للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق

(١ - ٣)

كشف حساب العلمانية - العلمانية والعولمة

وتأثيرهما على مقومات التنمية

د. مصطفى محمود أبو بكر [*]

من مظاهر التضليل ادعاء أن العولمة يقتصر مفهومها على البعد المكاني،

وأنها لا تخرج عن كونها دعوة لرفع الحواجز المادية المكانية لكي تتداخل وتتفاعل

العمليات والعلاقات بين المجتمعات، ومن مظاهر هذا التوجه أيضاً القول بأن

العولمة هي مفهوم اقتصادي فقط يقوم على إلغاء الحواجز والقيود التي تقلل من

حركة الأموال والاستثمارات والشركات بين دول العالم. والحقيقة أن إعلان

المنتفعين الخارجيين أو المحليين من العولمة بأن هذه العولمة ليس لها بعد ثقافي أو

قيمي أو أخلاقي ما هو إلا مجرد تكتيك مرحلي ينفُذون من خلاله إلى عقول البسطاء

والعوام لتهيئتهم ذهنياً ونفسياً لقبول حتمية العولمة المعاصرة والتعايش معها.

ولكن الحقيقة أن كافة التجارب العملية والنظريات العلمية، فضلاً عن

الممارسات الفعلية للدول الغربية وحكوماتها وشركاتها تؤكد على استحالة أن يسود

مفهوم أو اتجاه اقتصادي معين ومنها المفهوم والاتجاه الاقتصادي للعولمة المعاصرة

دون أن يتم تهيئة المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي لنجاح هذا المفهوم

أو الاتجاه الاقتصادي واستمراره؛ بل الأخطر من ذلك أن الأمر قد يتطلَّب استخدام

التقدم العلمي والتقني والعسكري إذا تطلَّب الأمر لتوجيه الدول والحكومات وإجبارها

على تهيئة مجتمعاتهم لقبول هذا المفهوم، أو الاتجاه الذي تقوم عليه العولمة

المعاصرة. وأصحاب المصلحة في العولمة لا يشعرون بحرج في ممارسة تلك

الضغوط؛ حيث يقومون بكل هذا تحت شعارات تحقيق «السلام الدولي» أو

«التوازن العالمي» أو «الأمن القومي» أو لافتات «الشراكة» أو حماية

«حقوق الملكية الفكرية» أو زعم «حماية حقوق الإنسان» أو «حماية الأقليات»

أو «حقوق المرأة» أو بادعاء مقاومة «الإرهاب الدولي» أو مواجهة

«التيار الأصولي» .

وفي كل الأحوال لم يكن أمام أنصار العولمة المعاصرة والمستفيدين منها سوى

خيارين اثنين لا ثالث لهما:

إما الإعلان بأن العولمة لا دخل للدين فيها وأنه لا مجال للربط بين مفهوم

العولمة ومتطلباتها وبين الدين؛ وعليه: فلا بد من إخراج الدين من مفهوم العولمة

وتطبيقاتها، وبهذا الإعلان تكون العولمة هي العلمانية نفسها في حقيقتها، وهي

بمثابة جسم قديم في ثوب جديد.

وإما الإعلان بضرورة استبعاد الدين من دائرة الاهتمام والتأثير شأنه في ذلك

شأن الشيوعية والاتجاهات الإلحادية الأخرى، على اعتبار أن الإسلام هو العدوُّ

الأول والحاجز المانع أمام انتشار العولمة الدولية وسيطرتها عامة والعولمة

الأمريكية خاصة، ومن ثم يحرص أصحاب العولمة المعاصرة على تدمير التصور

والاتجاه الإسلامي الصحيح مستخدمين في ذلك كل السبل والوسائل التي منها:

طمس المفاهيم والتصورات الإسلامية الصحيحة، وتفتيت العمل الإسلامي، وتبنِّي

التيارات غير الواعية أو غير المخلصة منها بديلاً للنموذج الإسلامي الصحيح.

وبناءاً عليه يتضح أن العلمانية باعتبارها ديناً هي البوابة الحقيقية التي تفتح

المجتمعات الإسلامية وعقول أبنائها أمام العولمة المعاصرة.

ويمكن التدليل على ذلك بالاكتفاء بالإشارة إلى موقفين:

١ - إعلان «بوش» الأب عقب حرب الخليج الثانية قيادة النظام العالمي

عبر الآليات العسكرية لحفظ السلام العالمي في منطقة الشرق الأوسط الساخنة.

٢ - ظهور «كلينتون» عقب تحويل اتفاقية الجات إلى منظمة، وبعد

موافقة العالم على الاتفاقية بدقائق معدودة؛ ليعلنها بصراحة واضحة أن توقيع

الاتفاقية هو نتاج جهد متواصل لسنوات عديدة جاء ليعزز مكانة أمريكا في زعامة

الاقتصاد العالمي وتوجيهه.

العلمانية بين محدودية النظرة وغياب المنهجية:

وإذا كنت أعتقد أن الانشغال الفكري المستمر بالحديث عن العلمانية والعولمة

والحداثة وغيرها هدف لأصحاب هذه التوجهات؛ لكي تتجه اهتماماتنا ومجهوداتنا

نحو حوارات فكرية ومناقشات متواصلة لا تنتهي إلى شيء ولا تنفع بشيء، إذا

كنت أعتقد ذلك؛ إلا أنني أرى أن من الضروري إيضاح المفاهيم والمصطلحات

التي نتناولها وتحديد دلالاتها، حتى يتحدد الإطار الذي نتحدث فيه حسب منظور

المنهجية العلمية في الدراسة والتحليل.

وبما أنه ليس من أهداف هذا المقال الذي يخاطب غير المتخصصين تناول

قضيتي العلمانية والعولمة بالتفصيل، ولا تناولهما من الجانب الشرعي؛ فلذلك كله

مجال آخر؛ فإني أعرض بعض التساؤلات المفتاحية والفرعية التي تساعد القارئ

على فتح مجالات البحث والتأمل للوصول إلى حقيقة العلمانية الحديثة، وأقول:

(الحديثة) لأني أعتقد أن العلمانية تعود بجذورها إلى قوم «شعيب» عليه السلام،

عندما استنكروا عليه ربط الدين بالدنيا؛ حيث قال له قومه: [قَالُوا يَا شُعَيْبُ

أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ]

(هود: ٨٧) ، فَهُم أرادوا بهذا ألاَّ يكون للدين دخل في الحصول على الأموال

واستثمارها وإنفاقها، ومن هنا: يتأكد أن الاتجاه بفصل الدين عن الحياة ليس

ظاهرة جديدة، وإنما هو سمة دائمة من سمات الجاهلية في غالبية مراحلها

وعصورها.

تساؤلات مفتاحية، من الأهمية استعراضها:

عادة ما تدور عدة تساؤلات في ذهن المهتمين بموضوع العلمانية سواء

المتخصصون منهم أو غير المتخصصين، وتمثل هذه التساؤلات عند حصرها

وترتيبها الإطار العام الذي يجب أن نتناول فيه موضوع العلمانية سواء لأغراض

تحليلها أو تقييمها. ومن الأهمية أن يقف القارئ عند كل سؤال من هذه التساؤلات،

وألا يقرأها كلها دفعة واحدة، ومع كل سؤال عليه أن يتدبر مضمونه ودلالاته

وتوابعه:

١ - ما هو المفهوم الحقيقي للعلمانية؟

٢ - ما هو تاريخ نشأة العلمانية؟

٣ - من هم الذين أنشؤوا العلمانية؟

٤ - ما هي البيئة أو الظروف التي نبتت فيها العلمانية؟

٥ - ما هي الجهات والمنظمات والهيئات التي تبنَّت العلمانية؟

٦ - من هم الأفراد المتحمسون للعلمانية والمدافعون عنها؟

٧ - ما هو الهدف الحقيقي والغاية الجوهرية لتبنِّي العلمانية؟

٨ - ما هي المجالات والأبعاد التي تمسها العلمانية عند اعتناقها؟

٩ - هل العلمانية مجرد رؤية أو فكرة أو مبدأ، أو أنها نظام حياة متكامل

مترابط؟

١٠- ما هي المجالات أو الميادين التي تصطدم مع العلمانية وتتعارض معها

وتناقضها؟

تلك هي التساؤلات العشر التي تُكوِّن الإطار العام لتناول العلمانية. وفيما يلي

بعض التساؤلات الفرعية التي تساعد القارئ على إعادة قراءة التساؤلات العشر

أعلاه والوقوف عند كل واحد منها:

هل للعلمانية دور في بناء المجتمعات والأمم؟

هل للعلمانية دور في بناء الفرد والأسرة؟

هل للعلمانية تأثير في نظم التربية والتعليم؟

هل للعلمانية علاقة بالقيم والأخلاق؟

هل مفهوم العلمانية وتداعياتها تمس الأديان والغيبيات؟

هل العلمانية تمس رسالات الأنبياء ودعوتهم للتوحيد والعبودية لله سبحانه

وتعالى؟

هل للعلمانية تداعيات على الأنظمة السياسية وعلاقة الحكومات بمواطنيهم،

ووضع الأنظمة التي تحكم الشعوب؟

هل للعلمانية دور في تنظيم العلاقات الدولية بين الدول في المجتمع العالمي؟

هل للعلمانية تداعيات على قضايا الاقتصاد والاستثمار والتنمية؟

هل توجد علاقة بين العلمانية والقضايا الدولية المعاصرة؟ مثل:

* اتفاقيات الجات وحرية التجارة.

* العولمة والانفتاح الفكري والإعلامي.

* أسلوب BOOT وقيام الشركات الكبيرة بإنشاء مشروعات البنية التحتية

(الأساسية) وامتلاكها وإدارتها.

ثم يبقى سؤالان لا غنى عنهما:

١ - هل للعلمانية وجود حقيقي في المجتمعات الإسلامية؟

٢ - هل توجد علاقة بين الواقع الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية ووجود

العلمانية فيها؟

في: العلمانية ... العولمة ... فقدان الهوية ... ومقومات التنمية:

من المحتمل أن يتساءل القارئ بشأن مسوِّغات الربط بين المحاور الأربعة

المذكورة أعلاه؟ ! ودون الدخول في مقدمات، ودون الاستناد في ذلك والتدليل

عليه من نصوص القرآن والسنة يكفي أن نرجع في ذلك إلى نظريات الغرب

وعلومهم في التخطيط والإدارة والسياسة، والتي من أحدثها ما يطلقون عليها:

(مدخل الأنظمة) ، و (المدخل البيئي) ، وملخص هاتين النظريتين: أن العالم أو

الدولة أو الأمة شأنها شأن أي منظمة يحكمها نظام متكامل مترابط متفاعل، وأن أي

خلل في أي جزئية من جزئيات هذا النظام ينتج عنه حتماً خلل تراكمي يؤدي في

النهاية إلى خلل عام في النظام كله، كما أن أي نظام سواء كان سياسياً أو اقتصادياً

أو تقنياً يستحيل أن يحقق أهدافه إذا لم يتم تهيئة البيئة الكلية له من الناحية

الاجتماعية والثقافية والقيمية والأخلاقية بما يتفق مع أهداف هذا النظام.

ومعنى هذا: أن العلمانية بوصفها نظاماً أو عقيدة، والعولمة بوصفها سياسة أو

نظاماً أو توجهاً، يستحيل أن تنشأ وتنمو في المجتمعات الإسلامية ما لم تكن التربة

خصبة لها، وكذلك ما لم تتوفر الأساليب والأدوات المتكاملة لإحداث الإخصاب

المستمر لهذه التربة لكي تصبح حاضنة مناسبة لمفاهيم العلمانية والعولمة وأفكارهما

وقيمهما ومعتقداتهما.

وهنا نتساءل: ما هو جوهر أخلاقيات وقيم ومعتقدات كلٍّ من العلمانية

والعولمة؟

ودون الدخول في تفاصيل نكتفي فقط بالإشارة إلى التعاريف المستقرة لكل

منهما:

* العلمانية تعني الدنيوية أو اللادينية، وتقوم على العقل والعلم والمناهج

والأدوات العقلانية التي تقف موقف التضاد مع كل ما هو دين أو عبادة أو روح،

ولا يعتد بذلك (الدين، العبادة، الروح) أسساً للقيم أو الأخلاق أو التربية، ولا بد

في العلمانية من استبعاد كل ذلك من السياسة والاقتصاد والاجتماع لإنشاء الحياة

المعاصرة اللادينية!

* والعولمة تقوم بهدم الحدود والفواصل وتوسيع فرص التجانس والتوحد بين

شعوب العالم، وتهدف إلى إزالة الفوارق بين الأفراد، وتشمل مجالات السياسة

والاقتصاد والاجتماع والفن والثقافة، بما يؤدي إلى تعميق المجتمع المدني لحسم

قضية الصراع الأيديولوجي بين الحضارات لتكون الهيمنة للثقافة الدولية وقيم

المجتمع الدولي وأخلاقياته!

ونرى أن مجرد التدقيق الموضوعي المحايد لمضمون مفهومي العلمانية

والعولمة يوضحان مدى الارتباط القوي بين نشأتهما وبقائهما، وبين تمييع الهوية

الإسلامية وفقدانها؛ حيث يؤدي ذلك إلى تهيئة المجتمع الإسلامي لدخول العلمانية

والترحيب بالعولمة ونموها؛ لأنه مع تمييع الهوية أو فقدانها يتعمق ضعف القيم

والأخلاقيات اللازمة لرفع معنويات الفرد وزيادة فعاليته وتعميق إسهاماته في أسرته

ومجتمعه وأمته أو انتفاؤها؛ هذا بجانب أن غياب الهوية يعمق الصراع النفسي لدى

الفرد ويشتت توجهاته، ويجعله أسيراً للفردية والانعزالية والحيرة والتوتر الذي قد

يوصله إلى الهزيمة النفسية أو الانفصام الشخصي أو على الأقل التبعية الكاملة لأي

فكر علماني لا ديني.

وتتمثل خطورة الإفلاس في مجال الأخلاق والقيم وشيوع الانحلال بصورة

تؤدي إلى الصدام الحتمي مع فطرة الإنسان، مما يؤدي في النهاية إلى إتلاف

الخامة البشرية، والتي تؤدي في النهاية إلى سقوط حضارة الأمة وتعميق تبعيتها

الثقافية والقيمية والأخلاقية، والتي تؤدي حتماً إلى التبعية الاقتصادية والسياسية

لغيرها من الأمم العلمانية أو الرأسمالية، ويؤكد هذا المقارنة اليسيرة بين قدرة القارة

الأوروبية بغيرها من حضارات دول العالم الثالث في مقاومة اتجاهات الهيمنة

الأمريكية.

ولذا يمكن القول: إنه لا يمكن نجاح أي مشروع تنموي أصيل وحقيقي دون

الحفاظ على هوية الأمة وقيمها ومبادئها وأخلاقها، وهذا ما يتنافى مع تطبيق

العلمانية والارتباط بالعولمة الغربية في عالمنا الإسلامي.

مفهوم النمو الاقتصادي بين الوهم والحقيقة:

فإذا استعرضنا مفهوم النمو من منظور اقتصادي علمي بحت نجد أن هذا

المفهوم يشير إلى تزايد نصيب الفرد في المتوسط من الدخل الكلي للمجتمع، أي أن

النمو الاقتصادي لا يتحقق بإزالة عجز زيادة الدخل أو الناتج الكلي للمجتمع، وإنما

لا بد أن ينعكس على مستوى معيشة الفرد، ويتطلب تحقيق ذلك شرطين أساسيين:

الشرط الأول: ارتفاع معدل نمو الدخل القومي عن معدل النمو السكاني أو

معدل تزايد احتياجات السكان.

الشرط الثاني: ارتفاع مستوى الدخل النقدي للفرد عن زيادة المستوى العام

للأسعار (معدل التضخم) .

ونستنتج من هذين الشرطين أنه قد لا يتحقق النمو الاقتصادي بالمفهوم

الصحيح رغم حدوث زيادة في الدخل القومي.

فالتنمية الحقيقية تتمثل في: النجاح في تحقيق التحسن الفعلي المستمر في

متوسط الدخل الحقيقي لكل أفراد المجتمع بصفة عامة والفئات الفقيرة التي تمثل

الأغلبية بصفة خاصة، مصاحباً للتحسن الشامل في نوعية الحياة الاجتماعية

والثقافية والأخلاقية والسياسية، وذلك من خلال التغيير الشامل المتواصل لهيكل

الإنتاج والدخل في المجتمع.

ويتطلب تحقيق التنمية بالمفهوم ذاته استيفاء الشروط الآتية:

الشرط الأول: تحقيق الارتفاع المستمر، خلال فترة طويلة من الزمن، في

متوسط الدخل الحقيقي لمعظم أفراد المجتمع.

الشرط الثاني: التخفيف الحقيقي من ظاهرة الفقر، من خلال إحداث تحسن

حقيقي مستمر في توزيع الدخل لصالح الفئات الفقيرة، على اعتبار أن عدم تحقيق

ذلك يمثل تهديداً حقيقياً لكل جهود التنمية وخاصة على الأجل الطويل. وتتضح

أهمية ذلك عند مراجعة الإحصاءات الرسمية التي تمثل جزءاً ضئيلاً من الحقيقة

بشأن عدد الأسر الواقعة تحت حد الفقر سواء في الدول الغنية أو الدول الفقيرة.

الشرط الثالث: تكامل جوانب التنمية وترابطها لتشمل الجوانب الاجتماعية

والثقافية والقيمية والأخلاقية والسياسية فضلاً عن الجانب الاقتصادي؛ فعلى سبيل

المثال: لا يدخل ضمن متطلبات التنمية تبنِّي ما قد يطلق عليه معرفة أو علوم

حديثة إذا ما كان يترتب عليها تخريب في القيم وتدمير في الأخلاق، وهذا يعني أنه

لا بد أن ينعكس سلبياً وبقوة على جودة الحياة.

الشرط الرابع: عدم كفاية تحسن مستوى الدخل الحقيقي أو النقدي للفرد

للادعاء بتحقق التنمية، وإنما يتطلب إحداث التنمية الحقيقية أن يُوجَّه دخل الفرد

إلى تشكيلة متوازنة نافعة من السلع والخدمات التي تحقق جودة الحياة للفرد

والمجتمع، وتتضح أهمية هذا الشرط عند تناول الإحصاءات التي تشير إلى نسبة

الدخول التي تُوجَّه إلى السلع الاستهلاكية أو الترفيهية فضلاً عن حجم الإنفاق على

المخدرات بكافة أنواعها في المجتمعات الغنية والفقيرة على السواء.

الشرط الخامس: تحقيق تحسُّن حقيقي شامل ومستمر في خدمات البنية

الأساسية أو التحتية التي تمس الحاجات الضرورية لغالبية المجتمع، والتي بدونها

قد تكون حياة الشعوب هابطة، وتشمل هذه الخدمات: محطات توليد الكهرباء،

وحقول البترول، والطرق الرئيسة، والمطارات، ومشاريع النظافة، ومعالجة

القمامة، والخدمات الصحية، ومحطات المياه والصرف الصحي.. وغيرها.

ولا يقتصر التحسين الحقيقي في مجالات خدمات البنية الأساسية على مجرد

زيادة عدد منشآتها أو إعادة تأهيلها، وإنما تقتضي التنمية الحقيقية تحديد الأسلوب

الصحيح لتمويل هذه المنشآت وملكيتها وأسلوب تشغيلها وإدارتها، وهذا ما يؤدي

إلى إلقاء ظلال الشكوك والريبة على التوجه الكاسح لدى غالبية الدول النامية إلى

الاعتماد على أسلوب (BOOT) [١] في إنشاء مشروعات هذه الخدمات الأساسية

وتشغليها وملكيتها.

الشرط السادس: وضع الاستراتيجيات والسياسات التي تحقق العدالة

المتواصلة للمنافع التي تحصل عليها الأجيال المتعاقبة، بما لا يدع المجال لجيل

معين أن يتصرف في الموارد والإمكانات وكأنه المالك الوحيد لها. وتتضح أهمية

هذا الشرط عند تناول قيام بعض الدول في زيادة معدل استخدامها للموارد الطبيعية

وخاصة الاستراتيجية لإشباع الاحتياجات غير المحدودة للجيل الحاضر أو استجابة

لضغوط الدول القوية في هذا الشأن، دون مراعاة حقوق الأجيال القادمة، أو قيام

بعض الشركات الدولية بممارسة أنشطة أو تصدير مصانع تستخدم تكنولوجيات

قديمة تُلوِّث البيئة وتدمرها.

العلاقة المتشابكة بين العلمانية والعولمة والتنمية:

تقتضي منهجية التفكير ورُشْد التصرف أن ندرك حقيقة عصرنا، وأن نتلمس

الحقائق المستقرة التي نحياها ولا ينبغي أن نتجاهلها، ومن هذه الحقائق ما يلي:

١ - تنامي العلاقات العضوية بين أصحاب رأس المال على مستوى العالم،

وتشابك الأهداف والمصالح، وخاصة بين كبار المستثمرين، وتعمق الروابط بينهم

تحت رعاية المؤسسات والهيئات النقدية الدولية.

٢ - عدم صحة ادعاء أصحاب الأموال باقتصار أهدافهم ونشاطاتهم على

الجوانب الاقتصادية وقضايا الاستثمار، وتأكد توجيه قدر كبير من خططهم

وجهودهم لإعادة تشكيل البناء الثقافي والقيمي والاجتماعي والسياسي، بما يخدم

إعادة تشكيل المجتمعات بصورة تحقق تنمية استثماراتهم وتعظيم عوائدها.

٣ - تنامي دور رجال الأموال وتعاظم تأثيرهم السياسي سواء في صورة

وجودهم في/ أو تشكيلهم للمجالس النيابية، أو في صورة مشاركتهم القوية المؤثرة

في توجيه السياسات والقرارات السيادية في الدولة بما يخدم توجهاتهم وأهدافهم

الاقتصادية.

٤ - اتساع دائرة التمسك والتأييد لفكر العلمانية، وخاصة من غالبية

الحكومات والعاملين في مجالات الفن والفكر والثقافة والإعلام، فضلاً عن كثير من

العاملين في المؤسسات البحثية وبصفة خاصة في الدول النامية في مجالات العلوم

الاجتماعية والسلوكية.

٥ - اتساع دائرة الاقتناع بحتمية العولمة وحرية التجارة وسيطرة الاقتصاد

العالمي، ومن ثم: زيادة سطوة رجال الأعمال والمستثمرين، والتوسع في استخدام

أسلوب (BOOT البووت) في إنشاء مشروعات البنية التحتية «الأساسية»

وتشغيلها وإدارتها، والإلغاء التدريجي لدور الحكومات في هذا المجال.

٦ - وضوح قوة ثورة تكنولوجيا الاتصالات وما تمتلكه الدول الرأسمالية

والشركات العالمية من أجهزة وبرامج إعلامية لها مقدرة عالية على غسل عقول

الأمة ومحو ذاكرتها وتراثها، ثم إعادة ملئها بمفاهيم وقيم وأخلاقيات تطمس هوية

الأفراد وتفقدهم قيمهم، وتهيئهم لكي تعيد تشكيلهم ذهنياً ونفسياً بما يخدم مصالحهم

ويحقق أهدافهم.

٧ - وجود شركات دولية عملاقة تمتلك رؤوس أموال تزيد عن موازنات

بعض الدول، وتسيطر على رصيد تقني كبير، وذات ولاء قوي للدولة التي نشأت

فيها و/أو يوجد فيها مركزها الرئيسي، وتعطي هذه الشركات أولويات استثماراتها

وخاصة الاستثمارات ذات المردود الاقتصادي المرتفع للدولة المضيفة وإلى الدول

أو المناطق ذات الرضا السياسي من حكوماتها. والدليل الواضح على ذلك موقف

هذه الشركات من الدول التي تدخل في خلاف سياسي مع حكوماتها (مثل إيران

وكوبا) ، أو ما تفرضه هذه الشركات مع المؤسسات والهيئات المالية الدولية على

الدول لضمان حماية أموالها وتعظيم مكاسبها (كوريا مصر) .

٨ - إننا نحن العرب والمسلمين نقع الآن في مؤخرة القافلة، ويتم تصنيفنا

سواء وفق معايير أصحاب الفكر العلماني أو وفق معايير مؤيدي العولمة في مرتبة

تقع في مؤخرة القافلة وفي موضع التبعية السياسية والاعتمادية الاقتصادية، وأنه

رغم أن العالم الإسلامي يقترب تعداده من ربع سكان العالم، إلا أنه قد لا يكون له

أي قدر ملموس من التأثير على النظام الاقتصادي أو السياسي العالمي.

٩ - وضوح تراجع مكانة العلماء والباحثين والمخترعين والمبتكرين،

وضعف تأثيرهم في تشكيل كيان المجتمع بالدول النامية في مواجهة أصحاب الفن

والإعلام والصحافة المؤيدين والمؤمنين بالعلمانية والمؤيدين للعولمة الغربية.

١٠ - استمرار الضعف المتزايد للحس الأخلاقي والقيمى في قضايا الاقتصاد

والاستثمار والتجارة، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، ويدعم هذا

الضعف ضغط إعلامي تعليمي تثقيفي لتحييد الأخلاق والقيم الدينية في مجالات

الحياة عموماً، وفي السياسة والاقتصاد على وجه الخصوص.

العولمة ورسم السياسة الاقتصادية للدول النامية:

إذا كانت العلمانية التي تعيشها بلادنا إلا من رحم الله قد ربطت سياساتها

العامة والاقتصادية خاصة بالمنظومة العالمية التي تمثلها الآن العولمة المعاصرة؛

فإن من ظواهر هذه العولمة المعاصرة تدخُّل المؤسسات والهيئات المالية المقرِضَة

للدول النامية في وضع السياسات التي تنظم عمل القطاع الخاص، وزيادة مساحة

مشاركة رأس المال الأجنبي في الاقتصاد الوطني، وإلغاء أي ضوابط أو قيود على

الواردات، وتعديل القوانين التي تحمي الصناعة الوطنية ... وغيرها من التدخلات

التي تقلل الدور الوطني للحكومات، ومن ثم تأثيرها على تشكيل البناء السياسي في

المجتمع، ومع تضاؤل الدور الوطني (التأثير السياسي) للحكومات في الدول

النامية تزداد حاجة هذه الحكومات إلى الدعم المالي والأمني من حكومات الدول

الغنية، مما يزيد حاجة الدول النامية إلى قروض ومساعدات إضافية، وبما يزيد

هذا الأمر خطورة، ومع زيادة العجز في ميزان مدفوعات الدولة الفقيرة يزداد

اعتماد هذه الدول على مصادر موارد غير مستقرة تتأثر بأي تغيرات أو شائعات في

المجتمع المحلي أو الدولي مثل أنشطة السياحة والفن وغيرها، ويقترن بهذا

انخفاض الاعتماد على المنتجات والصناعات الاستراتيجية (القمح الذرة القطن

الزيوت التعدين الأجهزة.. الخ) .

هذا بجانب الدور الكبير المؤثر الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسيات في

اقتصاديات الدول المقترضة، والتي لا تصبح مفاتيح السياسة الاقتصادية بيد

حكوماتها أو شعوبها، وما زال ماثلاً أمامنا نموذج ما حدث في إندونيسيا وماليزيا

رغم ما حققته كل منهما من نمو اقتصادي وتنمية شاملة، إلا أن نقطة الضعف

الرئيسية في هذه التجربة هي ربط مقومات هذه التنمية بالتأثير الغربي في مجالات

الاستثمار والتمويل ومقوماته؛ حيث رأس المال أجنبي، والشركات أجنبية،

والإدارة أجنبية، والخبرات أجنبية، والتكنولوجيا أجنبية، وهذا المنحى تأخذ به

حالياً عديد من بل معظم الدول العربية والإسلامية.

ويكفي الإشارة إلى أن الدراسات الأولية تؤكد أن اتفاقية الجات سوف تستفيد

منها أوروبا وحدها بما لا يقل عن ٣٠ مليار دولار سنوياً، واليابان بما يزيد عن

٢٢ مليار دولار سنوياً، بينما يستفيد العالم الثالث في حدود مليار دولار واحد فقط

في مجال الزراعة، هذا بينما تنفرد أمريكا ودول الاتحاد السوفييتي السابق ودول

أوروبا بما يزيد عن ٤٥ مليار دولار في مجال الأنسجة والخدمات. ولا يوجد

استفادة تذكر لدول العالم الثالث في هذين المجالين (الأنسجة والخدمات) .

ويؤكد هذا: تزامن ارتفاع حدة الحديث عن العولمة بدءاً من منتصف

الثمانينيات مع ارتفاع الضغوط على حكومات الدول النامية (التي نقع في نطاقها)

لتحرير التجارة العالمية وفتح الحدود أمام أسواق التمويل والتدفقات الرأسمالية،

وذلك في الوقت الذي تزايدت فيه الجهود بصورة أقوى لطرح عدد من القضايا

الفكرية الحساسة التي انشغلت بها وسائل الإعلام والمفكرون فضلاً عن الرأي العام،

وما زالت تستهلك جهدهم في مناقشتها والاختلاف حولها، ومنها قضية العولمة

... وقد كانت محصلة هذا استفادة بعض الدول من هذه الفترة، وانتقالها من

تصنيف الدول النامية إلى دول الاقتصاد المتقدم، ومن هذه الدول (إسرائيل) ؛ مع

بقاء وضع بعض الدول الأخرى ضمن تصنيف الدول النامية؛ فضلاً عن زيادة

نسبة السكان الذين يقعون عند/ وتحت خط الفقر بها.

وتؤكد الإحصاءات الدولية الرسمية إلى أنه رغم ارتفاع مستوى الدخل وتحقق

التنمية العلمية والتقنية والعسكرية في بعض الدول (منها إسرائيل التي استفادت من

هدوء فترة اتفاقية السلام) ، إلا أنه قد اتسعت الفجوة بين مستويات الدخول بين

الدول الغنية والدول الفقيرة، ومع وضوح ظاهرة تراجع مستويات دَخْلِ عديد من

الدول الفقيرة إلى الوراء برز في المقابل تزايد السلوك الاستهلاكي والترفيهي لدى

الطبقة الثرية من رجال الأعمال والسياسة في الدول الغنية والفقيرة على السواء.

التوجهات العامة البديلة لاختيار سياسة التنمية:

إن النظرة العامة سواء من المتخصصين أو عوام الناس إلى توجهات الدول

في تحقيق التنمية يمكن أن تنتهي بإرجاع هذه التوجهات إلى واحدة من التوجهات

الخمسة العامة الآتية:

١ - اتباع بعض الحكومات لنماذج وتجارب أو قيادات غير ناجحة، وتقليدها

رغم وجود مؤشرات واضحة تؤكد إخفاقها، مما نتج عن جهود التنمية أخطاء فادحة

ونتائج مقلقة أدت إلى زيادة تعقيد مشكلات المجتمع إلى درجة يبدو معها صعوبة

وجود أمل لإحياء المجتمع بعد موات.

٢ - اتباع بعض الحكومات لسياسات ونماذج وتجارب مجتمعات أخرى حققت

قدراً مقبولاً من النجاحات في مجالات التنمية، وتقليد هذه السياسات والنماذج

والتجارب رغم الاختلاف الواضح بين مكونات البيئة الثقافية والاجتماعية والعلمية

والسياسية وخصائصها وبين المجتمعات، مما نتج عنه عديد من مؤشرات التناقض

والصراع الاجتماعي إلى درجة تصل إلى ضياع هوية المجتمع أو طمسها.

٣ - اتباع بعض الحكومات لخطوات ونماذج تنوعت مصادرها وخصائصها

إلى درجة يصعب معها توصيف التوجه العام لتلك الحكومات في عملية التنمية

بصورة تجعل المتخصصين فضلاً عن غير المتخصصين أو عوام الناس غير

قادرين على تحديد توجهات الحكومة فيما يتعلق بخطط التنمية بصفة خاصة وتحديد

هوية المجتمع بصفة عامة.

٤ - اتباع بعض الحكومات لمنهجية واضحة وسياسة معلنة تعتمد اعتماداً

أساسياً على مواردها الداخلية وإمكانياتها الذاتية بصورة تتفق مع هويتها الوطنية

وتعمقها، إلى درجة تعطي دلالة قوية على أن هذه المنهجية أو السياسة من صنع

هذه الحكومة، وأن هذه المنهجية تنفرد بها هذه الدولة إلى الحد الذي يظهر فيها

انعكاسها بصورة قوية على عقلية المواطن وسلوكه ومظهره.

٥ - اتباع بعض الحكومات لسياسة محددة وخطة واضحة، تعتمد بصورة

أساسية على الاستغلال والاستفادة الخاصة من مشكلات الدول الأخرى واحتياجاتها

وظروفها، إلى درجة أن تكون حريصة ويقظة دائماً لكي تستثمر مشكلات هذه

الدول وأزماتها، بل تعمل على إيجاد هذه الصعوبات والمشكلات واستمرارها

وتعميقها بما يخدم مصلحتها وأهدافها.

وتومئ المؤشرات والظواهر العامة إلى أن غالبية الدول النامية إن لم تكن

جميعها تعتمد بدرجة أساسية على واحدة أو أكثر من التوجهات الثلاثة الأولى، بينما

تحرص الدول الغنية على مزيج من التوجهين الرابع والخامس بما يعظم مكاسبها

على حساب الدول الأخرى.

وعلى عكس الاستفادة الواضحة لبعض الدول من العولمة المعاصرة، ومن

خلال التحليل المقارن بين المستهدف في خطط التنمية للدول النامية حتى عام

٢٠٠٠م والنتائج التي حققت بالفعل يتضح التأثير السلبي لعديد من المتغيرات على

معدل النمو الاقتصادي في غالبية الدول النامية.

وفي المؤشرات العامة الآتية ما يوضح ذلك:

- ظهور التأثير القوي للمتغيرات الدولية في الأسواق العالمية، وكذلك في

العلاقات والاتجاهات السياسية على معدلات النمو الفعلية في اقتصاديات الدول

النامية عن المخطط.

- التذبذب الواضح في مستوى استقرار أسواق المال والعملات.

- تزايد معدلات الواردات بصورة واضحة بصفة عامة ومن دول جنوب

وشرق آسيا بصفة خاصة نتيجة الانخفاض الكبير في أسعار منتجات هذه الدول.

- تزايد معدلات الركود في الأسواق العالمية التي ساهمت في انخفاض

الإيرادات السيادية.

- انخفاض الإيرادات السيادية الأساسية نتيجة الأحداث الداخلية في بعض

الدول النامية.

- انخفاض معدلات النمو في القطاعات والأنشطة الاقتصادية الرئيسية مثل

قطاعات الزراعة والنقل والتجارة والسياحة ... وغيرها.

- التكرار المستمر لأزمات نقص السيولة المحلية، وتزايد الطلب على

العملات الأجنبية (خاصة الدولار الأمريكي) وارتباط ذلك بارتفاع فاتورة الواردات

وانخفاض الاحتياطيات للنقد الأجنبي.

- استمرار ظاهرة العجز في الميزان التجاري، بجانب تزايد حجم الفجوة بين

ناتج صادرات وواردات هذه الدول ودلالتها؛ مما يجعل المشكلة أكثر تعقيداً عند

إعداد خطة التنمية الشاملة في الدول النامية.

- تزايد حجم الواردات وقيمتها من السلع الاستثمارية والسلع الوسيطة والتي

تعتمد عليها بدرجة أساسية خطط التنمية الصناعية بصفة عامة والمشروعات الجديدة

بصفة خاصة.

وتؤكد هذه المؤشرات وغيرها أن راسمي خطط التنمية في الدول النامية

يواجهون تحديات متنوعة ومعقدة، من أجل تهيئة البيئة الاستثمارية بجوانبها

الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية، وخاصة مع ارتفاع مستوى حساسية

اقتصاديات هذه الدول تجاه أي تغيرات سواء خارجية أو داخلية.

ويرجع ذلك إلى اعتماد اقتصاديات هذه الدول بدرجة كبيرة على المعاملات

المالية والرأسمالية والموارد الخدمية التي بدأت تفقد السيطرة الكاملة عليها، ولك أن

تتخيل دلالة انخفاض مساحة الأرض المزروعة «قطناً» إلى ما يقرب من ٥٠%

في مصر منذ الستينيات، واستبدال هذه المساحات بزراعة الكنتالوب والخيار

والفراولة واللب، بزعم توفر فرص التصدير أمامها، في حين أصبحت إسرائيل

من الدول التي تصدِّر القطن بكميات كبيرة متزايدة.

حصاد الهشيم: تنمية شوهاء:

سبق أن ذكرنا في الحلقة الماضية أن الشواهد العملية والدراسات العلمية تؤكد

على أن زيادة مستوى الدخل الفردي أو القومي إن حدث لا يضمن بالضرورة تحسن

مستوى الخدمات والمرافق العامة التي يستفيد منها غالبية أفراد المجتمع سواء في

مجال الإسكان أو الصحة أو التعليم أو الغذاء وغيرها من ضروريات الحياة. كما

تؤكد هذه الشواهد والدراسات أن زيادة الدخل لا يكون مقروناً بالضرورة بارتقاء

الثقافة والقيم والأخلاق وتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعدالة

وحرية الرأي وغيرها من المؤشرات الحضارية التي تنشدها المجتمعات.

بل إن من الظواهر الغريبة التي تستحق الدراسة في حضارة القرون المتأخرة

إذا أطلقنا عليها وصف حضارة تجاوزاً: اقتران التخلف الاجتماعي بتحقيق النمو

الاقتصادي أحياناً؛ حيث تؤكد الإحصاءات الرسمية أنه رغم تحقيق بعض

المجتمعات زيادة في الدخل الكلي، إلا أن هناك تزايداً في الفروق والصراعات

الاجتماعية داخل هذه المجتمعات.

وعليه فقد أصبح من المستقر عند معظم الأفراد وفي غالبية الدول أن تحقيق

التنمية والحضارة لم يعد قاصراً على مجرد التخطيط لزيادة مستوى المعيشة المادية

للأفراد، وإنما يمتد ذلك ليشمل كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

والأخلاقية وغيرها من مكونات البيئة وجوانب حياة الأفراد.

وأصبح من المقولات المأثورة في مجال التنمية: أن التنمية يجب أن تهدف

وتتجه إلى تطوير الإنسان وتجويده هو أولاً وليس تطوير الأشياء المادية وتحديثها

فقط.

ومع ذلك، فإن ما نشاهده في معظم البلاد العربية والإسلامية هو أن المشاريع

التنموية العلمانية في تلك البلاد أدت إلى تعميق التبعية، ووهن الإرادة الذاتية،

وشيوع الاعتقاد بأن الحضارة هي سكنى الفيلات وبناء الناطحات واقتناء السيارة

والدش والهاتف المحمول، وأن التقدم والرقي هو في الفن والسياحة، حتى أصبح

للباطل والحرام علومه وفنونه ومؤسساته وأحزابه ... ونتج عن ذلك أن ساد الاعتقاد

في غالبية الدول النامية التي نقع في نطاقها إن لم يكن جميعها، ساد الاعتقاد بحتمية

اتباع الطريقة الغربية والاعتماد على الوكالات والمؤسسات الدولية والحكومات

الغنية والقوية للحصول على القروض والمنح والمساعدات والهبات، وقد ازداد هذا

الاعتقاد عمقاً باعتقاد آخر يقول بحتمية سلوك السبيل الغربي في التنمية، وهو

الاعتقاد الذي نشأ نتيجة تلاقي أربعة محاور عند نقطة مشتركة؛ وتتمثل هذه

المحاور الأربعة فيما يلي:

١ - حرص الدول الغربية عامة والغنية منها خاصة على تعميق هذا الاتجاه

لاعتقادها بأن ذلك أحد أهم مقومات استمرار سيطرتها وتفردها الاقتصادي

والسياسي.

٢ - تركيز غالبية الخبراء والاستشاريين المحليين والخارجيين على إبراز

حتمية هذا الاتجاه، وحرصهم الشديد على تحقيق السيطرة الذهنية على صانعي

القرارات في الدول النامية، حفاظاً على مصالحهم جميعاً، وهي المصالح ذات

الارتباط القوي باستمرار سيطرة الدول الغربية عامة والغنية خاصة على مقومات

التنمية في الدول النامية.

٣ - عمق النزعة الداخلية والتهيئة الذاتية لدى صانعي القرارات وكذلك الفئة

القليلة المستفيدة من نواتج التنمية لاتباع الأسلوب الغربي في التنمية إيماناً منهم بأنه

السبيل الملائم لدعم سيطرتهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية في مواجهة أي

توجهات لتحقيق التنمية الشاملة اعتماداً على الموارد والإمكانيات الذاتية، ومواجهة

أي توجهات لإتاحة الفرص للتوزيع العادل لثمار التنمية.

٤ - تراكم نواتج المشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لدى

غالبية الأفراد، ووضوح ظاهرة الانهزام الداخلي والسلوك السلبي، وعمق الاعتقاد

بعدم جدوى الاجتهادات المحلية، ومن ثم حتمية الاقتداء بالأسلوب الغربي في

التنمية على اعتباره الوسيلة المعروفة لديهم والتي حققت مجتمع الرفاهية في الدول

الغربية، وهذا ما تحاول أجهزة الإعلام سواء الغربية أو المحلية تعميقه في

النفوس.

وقد أدى هذا الاتجاه إلى تجسيد مشهد متواصل في دولنا النامية يتلخص في

أن تعلن الحكومات وتُمنِّي شعوبها بأنه اقترب موعد جني ثمار جهود التنمية، وأن

الخير أوشك أن يعم البلاد؛ حيث تهيأت البيئة لجذب أموال المستثمرين وتشجيع

رأس المال الخاص المحلي والعربي والأجنبي، وأنه قد تم اعتماد الحكومات

والهيئات الغنية للقروض والمساعدات والمنح، وأن التقارير الدولية من المؤسسات

العالمية أكدت أن معدلات النمو في تزايد ومعدلات التضخم في انحسار، وأن كل

المطلوب هو أن تتحمل الفئات الفقيرة وهي الغالبية مزيداً من العبء لتمويل نفقات

التنمية خلال الفترة القصيرة المتبقية، وعليهم أن يتحملوا مزيداً من التضحيات في

المرحلة الانتقالية والصمود أمام تبعات المنافسة الدولية، وأن على المزارعين

والحرفيين والمهنيين محدودي الدخل وقليلي الحيلة أن يتذرعوا بمزيد من الصبر

أمام تلك المعاناة المؤقتة، وعليهم أن يقتنعوا أن كل بلاد العالم الغنية مرت بتلك

المرحلة، وأن يتخلوا عن تصورهم الخاطئ أن الأغنياء يسكنون في القصور

ويأكلون التفاح حباً في ذلك! وإنما يفعلون ذلك اضطراراً حتى يتمكنوا من التفكير

لهم والتخطيط لمستقبلهم! وليس المطلوب منهم (الفئات الغالبية الفقيرة) سوى

انتظار تلك الفترة، وأن يعملوا بجد ويقبلوا التحديات اليوم ويعيشوا دون ملبس أو

مسكن أو مأكل حتى يتمتعوا فيما بعد بنعيم جنة التنمية التي أوشكت أن تفتح أبوابها

على أيدي حكوماتهم والمستثمرين الجدد!

كما أدى ذلك الاتجاه العلماني والعولمي وهذا السيناريو إلى فساد اقتصادي

واجتماعي واسعين. ونستطيع إيضاح علاقة العلمانية بالعولمة وأثرهما في المجتمع

وعلاقتهما بالفساد الاقتصادي والاجتماعي في الشكل الآتي:

الخاتمة:

بصيص من أمل، حقيبة العمل لإحياء الأمة لكي تواجه العلمانية وتؤثر في

تشكيل العولمة المعاصرة:

إنني لا أقول كما يقول كثيرون إن الإسلام والمسلمين يمرون الآن بمحنة

قاسية، وأن الأمم أوشكت أن تمحو ذاكرة هذه الأمة وهويتها، وإنما أقول إن الأمة

الإسلامية تمر هذه الآونة بمرحلة «مخاض» وما يرتبط بها من حالة عالية من

التأهب والترصد فضلاً عن قسوة الألم والتوتر، وذلك في جو تأكد فيه كيد الخصوم

والأعداء من جانب وحقدهم، وبدت فيه بوادر تلاشي جهل المنتسبين والمتحمسين

من الأبناء من جانب آخر، بصورة تؤكد أن التمكين لهذا الدين لن يتحقق إلا

بوضوح المفاهيم وتميز الصفوف والرايات بمشيئة الله، حتى يعلم الجميع أن أولئك

قوم يعبدون الدنيا وأن هؤلاء قوم يسارعون إلى الآخرة.

وعلى ضوء ما سبق، ووفق تقديرنا المبدئي، فإن مواجهة العلمانية وتبعاتها

لن يتم إلا من خلال إحياء الأمة من جديد، وإخراجها من حالة الركون والتهميش

والحياد التي تعيشها إلى حالات الحركة والتأثير والانحياز، ويمكن أن يتحقق ذلك

بمشيئة الله تعالى وفق رؤية استراتيجية متكاملة وبرنامج عمل شامل يكون حقيبة

عمل لإحياء الأمة؛ لكي تواجه العلمانية وتتعامل بفعالية مع العولمة المعاصرة،

ويشتمل هذا التصور المبدئي على ما يلي:

١ - تصحيح المفاهيم وتعميق الإيمان الصحيح الخالص لدى الأفراد بما يبرز

الهوية الإسلامية، ويحقق التوازن بين الدنيا والآخرة، ويكوِّن الأمة الوسط بين

الأمم.

٢ - جعل الإنسان محور أهداف التنمية الشاملة بكافة جوانبها ومكوناتها

ومحور جهودها.

٣ - احترام عقلية الإنسان وعاطفته، وتنمية الرغبة والمهارة لديه وتهيئته

للإبداع والابتكار والتطوير والتحديث.

٤ - التربية الشاملة التي تغطي كافة المجالات وتمس كافة الفئات، وهي

تربية ينبغي أن تكون متوازنة توجد الشخصية السوية، وينبغي أن تكون متواصلة

تواكب العصر وتتفاعل مع المتغيرات، وتستجيب للضروريات والإيجابيات.

٥ - الاهتمام الكامل بالمرأة والأسرة سواء ما يتعلق بجوانب التعليم والتربية

وتوفير متطلبات استقرارها؛ لتكون بمستوى الإيجابية التي تخدم أهداف التنمية

الشاملة من الجوانب الاجتماعية والقيمية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والسياسية

والأمنية.

٦ - أن يكون بُعْدَا التربية والتعليم هما أحد أهم أهداف التنمية وأحد أهم

أدواتها في الوقت نفسه، لإخراج العقول ذات الخُلُق والقيم والمبدعة والمبتكرة

القادرة على إيجاد قاعدة تكنولوجية أصيلة تقود عملية التنمية؛ لتخرج الأمة من

التبعية والاعتمادية إلى الريادة والتأثير، فضلاً عن تقديم صور السلوك الفردي

والجماعي والقومي التي تليق بالأمة الوسط من جانب، وتدعم أهداف التنمية

الشاملة من جانب آخر.

٧ - تكوين تصور نظري ووضع سياسة عملية لإنشاء أجهزة إعلامية ذات

صبغة إسلامية تحافظ على هوية المجتمع الإسلامي من جانب، وتعمل على تنمية

الشخصية المسلمة من جانب آخر، وتدعم أهداف التنمية الشاملة من جانب ثالث بما

يحقق حياة إسلامية شاملة يدركها الفرد والمجتمع المحلي، ويعترف بها العالم

الخارجي ويقيم لها وزناً واعتباراً.

٨ - إنشاء قاعدة تكنولوجية وطنية حقيقية بجوانبها المادية الفنية والبشرية

والإدارية، بما يوفر الأساس العلمي التقني للتنمية الشاملة ويحقق للأمة استقلالها،

وينزعها من التبعية التكنولوجية والاقتصادية والسياسية.

٩ - بناء نظام سياسي يحقق العدالة ويكفلها، ويؤكد حق الأمة في اختيار

ممثليها وحكوماتها، ويدعم الانتماء الوطني للأمة الإسلامية، ويحترم التعددية

السياسية التي تلتزم بالشرعية الإسلامية، ويحفظ للأمة وحدتها وحضارتها وهويتها،

ويهيئ المناخ الإيجابي للصفوة الرشيدة المخلصة.

١٠ - تكوين بناء اقتصادي مالي استثماري ينشأ ويدار على أساس العقيدة

الصحيحة وتحقيق الحياة الكريمة لجميع أفراد المجتمع، على أن يتم مراجعة هذا

البناء وتطويره على ضوء التوافق العضوي بين مقوماته وأهدافه الآتية:

* حماية الأموال والمحافظة عليها باعتبارها أحد الضروريات الخمس التي

جاءت الشريعة للمحافظة عليها وحمايتها، شأنها في ذلك شأن الدين والنفس والعقل

والعرض.

* الاهتمام والرعاية المتوازنة لكل فئات المجتمع، مع منح رعاية وكفالة

خاصة للفئات الضعيفة لضمان حياة آدمية كريمة لهم.

* وضع معيار مركب خاص بالتنمية يلائم الأمة الإسلامية ليجمع بين جوانبه

العقائدية والاقتصادية والقيمية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما

يحقق للأمة هويتها الإسلامية ومكانتها الدنيوية المتحضرة المعتبرة من الكيانات

الأخرى في المجتمع الدولي.

* إعطاء الأولوية للاستفادة من الموارد والإمكانيات المحلية وتعظيم الانتفاع

بها، وحمايتها وتنميتها، وإيجاد ميزة تنافسية من خلالها، وزيادة الاعتماد على

المكونات المحلية في التصنيع والإنتاج.

* الالتزام الكامل بسياسة الإنتاج الوطني للمنتجات والسلع الاستراتيجية بصفة

عامة، وما يتعلق بالأمن الغذائي والمعيشي والدفاعي بصفة خاصة.

* إيجاد بيئة اقتصادية آمنة تكون مركز جذب استثماري تجاري لرأس المال

الوطني والعربي والإسلامي والأجنبي على السواء، مع توفر البناء التشريعي

والثقافي والأمني الذي يحقق ذلك.

* تهيئة البيئة الاستثمارية لتحفيز المنشآت العائلية المفتوحة التي تحقق الربط

السليم بين ملكية هذه المنشآت وإداراتها ودعمها من جانب، وإتاحة الفرص لصغار

المدَّخرين والمستثمرين من جانب آخر بما يكفل الحرص على إنجاح هذه المنشآت

والمحافظة عليها واستقرارها فضلاً عن تدعيم الجانب القيمي والأخلاقي المرتبطة

به.

* إنشاء مدن ومراكز بحثية متخصصة متكاملة تتفرغ للعمل البحثي،

والتوصل إلى الابتكارات والاختراعات العلمية التي تخدم التنمية والاستقرار،

ووضع السياسات والأنظمة التي تكفل الدعم والحماية لهذه المدن والمراكز البحثية،

على اعتبارها محور تحدٍ استراتيجي مصيري للأمة في مواجهة التوجهات

والتكتلات الدولية التي تحرص على بقاء المجتمعات والحكومات الإسلامية في حالة

الانهزام والتبعية.

* التعامل مع تنمية القرية والمجتمع الريفي، وكذلك الصناعات الصغيرة

والمهن الحرفية بالمفهوم الحربي الاستراتيجي، على اعتبار أن مجالات التنمية هذه

تمثل الصف الثاني أو الجبهة الداخلية للتنمية والاقتصاد القومي الذي يوفر للمجتمع

حماية وحصانة اجتماعية واقتصادية يصعب على الكيانات الدولية اختراقها أو

القضاء عليها، مما يعطى للأمة قوة حقيقية دولية من جانب، ويمد الحكومات بقوة

تفاوضية مع كافة الكيانات والمؤسسات والحكومات الدولية.


(*) أستاذ إدارة الأعمال المساعد بكلية التجارة، جامعة المنوفية، مصر، خبير التنظيم والإدارة
بالبنك الدولي.
(١) اختصار Building Operation Owner Transport، وهو أسلوب يعتمد إنشاء وامتلاك وتشغيل المشروع من قبل شركات أو مؤسسات، ثم تحويله إلى الدولة بعد فترة الامتياز أو التعاقد.