة في فقه اللغة العربية) للدكتور لويس عوض،

ومصادرته (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ.

٤- الضغط لسحب كتب فرج فودة من السوق.

ذلك هو حال الأزهر..) [٢] .

إن تقسيم الإسلام إلى إسلام أصولي وآخر متنور ما هو إلا مؤامرة تستهدف

شق صف المسلمين على أمل الاستفر اد بكل قسم منهم على حدة لتسهل عمليه

القضاء على المسلمين بالتدرج. ولعل أخطر ما يردده الغرب المعادي وتلاميذه

ومريدوه هو إسقاط عبارات التشنيع على المسلمين؛ تلك الصفات التي تصفهم

(بالأصولية) التي تعني عند الغرب ما لا تعنيه في اللغة العربية، واستخدام هذا

المصطلح ينسلك في إطار التضليل والتشويه.

هذه هي القضية واضحة لا التواء فيها، إنها صدور منطوية على كُره

الإسلام وأهله، وكم يبدو العلمانيون متناقضين حين يتظاهرون بالعلم والثقافة،

ويتكلمون عن سماحة الإسلام ويسره، وأنه ليس دين تشدد، وهم يحاربون الإسلام

سراً وعلانية، وأما القوميون الذين بدؤوا بالتقرب من الإسلاميين عندما أحسوا بقوة

تيار العودة إلى الدين - عادوا ونكصوا رؤوسهم وساروا في (الزفة) ، التي تهاجم

المسلمين، وأظهروا الشماتة بما يقع لهم، ونقول لهؤلاء وأولئك: إن الله ناصر

دينه، وجاعل لهذا الأمر فرجاً، والعاقبة للمتقين، وهناد حقيقة ناصعة يجب أن

يكونوا على بينة منها وهي: أنه لا يفلح عرب بلا دين؛ تلك خصوصية العرب،

وهذا قدرهم. وإذا ابتعدوا عن الإسلام فسيصيرون مِزقاً وأحاديث، وقد كان رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لقريش في أول الدعوة: «قولوا كلمة تَدين لكم

بها العرب والعجم» ويقول - تعالى - مذكِّراً بما أنعم عليهم: [وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ

قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ]

[الأنفال: ٢٦] .

ويقول الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي: (وإنكم - معشر العرب - كنتم

على الحال الذي قد علمتم من جهالتكم، والقلة والذلة والضلالة، وأن الله - عز

وجل - نعشكم بالإسلام وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام، حتى بلغ بكم

ما ترون..) [٣] .

وها نحن نُتخطف من أرضنا، وليس لنا وزن يُذكر، ولا يكيل بمكيالنا أحد،

ولم أَرَ في واقعنا المعاصر أمة يجري عليها التقسيم والذل كما نراه في واقع العرب

والمسلمين، وبماذا نفسر هذا الغبن والكنود والجحود من الغرب للشعوب الإسلامية

التي تقطن المنطقة العربية، إلا أن العرب هم مادة الإسلام، وقطب الرحى،

والغرب يعلم هذا ولكن القوميين والعلمانيين لا يعلمون بل يتجاهلون.

نحن لا نخاطب -إزاء هذا الواقع الأليم - فئة من الناس لا يكرمهم الله -

سبحانه وتعالى - بأن يكونوا أنصاراً لهذا الدين، ويكون الدين عزاً لهم، ذلك لأنهم

لا يستحقون هذا التكريم: [ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا

وهُم مُّعْرِضُونَ] [الأنفال: ٢٣] .

ولكننا نقول لمن بقيت فيهم بقية من أنفة وشمم: كونوا مع المسلمين في

مقاومة هذا الإذلال وهذا القهر الذي نعانيه جميعاً. أليس في هذه البقية عقلاء

يقولون الحقيقة ويصدعون بها، ويتساءلون عن المصلحة من هذه الدماء التي تُسال، وهذه الأوطان التي تخرَّب، ويعلمون أخيراً أن العز والتمكين لا يُنالان إلا بهذا

الدين، وأن هذه الحملة الشرسة على الإسلام لتدل على كماله وقوته ونفوذه في

قلوب الناس، ولابد للمسلم أن يصبر ويصابر، ويأخذ بسياسة النفس الطويل، ولا

تستخفه الجعجعة الإعلامية، ولا إرجافها وتهويلاتها.

ورحم الله عمر - رضي الله عنه - حين قال: (يعجبني الرجل إذا سِيم خطة

ضيم أن يقول: لا، بملء فِيه) .

رئيس التحرير


(١) هآرتس ٢١/٣/١٩٩٣.
(٢) جريدة الصحافة ٢٠/١٢/١٩٩٢.
(٣) سير أعلام النبلاء، ٣/٤٣.