المسلمون والعالم
المسلمون البلغاريون بين ناري الشيوعية والصليبية
بقلم:عبد الله بن إبراهيم المسفر
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى عانى المسلمون البلغار من
الاضطهاد، وزاد الطين بلة وصول الشيوعيين إلى الحكم بعد الحرب العالمية
الثانية عام ١٩٤٤م.
والمسلمون في بلغاريا: من الترك، ومن البلغار الذين أسلموا ويعرفون بـ
(البوماك) ، ومن الغجر (البدو الرحل) .
ويغلب على المسلمين الفقر والتخلف والحرمان، ويمنعون من الهجرة إلى
الخارج، مضايقة واضطهاداً لهم.
وقد حاولت بلغاريا قبل أن تصبح شيوعية تنصير المسلمين، إلا أن مقاومة
هؤلاء أفشلت مخططاتهم، وقد سقط تحت سياط هؤلاء البلغار النصارى الألوف.
ثم زاد الاضطهاد والتضييق عند اجتياح الشيوعية البلاد، حتى منعت
السلطات الشيوعية الحاكمة المسلمين من تأدية الحج. والمسلمون ليس لهم مدارس
خاصة بهم، كما كانت بلغاريا تضم أكثر من ١٢٠٠ مسجد، وقد أجبرت السلطات
المسلمين على الدفن بمقابر واحدة مع سائر السكان، وحظرت النحر يوم عيد
الأضحى، وأجبرت النساء على السفور، وفي الآونة الأخيرة: أجبرت السلطات
الحاكمة المسلمين على إسقاط التمايز القومي والديني، وألزمتهم بتغيير أسمائهم
بالقوة إلى أسماء نصرانية أو بلغارية، وقد أثار هذا الأمر المسلمين البلغار،
فعارضوا؛ فوقعت مجازر، وهرب بعضهم إلى تركيا التي احتجت رسميّاً، ووجه
رئيسها خطاب تذمر إلى رئيس بلغاريا، وقال رئيس حكومة تركيا على منبر الأمم
المتحدة في ١٩٨٥م: (إن حقوق هذه الأقلية المسلمة تنتهك، فأين هي حرية الفكر
والدين وحقها في الحفاظ على شخصيتها؟) ، وقد تجاوز عدد المهاجرين إلى تركيا
أكثر من ثلاثمئة ألف، نزحوا عن بلغاريا في عام ١٩٨٩م، ومتحف صوفيا في
العاصمة أصله مسجد هدمت مئذنته، ولا يوجد فيها اليوم إلا مسجد واحد! ! .
ولعل أبرز أحداث بلغاريا: التطورات التي جرت أواخر عام ١٩٨٩م وبداية
عام ١٩٩٠م، حيث جرت تغييرات مهمة على صعيد الحزب والحكومة، وأُبعد
المسؤولون القدامى، وأُتيحت حريات التعبير والحريات الشخصية الأخرى، ووقع
في ١٢/١/١٩٩٠م اتفاق بين الحكومة والمعارضة وممثلين عن المسلمين، جرى
فيه إقرار حريات المسلمين الدينية والثقافية، وأعيدت إليهم حرية اختيار الأسماء
الإسلامية شريطة ألا يقيموا أو يطالبوا بحكم ذاتي! ! ، الأمر الذي يعتبر تقدماً في
الواقع المرير الذي فرضه الحزب الشيوعي السابق [١] .
إلا أن المسلمين هناك ما زالوا يعانون الأمرين في واقعهم وفي الضغط على
رموزهم (العلماء المختارين بترشيح منهم) ومن ذلك: الحكم مؤخراً على أحد
العلماء بالسجن لعدة سنوات لمجرد أنه رشح خلافاً لما تراه الحكومة، التي تريد
شخصاً مشبوهاً بعينه، كما سنرى.
واقع المسلمين الآن:
بعض المغرضين لخص الوضع الذي تمر به الدولة الآن وما حل بقطاعاتها
نتيجة إخفاقات الحكومة الاشتراكية بأنه (ذنب المسلمين) ، فما المقصود من هذا؟ .
في الواقع: فإن الحكومة الاشتراكية بذكاء أو غباء، وهذا ما ستسفر عنه
الأيام بدأت حياتها الدستورية أو الحكمية بالاصطدام مع المسلمين في أعز وأهم
المواقع، وهو دار الإفتاء العام ...
إذ بتصرف مبيّت قام نائب رئيس الوزراء (شيفاروف) وبمخالفة صريحة
للدستور بالتصديق على إعادة تعيين (نديم غينتشيف) المفتي السابق، وعلى هذا
الأساس: صادق أيضاً عليه (خ. منتانوف) رئيس دائرة الأديان، ليجد بذلك (نديم
غينتشيف) فرصة سانحة ليداهم دار الإفتاء ويطرد منها المفتي المرشح من المسلمين
(فكري صالح حسن) والعاملين معه، فيما لم يلق المفتي (فكري صالح) أي اهتمام
من قبل رئيس دائرة الأديان، على الرغم من مصادقته السابقة من جانب ثلاث
حكومات متعاقبة على اعتباره مفتياً عامّاً رسميّاً للمسلمين، هذه كانت البداية غير
الموفقة على حد قول بعض المراقبين للحكومة الاشتراكية.
لكنّ آخرين يرون أنها حركة ذكية تحقق من ورائها عدة أهداف:
١- إشغال المسلمين فيما بينهم، وتحويل أنظارهم عما يعد لهم خلف الكواليس.
٢- شل حركة دار الإفتاء عن القيام بأي عمل فعال لصالح المسلمين خلال
فترة حكمها.
٣- عزل دار الإفتاء عن المعركة السياسية، وخطف ورقة قوية من يد حركة
الحقوق والحريات كانت تعتمد عليها بين وقت آخر.
٤- استغلال دار الإفتاء في تنفيذ ما لا تستطيع تنفيذه أو تحقيقه، بحجة
قانونيتها، وابتعاداً عن الواجهة.
حال المسلمين في ظل المفتي المعين:
وكان من نتيجة ذلك: أن باب الفتنة أعيد كسره، وأصبح مفتوحاً على
مصراعيه؛ فلا (غينتشيف) يستطيع تثبيت أركانه بين المسلمين، لعدم الرغبة فيه، رغم مساعدة الشرطة ومدعي عموم المناطق في تثبيت أعوانه في دور الإفتاء
هناك، ولا (فكري صالح) ومن معه يستطيعون عمل شيء.
وقد وجد (نديم غينتشيف) ضالته في هذه الفرصة، حيث بدأها بالهجوم على
الجمعيات الإسلامية وبعض العاملين فيها، وتناول الجميع بالدس والتحريض والتهم
الرخيصة وإثارة مشاعر الحكومة ضدهم، بل طالبها مباشرة بطردهم من البلاد كما
هو نهج الحكومة المقدونية على حد تعبيره ... كما باشر بتحريض مفتيي المناطق
في التصدي لكل ما هو عربي داعية كان أو موظفاً في جمعية؛ لمنعه من الاختلاط
بالمسلمين، أو أخذ حريته في العمل أو الحركة.. وبذلك: أخذ (غينتشيف) حريته، وتصرف بما هو مملى عليه في كل ما هو واقع تحت يده، وأكثر ما يخيف
المطلعين والعارفين بطبيعة الرجل: وجود مادة في الدستور المُقَر والمرخص من
الدولة ودائرة الأديان، تخوله بالتصرف في أوقاف المسلمين الغنية، وهو يردد
الآن: أنه قد خطى خطوات في هذا الاتجاه، لكنها لم تتأكد بعد، رغم تواتر الخبر
بشكل مؤكد، وهذا إن ثبت فستكون طامة كبرى.. والله المستعان..
مختصر القول: إن الوضع الدعوي والتربوي وعموم العمل الإسلامي تضرر
من ذلك المشبوه، أضف إلى ذلك: أن كثيراً من الجمعيات الخيرية التي كانت تعد
على الأصابع أصلاً، إما أنها أغلقت مكاتبها، أو قلصت من حجمها المتواضع،
أما ما بقي منها فيعيش في الظل، فلا خطة معدة، ولا رؤية مستقبلية واضحة؛ مما
ترتب على هذا: توقف الدعم عن الحلقات والأئمة المميزين أو تقلص أعمالهم،
فضلاً عن دخول بعض الشباب المتحمس دائرة الإحباط.
إننا موضوعيّاً لا نستطيع القول: إن هذا كله نتيجة عودة (نديم غينتشيف)
لدار الإفتاء فقط، بل هناك عوامل خارجية وأخرى داخلية من داخل الجمعيات
القائمة أدت لهذه النتيجة ... لكن على كل حال: مهما كان السبب، فإن المحصلة
النهائية تشير إلى أن (٢. ٥) مليون مسلم ما زالوا لا يلقون ذلك الاهتمام اللازم
واللائق من المسلمين الذي يلقاه إخوانهم المسلمون في ألبانيا على سبيل المثال لا
الحصر؛ رغم أن المسلمين البلغار يتقدمون خطوات واسعة على إخوانهم الألبان في
معرفتهم للإسلام وتقبل قطاع كبير منهم له.
المسلمون البلغار والوضع السياسي:
ومن الناحية السياسية: فالأوضاع الداخلية البلغارية التي يحكمها تصارع كافة
الفئات على منصب الرئاسة الآن، وخارجيّاً: اهتمام الدول الأوروبية بمن يفوز،
قد دفع من جديد (الورقة المسلمة) إلى دائرة الاهتمام، حيث يؤكد الجميع قاطبة أن
المرشح مهما كانت انتماءاته عليه أن يحصل على أصوات المسلمين (المرجِّحة)
حتى يصل إلى سدة الحكم، وذلك كما حصل عام ١٩٩٢م عندما فاز بفضل تلك
الأصوات الرئيس الحالي على منافسه الاشتراكي، بل حتى المعارضة الديمقراطية
تعرف أن كلا مرشحيها (ستويانوف أو جيلف) في حاجة ماسة لأصوات المسلمين
في الانتخابات الأولية.. مما أعطى قيمة للصوت المسلم وقدم ورقة تفاوضية قوية
لـ (حركة الحقوق والحريات) التي عاد إليها بريقها ولمعانها السياسي في هذه
الأجواء.
محصلة القول: إن المسلمين إن أحسنوا التصرف في توجيه الأصوات لمن
يقدم لهم الضمانات الأكثر والأكبر لنيل كافة حقوقهم: فإنهم بلا شك سيفتحون باباً
جديداً والله أعلم على مستقبل أفضل وحقوق وحريات أكبر؛ لأنهم سيقصون
الشريط في بدء إقصاء الحزب الاشتراكي عن الحكم أو السلطة بمعنى أصح..
ولكن إن تقاذفتهم الأهواء، وشغلتهم المصالح، وتناوشتهم السلبية وعدم المبالاة:
فإنهم سيفتحون على أنفسهم باباً من الشر عظيم، حيث لن ينسى لهم الحزب
الاشتراكي موقفهم ومحاولتهم القضاء عليه وإقصاءه عن الحلبة ...
المسلمون والموقف الصعب:
إذن: المسلمون في موقف صعب وحرج، لا تراجعهم أو سلبيتهم ستحميهم،
أو تعفيهم، أو حتى ستعزلهم عن نتائج المعركة.. ولا مشاركتهم ستكون بلا نتائج
أو أثمان تدفع، وأغرب ما في الأمر: أن التهديد قد طال الحركة المذكورة حتى من
جهة المعارضة، وبالتحديد: من طرف اتحاد القوى الديمقراطية، الذي أعلن أنه
لن يغفر للحركة أبداً إذا ما خسر مرشحه (ستويانوف) الانتخابات الأولية؛ لوقوف
المسلمين خلف الرئيس الحالي ... إذن: المسلمون كمن يسير على الحبال لن يسلم
إذا وقف، ولن يسلم إذا وقع.. لكن أخف الضررين إن لم يكن الرأي الأصوب:
يكمن في اتخاذ الرأي المناسب والموقف الحكيم الذي يحقق المصلحة الراجحة
والواضحة والغالبة والعامة، وبعض الشر أهون من بعض، والله (تعالى) أعلم.
ووضع المسلمين باعتبارهم ورقة مهمة اليوم، وغداً ستصبح أهم مع النتائج
المذكورة سابقاً من تراجع العنصر البلغاري، لن يروق للكائدين لهذا الدين وأعدائه
المتربصين، فقوة المسلمين قوة لتركيا، وعلى الأقل شوكة في خاصرة البلقان
المتأزم أصلاً، والكل يحسب للخط المخيف الذي يربط تركيا بمسلمي بلغاريا
ومسلمي اليونان فمقدونيا فألبانيا فالبوسنة والهرسك.. كضلعي مثلث، ضلعه الآخر
في الجمهوريات الإسلامية؛ مما يجب أن يحسب له ألف حساب.. فالمتابع
للأحداث يتأكد لديه أن الحكومة الاشتراكية ليست في غفلة عن هذا، وما سعيها
الحثيث لتقليم أظافر الحركة (رغم علمانيتها) ، والتضييق على المسلمين في كافة
المجالات بدءاً من دار الإفتاء وانتهاءً بالبلديات، وغضها الطرف عن التنصير
الجاري على قدم وساق بين المسلمين ... إلا شواهد على ما نقول.. والمسلمون
بالأمس وقبل هذه الاحتكاكات المتتالية كانوا كما يبدو قد نسوا الحقبة الشيوعية،
فعادوا لسباتهم من جديد، لكن هذه الضربات أيقظت من أيقظت منهم، ولفتت
انتباههم إلى ما يدبر ويعد لهم، ولعل (حركة الحقوق والحريات) قد فهمت مغزى
هذه التحرشات وما يرمى من ورائها، فسارعت لاتخاذ مواقف وإجراءات مضادة،
لوحت من خلالها للعدو والصديق بالإمكانات التي تملكها، والقاعدة العريضة التي
تقف من ورائها، وقدرتها على استخدامها عند الضرورة..
تحرك السلطة البلغارية على هذا المحور، ليس في معزل عن التوجه العام
في منطقة البلقان لإضعاف الأقليات المسلمة، وفرض السيطرة عليها، والمخيف
هنا: أن أمريكا تتخذ هذه الأقليات ذريعة في مماحكاتها السياسية ضد الدول
المستعصية والرافضة للانصياع للعصا أو الجزرة الأمريكية، لكن طبيعة تقلب
الأوضاع وتغير الحكومات يبقي كافة أبواب الاحتمالات خيرها وشرها مفتوحة..
لكن رغم هذا: فإنه يحدونا في الله أمل كبير أن العاقبة للإسلام وللمسلمين ... وما
ذلك على الله بعزيز.
إخفاقات الحكومة تفضحها:
العجيب المضحك في الأمر: أن الإخفاق لازم الحكومة، حتى فيما يخص
المسلمين (ولله الفضل والمنة) ؛ فهذا (راسم موسى) رئيس بلدية (كرجلي) المنتخب، أعادته المحكمة العليا إلى منصبه، لاغية قرار المحكمة المحلية بفصله، وذلك
بعد شهور خلت من الشد والجذب بين الحركة والحكومة، ومن ورائها الحزب
الاشتراكي، وبعد أن رمى الحزب ومعه (٢٩) حزباً آخرين ثقلهم أول مرة في
الانتخابات البلدية في هذه المدينة، لكنهم لم ينجحوا مرة ثانية في رفع القضية
للمحكمة المحلية التي قضت حينها ببطلان الانتخابات، ووجوب إعادتها، فقد جاء
قرار المحكمة العليا صفعة مؤلمة للحزب الاشتراكي وحكومته، واعتبرها المحللون
رسالة توددية من قبل الرئيس (جيليف) للحركة والأتراك وتركيا، لكون رئيس
المحكمة يعين مباشرة من قبل رئيس الدولة، كما رأت فيها بعض التحليلات خطوة
ذكية من (جيليف) في كسر القيد والشرط الذي طوق به اتحاد القوى الديمقراطية
عنق الحركة، حيث تعهد للحركة بالتصويت لـ (راسم موسى) في الانتخابات
البلدية عند إعادتها، إذا ما دعت الحركة أنصارها ومؤيديها للتصويت لـ
(ستويانوف) في الانتخابات الأولية، ثم الرئاسية.. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من
اقتناع جميع القوى بأهمية الورقة المسلمة.
وتلى هذا الإخفاق إخفاقٌ لم تتضح معالمه بعد، أو بمعنى أصح: لم تكتمل
بواعثه، إذ انقلب عدة أفراد من داخل مجلس الشورى، على (نديم غينتشيف)
ساعين للإطاحة به، مستندين في ذلك إلى بعض مواد دستوره الذي أشرف بنفسه
على إعداده، وقد أفلحوا في عزل مفتي منطقة (بلوفديف) ، ويتحركون الآن بهمة
ونشاط في باقي المدن، وقيل: إنهم سيرفعون قضية ضده بتهمة الاختلاس
واستغلال أموال الأوقاف..
عن ماذا ستسفر الأحداث؟ ، وماذا ستلد أيامنا الحبلى؟ ، وكيف ستجري
الوقائع؟ ،.. هذا ما سنتناوله في حديث لاحق.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(١) الأقليات الإسلامية في العالم، د محمد علي قناوي.