[الأديب السعودي]
أ. د. حسن الهويمل في حوار مع (البيان)
حاوره: عبد الرزاق الغول ـ القاهرة
نقلت مصطلحات لا تناسب بيئتنا وهذا لون من الهزيمة
ذكر الدكتور حسن الهويمل ـ أستاذ النقد العربي بجامعة القصيم في السعودية ـ أن الكثيرين وقفوا من مصطلح الأدب الإسلامي موقف العداء ـ بسبب قصورهم في فهمه ـ وإن كان معظم أدبهم إسلامياً، وأن هناك نظرية نقدية إسلامية مبثوثة في مختتم سورة الشعراء، كما أكد سعادته أن مصطلحات النقد الأدبي الحِداثي نقلها النقلة العرب إلينا بلا تبصُّر، وفرضوها على الساحة في تعسف، وإن لم تناسب بيئتنا أو ذائقتنا العربية، كما أبدى تخوّفه ـ كناقد أدبي ـ من أن يكون شعر التفعيلة مرحلة من مراحل القضاء على عمود الشعر الذي عرفه العرب.
قضايا أدبية وإسلامية عديدة ناقشناها مع سعادته في هذا الحوار المثير:
البيان: كونك رئيساً لفرع رابطة الأدب الإسلامي بالسعودية نسألكم: أين كان الأدب الإسلامي في عصور الشعر المتعددة؟
٣ ورب سائل آخر يسألني بصيغة أخرى: لماذا ابتدعتم هذا المصطلح «الأدب الإسلامي» ؟
في الحقيقة نحن لم نبتدع هذا المصطلح، لكن عندما طرحت الألوان الأدبية على الساحة: هذا أدب ماركسي، وهذا أدب وجودي، وذاك أدب واقعي، أصبح من حقنا أن نضيف إلى هذه الطروح مصطلح الأدب الإسلامي، أو نتّجه صوب الإقليم فيقال: الأدب المصري أو السوري أو السعودي أو العباسي، أو تضاف السياسة أو الطائفة كأدب الخوارج أو أدب الصعاليك أو غيره، ومن هنا فليس هناك مُشَاحَّة في إضافة كلمة الأدب إلى مُعطاها الدلالي، ونحن ـ أنصار الفكرة الإسلامية ـ ومن سَبْقنا طرحُنا مصطلح الأدب الإسلامي؛ حيث لم يعد الأدب العربي خاصاً بالإسلام، بل اتسع لكل الأفكار والاتجاهات، ومن هنا كان طرح هذا المصطلح بلا نفي للآخر، وقصدنا به التعامل مع الأدب من خلال رؤية إسلامية ومنظور إسلامي.
البيان: ما الحدود الفاصلة بين ما هو أدب إسلامي وغيره مما لا تعدونه إسلامياً؟
٣ كل ما لا يصادر الإسلام أو لا يتصادم معه فهو أدب إسلامي؛ فكثير من الناس ممن لم يستطيعوا أن يفهموا المصطلح إذا نظرت في إنتاج الكثيرين منهم تجده أدباً إسلامياً؛ فهؤلاء في هذه الحالة لا يختلفون مع الإسلام، لكنهم يختلفون مع المصطلح الذي يفهمونه على غير المراد.
والأدب الإسلامي أدب مرن وشامل، وهو أدب قيمة وأدب فطرة، يتسع لكل الأطروحات، ومن هنا أتمنّى على الإخوة أعضاء الرابطة كسب أنصار لأدبنا الإسلامي، بأن يكون خطابهم بعيداً عن التشنّج والاتهام والإقصاء حتى لا يصادَر الآخر؛ لأن الرابطة لها رسالة مهمّة تحاول أن تؤديها، وهي إبلاغ الكلمة الطيبة والدعوة بالحسنى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: ١٢٥] ؛ وذلك لا يتم إلا من خلال خطاب إسلامي راق ومهذب، لمحاولة رفع الجهالة عن المصطلح؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، وبهذا نكسب في صفنا ونجذب أكبر عدد من الأدباء والمفكرين والصحافيين والعلماء في كل التخصصات، ونقنع الآخر أن الأدب الإسلامي لا يصادر حقوقهم ولا آراءهم ولا إبداعاتهم، بل إنه مركب من كلمتين علينا أن نلتزم بهما، وهما: أدب وإسلام. والأدب يلتقي مع الجميع ما لم يصادر الإسلام أو يتصادم معه كما ذكرت، وكل ما أتى على هذا النحو فهو أدب إسلامي.
البيان: هل يوجد لديكم في الرابطة نقد أدبي إسلامي؟ وما أسس هذا النقد؟
٣ النقد الإسلامي هو النقد العربي، والذي وضع أساس النقد الإسلامي وإطاره هو الإسلام؛ يتجلّى ذلك في القرآن الكريم عند التفريق بين شعراء الهداية وشعراء الغواية في قوله ـ تعالى ـ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: ٢٢٤] ، إلى قوله ـ تعالى ـ: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: ٢٢٧] .
وهنا تتجلى أصول النقد الإسلامي في أوضح صورة. ثم جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاستمع للشعر وأُنشد الشعر بين يديه في المسجد، بل واستعان -صلى الله عليه وسلم- في الذبِّ عن الإسلام والمسلمين وفي حربه للكفار وردِّ أباطيلهم وهجومهم بشعراء كبار، من أمثال حسان بن ثابت رضي الله عنه.
وعندما سمع الشاعر يقول:
بلغ السماء لذاك عالي مجدنا ولقد نؤمل فوق ذلك منزلا
وهنا جاء النقد الإسلامي وسؤاله -صلى الله عليه وسلم-: إلى أين يا أبا ليلى؟
قال إلى جنة الخلد يا رسول الله!
وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عندما قام الحطيئة الشاعر بهجاء الزبرقان بن بدر هجاءً فاحشاً وجاء الأخير إلى عمر شاكياً؛ فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لم يرسله إلى المحكمة الشرعية، بل أرسله إلى الخبير بالشعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ليحكم له أو عليه من خلال قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
واحتكم الزبرقان إلى محكمة الشعر، وقضى له حسان ـ رضي الله عنه ـ فنفذ عمر الحكم وسجن الحطيئة.
ولو رجعنا إلى النقد الأخلاقي من خلال أرسطو في المدينة الفاضلة عند اليونان قديماً وإلى غيرها نجد النظرة إلى الشعراء من خلال القيم الأخلاقية نظرة معتبرة، وأقول: لسنا بدعاً في هذه الأرض.
البيان: ما دمنا تكلمنا عن النقد الأدبي ما رأيكم فيما وفد علينا من مصطلحات نقدية كالبنيوية والتفكيكية وغيرهما؟
٣ لقد حدثت ترجمة وتعريب كما حدث نقل بدون تبصر، فنقلت مصطلحات لا تناسب بيئتنا، وهذا لون من الهزيمة النفسية والانبهار بما لدى الغرب خيره وشره دون اهتمام بهويتنا وجذورنا وما خلّفه علماء البلاغة العرب من تراث، وهذه صورة فجة من صور التبعية الغربية في مجال النقد الأدبي.
البيان: راجت في الساحة الأدبية قصيدة النثر كما ظهرت قصيدة التفعيلة، ما رأيكم في مثل هاتين الظاهرتين؟!
٣ هناك دراسة ومتابعة نشرت لي في مطبوعة «علامات» التي يصدرها نادي جدة الأدبي ـ كما كان هناك «الملتقى السابع لقراءة النص» وألقيت ورقة بهذا الشأن عن قصيدة النثر وقلت: إنها مصطلح متناقض، وإن القصيدة غير النثر ـ ووجدت من دافع عنها بحمية، لكن هذا رأيي كما هو رأي الكثيرين، والدراسة منشورة وتبين هذا الرأي في مجلة «علامات» لمن أراد الرجوع إليها.
وأما شعر التفعيلة فبعضهم يراه مرحلة من مراحل التحول التام عن القصيدة العمودية، فهل هو مجرد نقلة أم أنه هادم للشعر الأصيل؟
وكما يقول الخطابي وطه حسين وغيرهما: الكلام ثلاثة: شعر، ونثر، وقرآن.
فإن كانت قصيدة التفعيلة تضع فاصلاً بين النثر وما سواه، وإذا كانت تصلح للإنشاد والتغني، ويتوفر فيها إيقاع مما يستلزمه الشعر فلا بأس بذلك، فـ «نازك الملائكة» الشاعرة المعروفة لها نظرية ورأي معتبر في قصيدة التفعيلة، إلا أنها جعلت لها بحراً وسطراً، فإن تقيّد شاعر قصيدة التفعيلة بهذه الضوابط يمكن أن تكون هذه قصيدة.
البيان: أقحم بعضهم نفسه في عالم الشعر بزعم أنه يمكن اكتسابه بالتحصيل والدراسة؛ فما رأيكم في هذا الأمر؟
٣ الشعر قبل كل شيء موهبة، يولد الشاعر وتولد معه موهبته، فإذا وعى وأدرك الحياة ومرَّ بالتجارب والمواقف عاطفية أو إصلاحية أو سياسية أو اقتصادية أو تجارب ذاتية بدأ المخاض الشعري يتحرك داخله، ثم بعد ذلك تولد القصيدة.
والشاعر إما شاعر بالموهبة فيأتي شعره سلساً كالماء الذي يغرفه من بحر، أو شاعر بالاقتدار ليكون الأمر تكلفاً كأنه ينحته من صخر، فيأتي صعباً أو نظماً بارداً ركيكاً أو كجسم بلا روح.
هناك عدد من أساتذة الأدب بالجامعة يمكن أن ينظموا قصائد بالاقتدار على الصفة السابقة التي ذكرتها. ولا بأس هنا أن أضرب مثلاً للمقارنة: عباس العقاد له أحد عشر ديواناً في مجلدين، تقرأ قصائده وقد لا تعثر على قصيدة واحدة تشدّك أو تجذب اهتمامك إليها، لكن اقرأ الشوقيات تجد في كل قصيدة بل في كل بيت أو حتى شطر البيت أو الخاطرة موهبة شعرية، حتى القصائد المجهولة التي نفى نسبتها إليه تجد فيها عبق شوقي وأنفاسه وإن أنكرها لأسباب معينة.
البيان: النقاد هم أول من جنى على الشعر العربي، مقولة تتردد، ما رأيكم في صحتها؟
٣ لي تجربة شخصية لها علاقة بهذه القضية، فعندما كنت طالباً بالدراسات العليا بجامعة الأزهر قرّر علينا أستاذ النقد بحثاً بعنوان «شوقي بين التدين والمجون» ، وطولبنا بحصر قصائد المجون والتدين بالشوقيات، وبدأنا نقرأ ونتعقب أقوال النقاد منصفين أو متجاوزين، ودرسنا ما ذكره العقاد عن شوقي وكنا نظنه ظالماً لشوقي، ولكنه في الحقيقة أثبت قيمته ومكانته في ميدان الشعر ـ حتى ولو كان شاعر القصر ـ لكن في البداية عندما جاء هذا الشاب المندفع من أسوان، والتقى بالمازني وعبد الرحمن شكري، ثم تعجلوا الظهور وتسليط الأضواء استهدفوا القمم حتى يظهروا ويشار إليهم بالبنان، ومن هنا تناول العقاد شعر شوقي وكان الظلم والجور، لكن ظهرت مكانة شوقي، وقلّده أقرانه كحافظ وغيره من الشعراء الكبار إمارةَ الشعر.
وأخلص للقول: إن الذي جنى على الشعر هم النقاد؛ فهم أرادوا إما تسييس الشعر أو أدلجته، ليصبح الشعر بهذه المثابة مقيداً بإرادة من سيسوه، ومن ثم يفقد بريقه وألقه.