للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

إريتريا.. الوعد الكاذب بالحرية

مظاهر العلمنة والتنصير في توجهات الجبهة الحاكمة

(١ من ٢)

بقلم: جمال سعيد حسن

اتخذ الصراع في القرن الإفريقي أشكالاً متعددة وشعارات كثيرة، فهناك

صراعات قبلية وقومية وإقليمية ودولية، ولكن الأبرز والأهم كان الصراع العقدي،

صراع بين الحق والباطل، صراع بين الإسلام والنصرانية على وجه الخصوص.

فإذا خصصنا الحديث عن الصراع في إريتريا منذ ظهور قضيتها في مناقشات

الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نجد أن القرار الذي اتخذ في شأنها

كان يراعي مصالح إثيوبيا النصرانية التي غدت جزيرة نصرانية في بحر مسلم،

وقد كان يحكم إثيوبيا الإمبراطور الهالك (هيلاسلاسي) ، وبعد الانقلاب العسكري

الشيوعي عام ١٩٧٤م بقيت إريتريا تحت الاحتلال الإثيوبي، حتى إذا ما يئس

النظام العالمي الجديد من استمرار إريتريا تحت الحكم الإثيوبي النصراني عمد إلى

تسليم السلطة فيها للجبهة الشعبية بقيادة (إسياس أفورقي) ، وتسليم السلطة في

إثيوبيا إلى جبهة التجراي بقيادة (ميلس زيناوي) ، وذلك بعد مؤامرات حيكت في

كل من (أتلاتنا) بقيادة الرئيس الأسبق للولايات المتحدة (جيمي كارتر) عام ١٩٩٠م، وفي (لندن) بقيادة (هيرمان كوهين) مسؤول القرن الإفريقي في الخارجية

الأمريكية عام ١٩٩١م، وبهذا تمكنت الجبهة الشعبية ذات التوجهات الصليبية من

تملك زمام الأمر في إريتريا.

مظاهر ظلم المسلمين:

وقد ظن كثير من الإريتريين أن فجر الحرية قد انبلج في بلادهم بخروج

الجيش الإثيوبي منها بعد صراع مرير وانتظار طويل استمر ثلاثين عاماً، ولكن

هذا الفجر لم يكن إلا فجراً كاذباً للحرية، فها هي الجبهة الشعبية للديمقراطية

والعدالة! ! كما زعمت منذ أن كونت حكومتها في إريتريا عام ١٩٩١م، تعيث فيها

ألواناً شتى من الاضطهاد ضد المسلمين هناك، وتُظهر بين فترة وأخرى ممارسات

تنم عن الحقد الدفين الذي تكنه للإسلام والمسلمين.

وسوف أتناول في هذه المقالة مجمل الأحوال السائدة في إريتريا منذ تولت تلك

الجبهة الصليبية مقاليد الحكم، مع التركيز على الآثار المترتبة لهذا الحكم على

المسلمين وانتشار الدعوة الإسلامية فيها، وذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً: الاعتقالات والاغتيالات:

تملك الجبهة الشعبية جهازاً خاصّاً مرتبطاً بالرئيس مباشرة، مهمته الحفاظ

على أمن (حزب الجبهة الشعبية) الحاكم، ويرمز إلى هذا الجهاز بـ (٠٧) ولهذا

الجهاز صلاحيات تفوق صلاحيات وزير الداخلية، ويحق له القيام بإجراءات تصل

إلى حد التصفية الجسدية دون مساءلة من أحد، وغالب أفراده غير معروفين، وكذا

جميع أعماله سرية إلى أبعد الحدود، وقد قام في فترة ما بعد التحرير باعتقالات

منظمة طالت المؤسسة العسكرية في تنظيم الجبهة الشعبية، وخاصة بعد عملية

الاحتجاج التي قادها الجيش قبيل عملية الاستفتاء، كما قام هذا الجهاز بالتصفية

الجسدية لبعض العناصر غير المرغوب فيها داخل التنظيم، على الرغم من أنها

قيادات مشهورة.

كما قام هذا الجهاز بانتهاك صارخ لأدنى حقوق الإنسان، باعتقال عدد من

الدعاة ومعلمي العلوم الإسلامية والعربية وبعض النشيطين في العمل الدعوي من

الشباب، فبعد أشهر قليلة من دخول الجبهة الشعبية (أسمرا) تم اعتقال بعض معلمي

المعاهد العلمية الذين كان لهم نشاط بارز في توعية الشباب وإقامة الدروس العامة

في المساجد في مدينة (كرن) و (أسمرا) ، ثم استمرت عمليات الاعتقال على فترات

متفاوتة شملت مرة أخرى معلمي المعاهد والمدارس الإسلامية والنشيطين من شباب

الصحوة في كل من العاصمة (أسمرا) ومدينة (كرن) و (حقات) ، وغيرها من المدن

الإريترية، وقد كانت بعض هذه الاعتقالات تجري في وقت متأخر من الليل، بينما

بعضها الآخر يتم في وضح النهار، كما تم بعضها في أوقات متتالية، وقد وقعت

آخر هذه الحملات المسعورة في العام المنصرم ١٩٩٦م في مدينة (قندع) ، حيث

طالت بعض خريجي الجامعات الإسلامية الذين كان لهم نشاط ملحوظ في تعليم

الناس الإسلام، والأدهى والأمرّ: أن حكومة الجبهة الشعبية تنفي نفياً قاطعاً أن

تكون هي التي تعتقل هؤلاء المواطنين، وتنكر على ذوي المعتقلين أن يكون أحد

منهم في سجونها.

ولو أردنا أن نخرج بتحليل قريب لهذه الممارسة العجيبة نجد أن الجبهة

الشعبية تسعى لاستئصال أي فكر يخالف الأفكار المشبوهة التي تسعى لصب الشعب

الإريتري في قوالبها.

إن الذين شملتهم الحكومة الشعبية بالاعتقال الجائر لم يكن لهم أي نشاط

سياسي مريب يهدد من وحدة الشعب الإريتري أو يعرض المصالح الوطنية للخطر

ولكن الجبهة الشعبية تنظر إلى الإسلام نظرة ريب وعداء، انطلاقاً من أهدافها

الصليبية المعروفة، فهي لا تريد إلا مصدراً واحداً لتربية النشء وتوعية الجماهير

ومعلمي العلوم الإسلامية يمثلون في نظرها حَمَلة أفكار منافسة يمكن أن تنتج جيلاً

متطرفاً بزعمهم يهدد الأمن العام للدولة والشعب، بل يبدو من الممارسات التي

تصدر عن نظام الجبهة الشعبية الحاكمة أنها لا تريد أن تسمع للإسلام صوتاً، ولا

أن ترى للمسلمين في إريتريا شخصية وعزّاً والتزاماً بالدين.. وإلا فماذا تقول في

إقدامها بسجن عناصر ممن يمارسون الدعوة بالحكمة والحسنى في منطقة (سرايي)

في عام ١٩٩٣م.

ثانياً: محاربة العلوم الإسلامية واللغة العربية بشكل خاص:

كان من الطبيعي أن تتحول برامج المدارس الحكومية التي كانت تشرف عليها

الحكومة الإثيوبية إلى البرنامج الجديد للحكومة الإريترية بعد نهاية الاحتلال

الإثيوبي، ولكن الشيء غير الطبيعي والمؤسف حقّاً: أن تتحرك أعين الساسة في

الحكومة الشعبية المشبوهة إلى المدارس الإسلامية والمعاهد الدينية التي بذل الأهالي

في سبيل إقامتها الغالي والنفيس سعياً لاستمرار نبع العلوم الإسلامية والعربية في

إريتريا عبر هذه المؤسسات.

وقد بعثت وزارة التعليم إلى هذه المدارس والمعاهد بتعليمات تطالبها بأن تسير

وفق خطة التعليم الخاصة ببرامج الجبهة الشعبية، وهو برنامج علماني بحت لا

يسمح بتدريس العلوم الدينية إلا ساعة واحدة في الأسبوع تكون على شكل موعظة

عامة للطلاب، فهو برنامج لا يخدم إلا الأهداف الصليبية الساعية إلى تفريغ العقول

المسلمة من دينها، وتكوين جيل مذبذب، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وعندما

حاول المدرسون والمثقفون الوقوف أمام هذا التسلط؛ زج بهم في السجون، ولا

يعرف مكانهم حتى هذا اليوم، وسارت خطط (الشعبية) في خطى حثيثة نحو إجبار

القائمين على المعاهد والمدارس الإسلامية بالسير كما تريد.

ثالثاً: استفزاز المسلمين بسياسة تجفيف المنابع:

وتمكنت الجبهة على ضوء ما ذكرنا من الوصول إلى النتائج التالية:

١- إغلاق بعض المعاهد الدينية تماماً، وعدم إصدار تراخيص لإنشاء مثل

هذه المعاهد مستقبلاً.

٢- وما استمر في عمله فقد فُرِّغ من رسالته التي أنشئ من أجلها، وهي نشر

العلوم الإسلامية الشرعية والعربية في إريتريا.

٣- حصر الجهود الأهلية التعليمية للمسلمين في الكتاتيب (الخلاوي القرآنية)

في المساجد أو غيرها، مع المراقبة التامة لها حتى لا تعلِّم غير القرآن شيئاً من

العلوم الدينية، بل وحتى الأناشيد الإسلامية [١] .

وتدعي حكومة الشعبية أن إقدامها على إجبار المدارس الإسلامية انتهاج خطة

التعليم الحكومية يأتي حماية لمستقبل الطلاب الذين لن يجدوا فرصة للتعليم العالي

أو العمل في الوظائف الحكومية إن هم استمروا في المدارس الإسلامية، وهذا

تفكير يرمي إلى إقصاء الاعتبارات العقدية للمسلمين، فالعلم الشرعي في نظر الفرد

المسلم منه ما هو فرض عين يجب على كل مسلم أن يتعلمه، ومنه ما هو فرض

كفائي، ومنه ما هو دون ذلك، فتحصيل العلم الشرعي في حد ذاته يكون عبادة،

فهل تريد الشعبية إغلاق باب من أبواب العبادة التي يؤمن بها المسلمون في إريتريا

بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان؟ ، إننا نفهم أن المقصود من ذلك هو تجفيف

المنابع، وذلك ما يلجأ إليه أعداء الإسلام في السنين الأخيرة.

الأهداف البعيدة من سياستها تلك:

وعلى كلٍّ فإن الهدف الحقيقي لمساعي الشعبية في حربها المعلنة ضد المعاهد

الدينية والمدارس الإسلامية ينحصر فيما يلي:

١- تربية الأجيال القادمة وفق برنامج الجبهة الشعبية الهادف إلى تكوين

شعب يؤمن بنهجها الفكري والسياسي والثقافي الصليبي المغلف بطبقة من العلمانية

الهشة.

٢- تجفيف منابع التدين والتي تسميها الجبهة الشعبية بمنابع التطرف الديني! ...

٣- إذلال المسلمين واستضعافهم والسيطرة على مقدراتهم.

٤- تحجيم اللغة العربية والحد من انتشارها وتوسعها حتى تتلاشى من الوجود

تماماً في إريتريا، وقد دأبت الجبهة الشعبية منذ نشأتها في تحجيم اللغة العربية

وإقصائها من الحياة الثقافية والعلمية والسياسية على الرغم من المطالبات الكثيرة

جدّاً من الشعب بإعطاء اللغة العربية مكانتها الطبيعية في إريتريا، وليس أدل على

ذلك من استفسارات الجماهير الكثيرة عن وضع اللغة العربية في إريتريا التي توجه

إلى قيادة الشعبية بدءاً بالرئيس إلى آخر قيادي لديها في جميع اجتماعاتها المهمة

وغير المهمة، وعلى الرغم من ذلك فإن حكومة الشعبية ما زالت تأبى أن تعطي

آذاناً صاغية لهذه المطالب، ضاربة بعرض الحائط دعوى الديمقراطية والعدالة

اللتين تدعيهما، وقد أصمت بهذه الدعوى القاصي والداني من الشعب الإريتري.

والحقيقة: أن الحكومة لم تتجرأ باتخاذ قرار يعلن إلغاء اللغة العربية رسميّاً

من دوائرها الحكومية أو التعليمية أو الحياة العامة، مع أنه لا يستبعد أن يحدث هذا

بل هناك إرهاصات تدل على ذلك من خلال أحاديث الرئيس الإريتري، إذ الأمر

الواقع هناك تحجيم لدورها وتضييق على منابعها، مع أنه ما زالت تصدر صحيفة

أسبوعية باللغة العربية، وهناك بعض المدارس الابتدائية التي تدرس باللغة العربية.

ويبدو من برنامج الجبهة الشعبية أنها تسير الآن إلى جعل اللغة الإنجليزية لغة

العلم والثقافة، بينما تكون اللغة التجرينية التي تعد اللغة الرئيسة للنصارى في

إريتريا اللغة العامة للشعب، بينما تبقى اللغة العربية لتزيين اللوحات الحائطية أمام

بعض مقرات الحكومة، والأماكن التجارية، وبعض الأوراق الرسمية.

والصراع مع اللغة العربية في إريتريا لا يرتكز على منطلقات قومية، سواء

أكان الموقف الرافض للغة العربية المتمثل في حكومة (إسياس أفورقي) أو الموقف

المطالب بنشرها وترسيمها في إريتريا، إنما المنطلق الأساس لهذا الصراع منطلق

عقدي، فـ (إسياس) يعرف كما تعرف الجماهير المسلمة في إريتريا أن اللغة

العربية وسيلة رئيسة في فهم الدين الإسلامي، وعلى رأسه فهم القرآن الكريم

والسنة المطهرة، وبها يرتبط المسلمون في إريتريا بتاريخهم المجيد وبحاضرهم

الأليم مع العالم الإسلامي، وهذا هو محط النظر من الطرفين، مما يجعل الصراع

عقديّاً أكثر منه قوميّاً أو ثقافيّاً بحتاً.

التقسيم الإداري للدولة ودوافعه:

لعل المرء يقول إن لكل دولة الحق في إجراء تقسيم إداري على أرضها بما

تراه مناسبًاً ويخدم المصلحة العامة للوطن والمواطنين، بحيث يخدم خطط التنمية

للبلاد بأسرها، وهذا هو السبب المعلن الذي اعتمدت عليه حكومة الشعبية في إعادة

تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم إدارية في مايو ١٩٩٥م، حسبما جاء في الجريدة

الرسمية للبلاد (إريتريا الحديثة) ، ع/٥٧/٢٠/٥/١٩٩٥م.

والعاقل يدرك أن الهدف من هذا التقسيم لم يكن كما أُعلن عنه تنمويّاً أو غير

ذلك من الاعتبارات الوطنية، بل كان تقسيماً ماكراً يخدم النظام القائم في البلاد

ويكرس من سيطرته المحكمة على المسلمين سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً، حيث يظهر

من التقسيم أن جميع أقاليم البلاد ما عدا إقليم (عصب) أُدخل فيه جزء من إقليم

(حماسين) مسقط رأس (إسياس) ، ومركز السكان النصارى في إريتريا مما يعني أن

زمرة (إسياس) ستسيطر على المجالس الأهلية للأقاليم الإدارية التي قرر إعلان

التقسيم الإداري تكوينها في جميع الأقاليم، وستفرض عليها لغتها وثقافتها واتجاهها

السياسي، كما أن هذه الزمرة ستجد الفرصة سانحة في رفع مستواها الاقتصادي،

من خلال استثمارها للأراضي الزراعية التي كانت تابعة في الأصل للمناطق

الإسلامية.

المهاجرون الإريتريون:

يقدر عدد المهاجرين الموجودين في السودان وحدها ما يقارب نصف مليون

نسمة، وأغلبهم من المسلمين، ويرفض هؤلاء العودة إلى ديارهم ووطنهم في ظل

الظروف الراهنة؛ وذلك اعتقاداً منهم أن سياسة دولة (إسياس أفورقي) إرهابية لا

يمكن أن يأمن الإنسان فيها على دينه وعرضه وكرامته.

وعلى الرغم من أن الوضع المادي لهؤلاء المهاجرين صعب للغاية إلا أنهم

يفضلون العيش بحرية في ظل الوضع الاقتصادي المتردي بعيداً عن الأهل، بل

الموت جوعاً، بدلاً من الموت فزعاً وقهراً في ظل الحرية المصطنعة والإرهاب

الفكري الطائفي والسياسي الذي تمارسه الجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا.

وتدعي الحكومة في إريتريا بأنها ساعية إلى إعادة اللاجئين إلى وطنهم

تدريجيّاً، وأنها حريصة على ذلك كل الحرص، إلا إن الواقع ينفي ذلك، فهي لم

تبذل من الناحية الإدارية والمالية أي جهد يستحق الذكر، ويبدو أن لها حسابات

مادية، وأكثر منه سياسية لهذه القضية، فهي تعلم أن الصحوة الإسلامية

والمعارضة السياسية والعسكرية تنشط بشكل واضح في وسط هؤلاء المهاجرين

واللاجئين، وإعادتهم إلى الوطن في ظل الظروف الراهنة تسبب متاعب لها لا

يحمد عقباها، والحكومة في غنى عنها، ففضلت الانتظار والتريث، وبل

والمماطلة.

نسأل الله (العلي العظيم) أن يعجل بفجر الحرية الصادق لإريتريا والإريتريين.


(١) نشرت نشرة (النفير) التي تصدرها حركة الجهاد الإسلامي الإريتري، ع/ ٤٧ / ١٠/١٤١٥هـ ٣/١٩٩٥م، وثيقة استولت عليها الحركة في أحد معاركها ضد الشعبية، فيها أوامر صادرة من إدارة التعليم في إريتريا بمراقبة المساجد والخلاوي، ومنع إصدار التراخيص للمعاهد الدينية في منطقة شمال بركة أغوردار.