للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الجنوب.. مدخل الصليبية إلى السودان

مصعب الطيب بابكر [*]

قد يبدو غريباً أن نعلم أن جنوب السودان الذي يمثل الآن قاعدة صليبية حيوية

لفرض النصرانية وصد انتشار الإسلام إلى أعماق إفريقيا هو نفسه جنوب السودان

الذي دخله الإسلام قبل النصرانية بعدة قرون [١] ؛ بل إن مملكة الفونج الإسلامية

«السلطة الزرقاء» (١٥٠٠ ١٨٢١م) كانت من أصول جنوبية [٢] ، كما أن

قبائل الجنوب كانت أكثر تجاوباً مع حركة المهدي الإسلامية (١٨٨٥ ١٨٩٨م) ؛

إذ أخذت بعض القبائل بتقليد لباسها وأعلامها وصيحاتها في الحرب بصورة

عفوية، وهاجرت إليه قبائل أخرى لمبايعته طوعاً [٣] ؛ في حين أن تلك القبائل

قابلت الإرساليات التنصيرية الأولى بتوجس ونفور شديدين؛ إذ لم تفلح تلك

الإرساليات منذ مقدمها عام ١٨٤٦م ولمدة خمسة عشر عاماً في تنصير فرد واحد مع

أنها فقدت في سبيل ذلك أكثر من أربعين مُنصِّراً، وقد كتب القس (رفيجو أنطوني

ماريا) عام ١٩٠١م قائلاً: «حينما بدأ مع الأب تابي العمل وسط الشلك لم يكونوا

يريدوننا وسطهم، كانوا يكرهوننا، وحاولوا مرتين أن يقتلونا» [٤] .

غير أن هذه الغرابة ستتبدد تماماً حين ندرك مقدار المؤامرة والمكر الكبير

الذي أعاد تشكيل ذلك الإقليم، وأعده للعب دور فعال ومؤثر في صياغة هوية كل

السودان، وفي تكوين حائط ضد التوجهات العربية الإسلامية.

الجنوب: الجغرافيا والسكان:

تقدر مساحة المديريات الجنوبية بربع مساحة السودان تقريباً؛ كما يقدر

سكانها بربع مجموع السكان الكلي، ومجموع سكان السودان هو

(٢٤. ٩٩. ٠٠٠ حسب تعداد ١٩٩٣م) ، وتعيش في الجنوب أكثر من ستين

قبيلة لكل قبيلة لهجتها وتقاليدها الخاصة وعقيدتها التي تدين بها؛ إلا أن ثلثي

سكان الجنوب ينتمون إلى «القبائل النيلية» وهي (الدينكا، والنوير،

والشلك) ، بينما يتشكل الثلث الباقي من القبائل الأخرى ك (الأنواك، والأشولي،

والزاندي، واللاتوك) وغيرها. إن معظم أفراد تلك القبائل يدينون بما يعرف بـ

«المعتقدات الإفريقية» التي تتضمن الإيمان بالأرواح والسحر والشعوذة والحراب

المقدسة والأوثان. أما البقية الأخرى فلا تدين بأي عقيدة أو مبدأ سوى تلك

الحياة البدائية البسيطة.

البداية:

لم تحظ مجاهل السودان الجنوبية البعيدة باهتمام معتبر من قِبَل الممالك

النصرانية القديمة (كممالك النوبة ونبتة وكوش) ، ولا من الممالك الإسلامية

(كمملكة الفور والفونج) فيما قبل القرن التاسع عشر، كما انشغلت حركة المهدي

بالتوسع واستقرار الدولة في الشمال عن الزحف باتجاه الجنوب الذي كان يعيش في

حالة أقرب إلى الفوضى وانعدام السلطان، وباستنثاء التوافد التجاري لبعض

الأوروبيين فإن إرساليات التنصير لم تبدأ بصورة جدية إلا بعد إنشاء دائرة إفريقيا

الوسطى بأمر من البابا جريجوري السادس عشر عام ١٨٤٦م، في محاولة لاستباق

البروتستانت والتجار المسلمين إلى المنطقة، ثم توالت بعد ذلك الإرساليات

الكاثوليكية والبروتستانتية والأنجليكانية والأمريكية وغيرها في سباق شره ومحموم

للاستحواذ على تلك الأقاليم [٥] .

إن نشاط الهيئات التنصيرية في جنوب السودان طوال تاريخه وبمختلف

طوائفه وانتماءاته يهدف إلى عدة أمور يمكن من خلالها أن نفهم سر ذلك الحماس

المسعور الذي يقف خلف تلك الجهود، ومن أمثلة تلك الأهداف أو المسوغات:

١ - نظرة الحق الديني: تميزت مناطق الجنوب ببيئة جغرافية ومناخية

قاسية تسببت في هلاك عشرات القساوسة والمنصرين مما ألهب حمية الآخرين،

وأكسب القضية بعداً جديداً لتحفيز العمل الصليبي وليس تثبيطه. لقد أخذ المنصِّر

الإيطالي الشهير «دانيال كمبوني» العهد على نفسه وهو يشهد احتضار أحد

القساوسة بأن ينذر حياته لتنصير إفريقيا أو الموت على درب من سبقوه، وبدأ

القس «ليوللن قوبي» تأسيسه للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية بشعار (إعادة نصب

راية المسيح التي سقطت) ويقول: «إن على الكنيسة ألا تخلد إلى الراحة حتى

تستعيد ما كان لها مرة أخرى» [٦] ، إن دوائر التنصير تتحدث عن إقليم الجنوب

السوداني كما لو أنه ملك لهم وحدهم لا يسع أحداً أن يزاحمهم فيه رغم أن تلك

الكنائس لم تقدم لأهل الجنوب طوال قرن ونصف ما يصلح أن تنبني عليه حضارة.

إن تلك المقاطعات الآن هي أكثر مناطق السودان جهلاً وتخلفاً وبدائية مع أن تلك

الكنائس كانت تستأثر بالسلطة والدعم الحكومي والإمداد الأجنبي لفترات طويلة

كانت كافية لإحداث تغيير كبير إن أريد له ذلك!

٢ - محاربة الإسلام: إن الضغينة والحنق على الإسلام والرغبة العنيفة

لإقصائه هي أهم أهداف تلك الحملة الصليبية على المنطقة، إنها تدرك أنه لو نفذ

الإسلام إلى هناك فإن ذلك مدعاة لانتشاره في كامل القرن الإفريقي ومنابع النيل

ومنطقة البحيرات، وهي مناطق استراتيجية مهمة ومفصل حركة القارة، وهذه

ميادين لا مساومة فيها؛ ومن ثم سعت الكنيسة إلى نفي كل أثر يتعلق به من

الجنوب، لقد كتب اللورد كتشنر عام ١٩٨٢م قائلاً: «ليس من شك في أن الدين

الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً من أهالي هذه البلاد فإذا لم تقبض القوى النصرانية

على ناصية الأمر في إفريقيا فأعتقد أن العرب سيخطون هذه الخطوة، وسيصبح

لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل،

وستقع البلاد في هذه العبودية» [٧] . ويشرح القس «أرشيد كون شو» الأمر

فيقول عام ١٩٠٩م: «إن لم يتم تغيير هذه القبائل السوداء في السنوات القليلة

القادمة فإنهم سيصيرون محمديين؛ إذْ هذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض

التبشير، إنها تمتد في منطقة شرق إفريقيا في منتصف الطريق بين القاهرة

والكاب» . ثم يقول: «إن كانت الكنيسة في حاجة إلى مكان لإيوائها فهو هنا لصد

انتشار الإسلام، والقضاء على تعاليم النبي الزائف» . ونحن نقول: وهو تماماً ما

تمت التوصية به في المؤتمر الإرسالي العالمي بأدنبرة عام ١٩١٠م: «إن أول ما

يتطلب العمل إذا كانت إفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح أن نقذف بقوة تنصيرية

قوية في قلب إفريقيا لمنع تقدّم الإسلام» [٨] .

٣ - فصل الجنوب: إن مجمل السياسات الجنوبية المصيرية في عهد الحكم

الثنائي (الإنجليزي المصري) كانت تصنع في الكنيسة؛ إذ إنها تملك الحضور

الفاعل في الميدان، وتملك المعلومات الاستخباراتية من شبكات كنائسها المنتشرة

في كل النواحي، وتملك أدوات التأثير والضغط على الإدارة الحكومية، وتملك

كذلك التمويل اللازم لتنفيذ سياساتها؛ ولذا كانت توجهات الإدارة الاستعمارية تسير

باتجاه فصل الجنوب [٩] ؛ يتحدث عن ذلك السكرتير الإداري (ماكمايكل) فيقول:

«إنه من المعلوم أن تلجأ البعوث النصرانية خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد إلى

استخدام نفوذها في اتجاه فصل الجنوب» ، وعلى إثر ذلك أصدرت سياسة الجنوب

والمناطق المقفولة، كما كانت المؤسسات الإدارية الشمالية تقام بمعزل عن

رصيفاتها الجنوبية، وعملت الكنائس على إيجاد أبعاد أخرى لمسوغات الانفصال

بعد تحويل ديانة الجنوب إلى النصرانية كتعميق العنصرية، وإثارة الضغائن ضد

المسلمين من أهل الشمال، وتقوية اللهجات المحلية مع جعل الإنجليزية هي لغة

التواصل والثقافة. غير أن الإدارة الاستعمارية لأمر ما قد عدلت آخر أمرها عن

فصل الجنوب، فأصدر السكرتير الإداري (جيمس روبرتسون) في ديسمبر عام

١٩٤٦م أمراً بإلغاء سياسة الجنوب، وأقام مؤتمر جوبا عام ١٩٤٧م، ليرفع بعده

توصياته للحاكم العام بأن الجنوبيين يفضلون الوحدة مع الشمال، ولم تكن مطالب

الحركات الجنوبية أيام الاستقلال تتعدى الحكم الذاتي، وبعض المشاركة في

الحكومة المركزية.

ومهما يكن من أمر فإن قضية انفصال الجنوب قضية معقدة لا يخلو أي خيار

فيها من خسائر؛ لكن اليقين الوحيد هو أن القوى الصليبية لا تدعم وحدة راية

إسلامية ولا وحدة تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب. أما حين يكون الانفصال

فإن تلك القوى ستضغط باتجاه كسب حدود أوسع كثيراً بصورة تكفي لتحويل ميزان

الموارد الاستراتيجية ك «النفظ والثروة الحيوانية والمراعي» لصالح الجنوب، ثم

تقوم هي بباقي مهام بناء إمبراطورية صليبية هناك [١٠] .

٤ - الدستور والشريعة: من خلال الأرضية المتينة التي توفرها الهيئات

الكنسية والصليبية للحركات الجنوبية تمكنت عبرها من عرقلة أي محاولة لإقامة

دستور إسلامي أو تطبيق الشريعة الإسلامية، ورغم أن كل الأحزاب السودانية

الكبيرة لا تستصحب أي نية جادة في تطبيق حقيقي للشريعة الإسلامية، كما أنها

تلتزم باستثناء المديريات الجنوبية منها. إلا أن مجرد إدراج عبارات فضفاضة

بإسلامية الدستور أو الشريعة يعد سبباً كافياً لإثارة حملة شعواء ضدها وضد كل من

يتبناها؛ فقد اعترضت المجموعات الجنوبية على النص بأن الإسلام دين الدولة

والعربية لغتها في محاولة عام ١٩٥٧م لكتابة الدستور، وحينما تكونت اللجنة

القومية للدستور في إبريل عام ١٩٦٧م كتبت الأحزاب الجنوبية مذكرة حذرت فيها

اللجنة من خطورة أي توجه نحو تضمين مواد إسلامية في الدستور، ومن داخل

الجمعية التأسيسية في يناير ١٩٦٨م اعترض الجنوبيون على المواد المتعلقة

بالإسلام، وقال عنها العضو (وليم دينج) : «إنها الجزء المتعفن الذي يجب

إزالته حتى لا تتعفن به البقية» . لقد كانت حركة التمرد (الحركة الشعبية)

تتمسك بصلابة في كافة مفاوضاتها مع أحزاب الحكومات الانتقالية والمنتخبة بإلغاء

قوانين الشريعة التي أعلن عن تطبيقها العقيد جعفر محمد نميري في سبتمبر

١٩٨٣ م. والعجيب أن حركات التمرد الجنوبية ومن ورائها المنظمات التنصيرية

تريد أن تفرض رؤيتها الدينية على الشمال والجنوب في الوقت الذي ترفض بشدة أن

يطبق الشمال رؤيته حتى في داخل حدوده الشمالية وحدها إن كان خياره

الإسلام! !

٥ - تشكيل الهوية السودانية: لقد كانت الحركة التنصيرية تستهدف تنصير

كل السودان ابتداءً من الوثنيين والذين لا عقيدة لهم من أهل الجنوب والنوبة وحتى

تنصير المسلمين في شتى أنحاء السودان. جاء في خطط أعمال مؤتمر كولورادو

عام ١٩٧٨م: «لقد أوقفنا انتشار الإسلام في جنوب ووسط إفريقيا، وما نحتاج

إليه هو العمل لإيجاد منافذ إلى داخل الإسلام» [١١] ، لقد عملت الكنائس بجد على

إيجاد مراكز لها في الشمال رغم أن القوانين الحكومية كانت تمنع أي إرساليات

تنصيرية شمال خط عرض ١٠، وحتى الحكومة الإنجليزية نفسها لا تسمح لتلك

الإرساليات بالعمل في الشمال [١٢] إلا من خلال المدارس والمعاهد التعليمية؛ إلا أن

الكنيسة أفلحت في تكسير تلك الحواجز ومد سلطانها إلى أبعد ما تبلغه ركابها. إن

من المدهش أن نعلم أن نتاج هذا الجهد هو فقط ٥% من مجموع ثلاثين مليون نسمة؛

بينما المسلمون ٧٠%، وأصحاب المعتقدات المحلية ٢٥% كما قدرته منشورة

(CIA The world Fact back) وسوى مثل هذه التخمينات؛ فليس ثمة أي

إحصائيات موثوقة لظروف الحرب والنزوح. أما الذي حققته الكنيسة في هذا

المضمار فهو إيجاد صفوة جنوبية ذات ثقافة غربية حانقة على الإسلام بدرجة أكبر

من حنق الكنيسة ذاتها. يقول الكاتب الإنجليزي (ساندرسون) : «تحاول الكنيسة

السودانية أن تستند إلى مقاومة الإسلام مقاومة إيجابية؛ أما المقاومة السلبية فهي

عند الصفوة الجنوبية من خريجي مدارس الإرساليات تمثل واجباً دينياً مسيحياً [١٣] .

هذه الصفوة هي التي يراد لها أن تقود جموع الجنوبيين وتسيِّر حركتهم

الاجتماعية والسياسية إلى حيث تريدهم القوى الصليبية؛ ففي بوادر حركة

الإرساليات النصرانية صرح القس» دانيال كمبوني «بهذه الاستراتيجية قائلاً:

» سيتم توفير التعليم العالي للعناصر الأكثر كفاءة، والمأمول أن يتسلموا مقاليد

القيادة في بلادهم « [١٤] ، وهذا عين ما يحدث الآن. لقد استطاعت الكنيسة أيضاً

أن تحدث شرخاً غائراً في وجدان الإنسان الجنوبي تجاه الإسلام والعروبة، وكل

من يتبناها بشكل يمكن استغلاله دائماً في إثارة القلاقل وصناعة حركات تمرد

جديدة. إن الكنيسة تعمل بجهد لكسب ولاء الجنوبيين لصالحها، وتنصِّب نفسها

حارساً لمصالحهم، ومدافعاً مخلصاً عن حقوقهم ضد ما تسميه باضطهاد الدولة

والهوس الإسلامي والاستعمار الشمالي.

إن المحصلة النهائية التي تسعى لها الصليبية في السودان هي طمس كل معالم

الإسلام والعربية على مستوى التشريع والدولة، ومستوى الهيئات والمؤسسات

الاجتماعية، ومستوى قطاعات الشعب والأفراد، إنها تطمح فعلاً (لسودان جديد) ،

جاء في ورقة عمل قدمها مجلس الكنائس السوداني ضمن اجتماع مجلس عموم

كنائس إفريقيا في لومي عام ١٩٨٧م بعنوان (إنقاذ السودان) :» المناداة بضرورة

إيجاد السودان الجديد الخالي من السيطرة العربية «، ثم طالبت الورقة بدعم مجلس

الكنائس الإفريقي والعالمي لإيجاده. هذا السودان الجديد هو مطلب الحركة الشعبية

لتحرير السودان الذي تردده دائماً في بياناتها الرسمية، وهو أيضاً مطلب الحزب

الشيوعي الذي من أجل تكوينه تحالف مع حركة التمرد، ولو أصبح بأيديهم سلطة

فلن يتأخروا أبداً في فرضه وتحقيق أمل (جون قرنق) في طرد العرب المسلمين

من السودان كما طُردوا قديماً من الأندلس؛ إنه مصداق قوله تعالى: [كَيْفَ وَإِن

يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً] (التوبة: ٨) .

لقد سلكت المؤسسات الصليبية كل السبل التي تحقق أطماعها بلا حدود أو

حقوق أو تسامح، وتصرفت وكأنها تأخذ ثأراً قديماً لها مع الإسلام، وهذه الأساليب

نوجز منها ما يلي:

١ - سياسة الجنوب:

بدأ التنفيذ الصارم لما يعرف بسياسة الجنوب في يناير ١٩٣٠م [١٥] ، إلا أن

البدايات العملية لها استؤنفت قبل ذلك التاريخ بكثير؛ ففي عام ١٩١٧م استُبدل كل

الجنود الشماليين بجنوبيين، وفي ١٩١٨م اعتُمدت الإنجليزية لغة رسمية وجعل

الأحد عطلة أسبوعية، وفي ١٩٢٢م وما بعدها أصدر قانون المناطق المقفولة الذي

مُنِع بموجبه الشماليون المسلمون من دخول المناطق الجنوبية، وبموجب تلك

السياسة فإن الإدارة الاستعمارية عملت على:

١ - محاربة اللغة العربية والأسماء الإسلامية وقصر التعامل على الإنجليزية.

٢ - محاربة الشعائر والعادات الإسلامية وكل ما يتعلق بها من زي أو هندام.

٣ - طرد الشماليين تجاراً وإداريين.

٤ - إعادة العمل بالأحكام القبلية وإحياء اللهجات المحلية.

لقد كانت الحكومة تعاقب بشدة كل من يضبط وهو ينطق العربية أو يؤدي

شعائر إسلامية؛ كما كانت تفضل أن يظل الجنوبيون عرايا على أن يلبسوا أزياءً

إسلامية أو شمالية، وكانت تستعمل أرقاماً معينة لمناداة كل من يرفض تغيير اسمه

إلى اسم غربي أو قبلي [١٦] ، لقد أخليت تلك المناطق تماماً إلا من النفوذ الكنسي

الذي أسندت إليه شؤون الإدارة والتشريع والتعليم والتوجيه، والانفراد الكامل لربع

قرن بتشكيل ثقافة ذلك المجتمع وتوجهاته.» إن الحكمة وراء سياسات المناطق

المقفولة تكمن في نشر الجهد التمديني التنصيري على كل ميادين جنوب السودان

الممتد «كما يقول» روبت هاو «حاكم السودان العام في تلك الفترة [١٧] . إذن فهو

غزو صليبي تقوده الحكومة الإنجليزية، وليست القضية تراتيب إدارية أو أطماعاً

اقتصادية أو أي شيء آخر، ولا يمكن لعاقل أن يدّعي بأن هذا الاضطهاد والتطهير

العرقي، هو نوع من الديمقراطية والتسامح الذي يجب على الإسلام وحده أن يتحلى

بهما.

٢ - إثارة الحقد والبغضاء ضد الإسلام:

لقد دُجّن الطلاب الجنوبيون باعتبارهم مسيحيين في المدارس الإرسالية التي

كان وحدها في الساحة، وكانت المسيحية تُمَثَّل بأنها ديانة متفوقة، ولم يكن من

الصعب بناء أحقاد جنوبية ضد الشمال في مدارس الجنوب التي كانت يدرس في

تاريخها دوْر العرب في شراء وبيع الأفارقة كرقيق [١٨] ؛ وهذه شهادة الوزير

السابق وأحد قادة التمرد السياسيين (بونا ملوال) ، وهو نفس ما أكدته لجان

التحقيق في اضطرابات أغسطس ١٩٥٥م [١٩] التي كانت بداية التمرد المسلح.

لقد عملت الكنيسة بخبث على ربط الإسلام بتجارة الرق؛ في حين أن التجار

الغربيين هم أصحاب هذه التجارة [٢٠] ، وعملت على إذكاء نار التفريق العنصري

وإلصاقه بالإسلام؛ بينما لا تتحدث مطلقاً عما في كتابهم المحرف (الكتاب المقدس

الإصحاح التاسع) : عن حام جد الأفارقة:» فلما استيقظ نوح من خمرة علم به

ابنه الصغير فقال: عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك إله سام وليكن كنعان

عبداً لهم «. لقد صورت الكنيسة الدعوة إلى الإسلام على أنها حرب عنصرية ضد

الجنوبيين، وأنه لا مناص من الانضمام إلى صف الكنيسة من أجل بقائهم، وأن

كل جنوبي هو بالضرورة مضطهد من المستعمرين الشماليين الذين تعمل الكنيسة

على محاربتهم من أجله [٢١] . وهكذا استطاعت الكنيسة أن تضمن تشبث تلك

المجموعات بها بنفس القدر الذي تضمن به شحنها ضد أي نشاط دعوي يمكن أن

يبذله المسلمون.

٣ - رسل الحرب والسلام:

تمارس الكنيسة والمنظمات التنصيرية لعبة الحرب والسلام، كلاعب محترف

لا يفرط أو يتهاون في مكاسبه أو مبادئه، ولكنه أيضاً لا يضيّع فرص تكريسها

وتأمينها؛ فمنذ عام ١٩١٠م، أسس الجنرال» ونجت «الحاكم العام» الفرقة

الاستوائية «على أساس ديني وعنصري [٢٢] ؛ بحيث تكونت فقط من الجنوبيين

المتنصرين من أبناء الإرساليات لتكون أساساً لجيش يمكن استعماله ضد أي انبعاث

يحمل توجيهات الإسلام الجهادية في الشمال، كما يقول الكاتب الإنجليزي

» روبرت كولنس «، وهي نفس الفرقة التي تمردت في أغسطس ١٩٥٥م بعد

أن اجتمع بهم القس» بلم تري «وبارك مساعيهم لذبح الشماليين [٢٣] . ثم

استمرت الكنيسة من بعد في احتضان كل حركات التمرد الجنوبية من رابطة

السودان المسيحية (SCA) إلى الاتحاد الوطني للمناطق المقفولة بالسودان

الإفريقي (SACDNU) إلى الاتحاد الإفريقي» سانو « (SANU) ومنظمة

الأنانيا ثم أخيراً الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) والفصائل المنشقة

عنها. توفر الكنائس لهذه الحركات الدعم المباشر والدعم الحكومي عبر جماعات

الضغط التي تمثلها، كما توفر لها الخبراء العسكريين والتغطية الإعلامية،

وهناك أكثر من ١٦٠ منظمة وهيئة إغاثية تعمل بهذا الاتجاه الذي يشمل أيضاً

التسليح والإمداد التقني المساعد. نشرت مجلة (نيوزويك) في ١٠/٤/٢٠٠١م

تقريراً عن جنوب السودان بعنوان» جنود المسيح «قالت فيه: إن الحرب في

جنوب السودان أصبحت حرباً صليبية، وذكرت أن منظمة واحدة فقط هي

» الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية «:» قد وفرت بلا علم الحكومة السودانية

طبعاً مبلغ ١٧ مليون دولار للجهات التي تعمل في السودان، ثم ذكرت أن أكثر تلك

المنظمات حظوة هي «برنامج المساعد الشعبي النرويجي» الذي وصفه تقرير طلبته

الحكومة النرويجية بأنه «يتجاوز حدود ما يعتبر أعمالاً إنسانية» ! ! إذن ما تقوم

به هذه الإغاثات الموجهة ليس إلا خط إمداد حربي وإدارة تجسس استخباراتية

تلعب دورها في الحرب، كما تلعب دورها في السلام. أما السلام فلم يكن يعني

أكثر من محاولة الحصول على المزيد من الفرص لتمكين المشروع الصليبي في

السودان. إن المجالس الكنسية تكاد لا تغيب عن أي من المفاوضات مع حركات

التمرد كراعٍ لها أو مراقب فيها. وحينما أبرمت اتفاقية (أديس أبابا) في فبراير

١٩٧٢م برعاية الإمبراطور النصراني هيلاسي لاسي كانت قد خرجت تلك

المجموعات التي مهدت لهذه الاتفاقية بضمانات كافية بعدم نشر الثقافة العربية

والإسلامية في الجنوب [٢٤] ، وعلى إثر هذه الاتفاقية أقام السودان لأول مرة علاقات

دبلوماسية مع الفاتيكان في أغسطس عام ١٩٧٢م، وقد بدا حينها أن الاتفاقية لا

تعدو أن تكون (صفقة) تتنازل الحكومة بموجبها عن الجنوب للكنائس؛ ومن

ثم تتم إعادة إنتاج نسخة أخرى من (سياسة الجنوب) التي نفذت إبان الحكم

الثنائي.

الحركة الشعبية المتمردة والأحزاب السودانية:

ظهرت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في يونيو ١٩٨٣م بتمرد الكتيبة

«١٠٥» في بور والبيبور، وانضم إليها فيما بعد العقيد «جون قرنق» الذي

انفرد بزعاماتها، وقد هدفت الحركة من حين إنشائها إلى توحيد كل القطر تحت

كيان «السودان الجديد» ، وعرفت الحركة يومئذٍ بتوجههم الشيوعي [٢٥] ؛ فقد

كانت تعتمد على دعم نظام «منجستو هايلا مريم» الماركسي، كما كانت تدرّب

مقاتليها في كوبا، وكان لها عدة مواقف عدائية ضد الإرساليات في تلك الفترة، إلا

أن الحركة أخذت في اتباع نهج نفعي «براجماتي» متلون بلون ظروف الخطاب

وميزان القوى؛ ومن هنا خرج التحالف المقدس «بينها وبين الكنائس والمنظمات

الصليبية العالمية والذي كان لا بد له أن يحدث حتى تحقق أطراف المؤامرة مراميها

وأهدافها التي تتوازى إن لم تتطابق باتجاه القضاء على الإسلام، وهو ما صرح به

العقيد المتمرد» جون قرنق «أكثر من مرة أحدها في مقابلة له في» نيويورك

تايمز «بتاريخ ٣/٣/١٩٩٦م مجيباً عن سؤال مراسلها عن سبب طول أمد الحرب؟

قال:» إن الأجندة العربية والإسلامية تأتي في مقدمة الأسباب «. وعداء الحركة

الشديد لهذه الأجندة هو سمت أصيل في نهج الحركة لا يغيب أبداً عن خطاباتها

التعبوية لمقاتليها، ولا عن نمط الأدبيات التي تنشرها، ولا عن جولات التفاوض

التي تخوضها.

أما الأحزاب السودانية فلها شأن آخر تماماً، شأن يشبه التنافس والتفنن في

التملق للحركة ومن يقف وراءها؛ إذ إنها تبدي شجاعة نادرة في عقد الاتفاقيات

والمبادرات ومذكرات التفاهم مع حركة التمرد لمجرد كسب مناورة سياسية أو تكتيك

ظرفي أو مكايدة حزبية كأنما ليس لتلك الأحزاب أي مبادئ أو ثوابت يمكن أن

تخسرها؛ فهي على استعداد دائم للمساومة على أي شيء مهما بلغت درجته؛ فبعد

سقوط نظام (مايو) توصل (التجمع الوطني لإنقاذ الوطن) لاتفاق مع حركة

التمرد في مارس ١٩٨٦م سمي بـ» إعلان كوكادام «نص على ضرورة إلغاء

قوانين الشريعة التي أعلن عنها النميري، وفي نوفمبر ١٩٨٨م أبرم الحزب

الاتحادي الديمقراطي ما عرف بـ» مبادرة السلام السودانية «واتفق فيها على

تجميد العمل بأحكام الشريعة الإسلامية أيضاً، ومن المفارقات المدهشة أن الحزب

الاتحادي حينما كان يمجد (المبادرة) ويتغنى بمحاسنها كان طرفها الآخر يقيم ندوة

في» مركز بروكنز «بواشنطن بتاريخ ٩/٦/١٩٨٩م تحت عنوان:» الحرب

الأهلية في السودان وآفاق الثورة «قال فيها العقيد المتمرد» قرنق «:» إن هدف

الحرب في الجنوب هو القضاء على الأقلية العربية المزيفة «، وقال عن اتفاقيتي

كوكادام والميرغني:» إنها تكتيكات مكملة للثورة «. وعندما سأله أحد الصحفيين:

لكن هذه الزعامات الشمالية وقعت معكم على اتفاق السلام؛ فلماذا الحرب إذن؟

أجاب قرنق:» لا خيار لهم سوى ذلك؛ هذه حركة التاريخ: إما أن يذعنوا لها،

أو سوف يسحقون! «.

أما حزب الأمة فقد وقع أيضاً مع الحركة» اتفاق شوكدوم «عام ١٩٩٤م،

وكان فصل الدين عن الدولة أحد بنوده، ثم خرج بعد ذلك» إعلان أسمرا «في

يونيو ١٩٩٥م بين فصائل» التجمع الوطني «والتمرد تضمن هو الآخر فصل

الدين عن الدولة ومنع قيام أي حزب على أساس ديني، وفي أكتوبر ١٩٩٦م تولى

» قرنق «رئاسة قوات التجمع الوطني الديمقراطي، ولكن الأمر أخذ بعداً جديداً

بعد توقيع» مذكرة تفاهم «بين التمرد والمؤتمر الشعبي الذي يقوده الدكتور حسن

الترابي في ١٩/٢/٢٠٠١م، والذي صرح في مؤتمر صحفي عقب إعلانه لهذا

الاتفاق:» إن الخلاف بين المؤتمر والحركة الشعبية في قضية فصل الدين عن

الدولة ليس خلافاً استراتيجياً «، وقال:» إن جون قرنق ليس بذلك العلماني

المتطرف «، وهذا الموقف هو نتاج طبيعي لأزمة حادة في البناء الفكري والأداء

السياسي، وفي فقه الوسائل والغايات عند كثير من الحركات التي ترفع شعارات

إسلامية.» أزمة حقيقية «أن تعيش تلك الحركات للحظتها وظرفها فقط مبتورة

عن الماضي الذي تهتدي به والمستقبل الذي تبني له،» مصيبة «أن تحسم

القضايا الكبيرة بعقلية الثأر الشخصي والكيد للآخرين، وبغير علم ولا هدى ولا

كتاب منير.

وجملة القول أن الرابح الوحيد من هذه الاتفاقيات هو حركة التمرد بينما

تتسابق الأحزاب في تكميل برنامج الحركة الثوري، والإذعان التام لمطالبها،

وإصدار شهادات الإشادة لها حيناً بعد حين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الدور اليهودي:

من الناحية التاريخية كان السودان من بين الدول المرشحة لتوطين اليهود قبل

فلسطين؛ فقد كتب اليهودي» واربورت «الخبير بشؤون الفلاشا عام ١٩٠٠م

اقتراحاً إلى اللورد» كرومر «في القاهرة بذلك، وقدّم يهودي آخر هو» أبراهام

جلانت «نفس الاقتراح عام ١٩٠٧م إلى رئيس (المنظمة الإقليمية اليهودية J. T

. O) [٢٦] . إذن فقد كان السودان محط اهتمام يهود منذ الشتات ولكن كان من

المؤكد أن الاهتمام اليهودي بالسودان سينهمر على الجنوب، على صنيعة القوى

الصليبية هناك؛ حيث ستجد الأرضية المهيأة لتحقيق أطماعها في السيطرة على

منابع النيل وإيفاء وعد إسرائيل الكبرى، وقد أدركت الحركة الشعبية لتحرير

السودان ذلك جيداً، فتفانت في نسج خيوط التقارب والتعاون معها، وبدأت زيارات

زعمائها تتكرر إلى إسرائيل، واستطاعت إسرائيل أن تدرب حوالي عشرين ألف

مقاتل متمرد على حدود أوغندا الشمالية، وأن تقيم جسراً جوياً إلى مناطق التمرد

في مارس ١٩٩٤م، كما أنها توفد باستمرار خبراءها العسكريين لمساعدة المتمردين.

إن أواصر هذا التعاون تظهر بصورة أكبر حين نعلم أن من بين قادة التمرد

(ديفيد بسيوني) اليهودي الأصل [٢٧] ، والذي كان مرشحاً لرئاسة حكومة

» الجنوب «التي أعلن عن تكوينها التمرد في أبريل من هذا العام ٢٠٠١م، وفي

أواخر العام الماضي أعلن متحف محرقة ضحايا النازية» الهولوكوست «في

نيويورك تضامنه مع الجنوبيين المسيحيين وقال: إنهم يتعرضون للإبادة الجماعية

والتطهير العرقي. وكون لجنة تعرف بـ» لجنة الضمير «يرأسها اليهودي

» جيري فاولر «لهذا الغرض، وأقامت اللجنة معرضاً ملحقاً بالمتحف عن» مآسي

حرب الجنوب «كما يبذل اللوبي اليهودي مع اليمين الديني ضغطاً منظماً على

الإدارة الأمريكية ومجلس الشيوخ لتبني مشروع حركة التمرد.

بقي أن نشير هنا إلى طرفة سياسية إن صح التعبير تسوِّغ أو تدعم هذا

التحالف مع اليهود وهي عبارة عن دراسات ومقالات منها ما كتبه جنوبي اسمه

» بول فاك «بعنوان:» نظرة تاريخية لثقافات الدينكا وتراثهم «تتحدث عن

أن القبائل النيلية ترجع إلى أصل» جيل Jiel «الذي ربما ينحدر من نسل

يعقوب عليه السلام؛ ومن ثم فهي قبائل سامية ذات أصل إسرائيلي! ! [٢٨] ؛

وبغضِّ النظر عن ثبوت هذه الدراسات فإن حركة التمرد تعمل بجد على الفوز بوضع

يماثل وضع إسرائيل على خريطة الدعم والمساندة الأمريكية وإن لم يتم قبلوهم

بوصفهم ضمن شعب الله المختار!

الدور الأمريكي المنتظر:

يبتدئ دور أمريكا البارز مع حركة التمرد عندما انهار الاتحاد السوفييتي

وسقط» نظام منجستو «وتخلت الحركة عن مشروعها الشيوعي عام ١٩٩١م [٢٩] ،

وهو يتمثل على صعيدين:

أولاً: من خلال المؤسسات والمنظمات الطوعية وأيدي العمل الخفية، والدعم

السري للحركة، وهو عطاء سخي لم ينقطع، ويجري برضى الإدارة الأمريكية

وتحت بصرها.

ثانياً: عبر الدبلوماسية الرسمية والسياسات العلنية للحكومة؛ وهذه تقع تحت

تأثير اللوبي الصهيوني واليمين الديني المتشدد الذي يرعى سيادة الصليب على

العالم، ويحمي الحقوق النصرانية بآلة الدمار الأمريكية. لقد أعلن بوش الابن في

٢٢ مارس من هذا العام قائلاً:» سنتصدى لحفظ كرامة الإنسان وضمان الحريات

الدينية في كل مكان في العالم من كوبا إلى الصين إلى جنوب السودان «. وقال

أيضاً في ٣ /٥/٢٠٠١م:» إن الحريات الدينية هي أكثر ما يتعرض للانتهاك في

السودان «. ومن غير المعقول ولا المعهود أن يقصد بـ» الحريات الدينية «أي

دين آخر غير النصرانية، وهي لهجة صليبية متعصبة ربما لو صدرت عن أحد

الحكام أو القيادات المسلمة لأثارت زوبعة انتقادات عنيفة، وعدت خروجاً سافراً

عن مهام الدولة وأدب الدبلوماسية.

إن ما هو منتظر من أمريكا لن يخرج عن صميم دينها وثقافتها التي تحرص

بكامل عتادها على نشرها والتمكين له، وإن لبست مسوح الزهاد وتظاهرت بالحياد.

إنها لا تجرؤ على تخطي مؤسسات الضغط الصليبية والصهيونية والخط العريض

من النصارى الملتزمين، وهي لا تملك أن تتخلى عن المسؤولية التاريخية في

نصرة أتباع ملتها الذين يمثلون الامتداد الطبيعي لمصالحها ومشاريعها في أنحاء

الأرض، ولن تكون أمريكا أبداً أقل تعصباً لدينها أو حمية لنصرانيتها من مورثتها

بريطانيا التي عقدت مشكلة الجنوب وحرفتها إلى حرب صليبية ضد الإسلام يوم

كانت تملك كل أوراق الحل؛ فكيف بأمريكا اليوم وهي لا تملك إلا بعضها؟

ومما لا ريب فيه أن القوى الصليبية التي تبدو كأنها تدق أجراس حرب جديدة

لن تكتفي أبداً باستثناء أقاليم الجنوب من تطبيق الشريعة ولو كان تطبيقها أصلاً

على نحو متساهل، ولن تكتفي باستضافة زعماء الكنائس العالمية كما حدث للبابا

في ١٠/٢/١٩٩٣م الذي أقام في السودان لمدة تسع ساعات، واجتمع بالنصارى في

ساحة المناسبات الرسمية بوسط العاصمة، وأدوا طقوسهم بكامل الحرية، ولن

تكتفي تلك القوى بإلغاء قانون الهيئات التبشيرية في ٤/ ١٠/١٩٩٤م، وهو قانون

أصدره الرئيس السابق إبراهيم عبود للحد من النشاط الكنسي ونفوذ الإرساليات،

ولن ترضى أيضاً بإقامة مؤتمر حوار الأديان في ٧/١٠/١٩٩٤م وما تمخض عنه

من جمعيات ودراسات تدعو» للمذهب الإبراهيمي «، ولن يرضيها إدخال القسس

والنصارى في قيادة الحزب الحاكم والدولة. لن ترضى عن كل ذلك وأكثر من ذلك

لسبب بسيط هو أن ذلك سيغدو» خطوات استعراضية «ليس إلا، ووزير

الخارجية الأمريكية كولن باول» يريد خطوات عملية جادة وليست خطوات

استعراضية «كما صرح في أواخر أبريل من هذا العام الفائت، ولم يبق للوزير

الأمريكي إلا أن يقرأ علينا قوله تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى

حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: ١٢٠) ، وحينها فقط يمكن أن نضع النقاط على

الحروف، ونبحث عن أطراف المؤامرة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


(*) الخرطوم - السودان.
(١) مشروع تنصير السودان في الماضي والحاضر، د حسن مكي، إصدار المركز الإسلامي الإفريقي، عام ١٤١١هـ ١٩٩١م، ص ٤٤.
(٢) التنوع العرقي والسياسة الخارجية، د محجوب الباشا، مركز الدراسات الاستراتيجية، ١٤١٨هـ، ص ٨٦، والإسلام والعروبة، د عون الشريف قاسم، دار الجيل ١٤٠٩هـ، ص ١٢.
(٣) البعد الديني لقضية جنوب السودان، دكتور عبد اللطيف البوني، مركز الدراسات الاستراتيجية، ١٩٩٦م، ص ١١، وهو ما أخرجه السياسي الجنوبي فرانسيس دينق في كتابه:» صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان «، مركز الدراسات السودانية، ١٩٩٩م، ص ٥٢، ٢٤٤.
(٤) مشروع تنصير السودان، ص ٢١، ص ٤٦.
(٥) مشكلة جنوب السودان: خلفية النزاع، دار الجيل، ١٩٨٣م، الدكتور محمد عمر بشير، ص ٤٧.
(٦) مشروع تنصير السودان، ص ٣٥، ٤٦.
(٧) السودان في عهد الحكم الثنائي، لبيب رزق، ص ٢٠٩، نقلاً عن» البعد الديني لقضية جنوب السودان «، ص ١٢.
(٨) مشروع تنصير السودان، ص ٥٤، ٦٥.
(٩) انظر فيما يتعلق بقضية فصل الجنوب وأطوارها وما يتعلق بها» مشكلة جنوب السودان طبيعتها وتطورها «الدكتور مدثر عبد الرحيم، الدار السودانية، ١٩٧٠م، ص ٤٠ ٦٦ ٦٩ ٧١، ومشكلة جنوب السودان وخلفية النزاع، ص ١٣٩، والديمقراطية في الميزان، للوزير محمد أحمد المحجوب، جامعة الخرطوم، ص ٢١١.
(١٠) عن هذا الفصل راجع: البعد الديني لقضية جنوب السودان، ص ٢٥، ٤٢ ٤٨، ومجلة دراسات استراتيجية، عدد (٧) نوفمبر ١٩٩٦م.
(١١) مجلة دراسات إفريقية، يناير ١٩٩٩م.
(١٢) يقول اللورد كرومر بعد نقله لضغط الكنائس عليه:» لا أمانع في السماح للمبشرين بمزاولة نشاطهم بين الوثنيين من سكان الأقاليم الاستوائية أما أن يطلق لهم العنان في الوقت الحاضر بين مسلمي الشمال المتمسكين بدينهم فتصرف أحمق يوشك أن يكون جنوناً «، مشكلة جنوب السودان، الدكتور مدثر عبد الرحيم، ص ٣٦.
(١٣) مشروع تنصير السودان، ص ٧٩.
(١٤) المرجع السابق، ص ٢٣.
(١٥) دور الحرب والسلام في جنوب السودان، عبد الوهاب محمد بكري، نشر دار البلد، ١٩٩٧م، ص ٥، ومشكلة جنوب السودان: خلفية النزاع، ص ٩٤ ٩٨، فيما يتعلق بسياسة الجنوب والمناطق المقفولة.
(١٦) انظر تفاصيل تلك السياسات في مشكلة جنوب السودان طبيعتها وتطورها، ص ٤٩.
(١٧) مشروع تنصير السودان، ص ٦٧.
(١٨) المرجع السابق، ص ٧٢.
(١٩) مما جاء في التقرير خطاب أرسله أحد رجال الإرساليات الكاثوليكية لأحد الطلبة الجنوبيين:» إن قصة تجار الرقيق تؤكد المقت التام لتلك الديانة الشريرة التي ليس لها رادع خلقي والتي تشمل بين معتنقيها تجار الرقيق تقرير لجنة التحقيق الإداري في حوادث الجنوب، ١٩٩٥م، إصدار مركز الدراسات السودانية، ص ١٠.
(٢٠) انظر: مشكلة جنوب السودان خلفية النزاع، ص ٤٢ ٤٥، وهو ما نقله فرانسيس دينق عن «مابريال واربرج» في كتابه (صراع الرؤى) ، ص ٧٧، وقد نقل سير ونجت الحاكم عن غوردون إباحته للرق ورغبته في ضمهم لصفوفه في مذكراته عشر سنوات في معسكر المهدي، ص ٣١.
(٢١) من الشواهد على هذا المنهج ما كتبه «دينق» في صراع الرؤى نزاع الهويات في السودان، ص ١٩٤ ١٩٨، ومواضع أخرى من الكتاب وفرانسيس دينق مثقف جنوبي يعمل باحثاً في معهد بروكنز الذي له علاقة وطيدة مع CIA، ويعمل مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهو من المتعاطفين جداً مع الحركة وأحد منظريها.
(٢٢) مشكلة جنوب السودان، خلفية النزاع، ص ٩١.
(٢٣) البعد الديني، ص ٢١.
(٢٤) البعد الديني، ص ٥٧.
(٢٥) هذا التوجه هو الذي نص عليه «المنافستو» الذي أصدرته الحركة لخطة إنشائها، وما زالت الحركة الشعبية تحتفظ بتحالفها مع بقايا الشيوعيين حتى الآن.
(٢٦) مجلة دراسات استراتيجية، العدد (٦) يوليو، ١٩٩٦م.
(٢٧) ديفيد بسيوني هو أحد أبرز منسقي علاقات الحركة مع إسرائيل والبيت الأبيض، وهو ابن يهودي سوداني تزوج من إقليم أعالي النيل الجنوبي، وعمل وزيراً في حكومة الجنوب في عهد مايو، ثم هاجر إلى إسرائيل بعد إعلان تطبيق الشريعة.
(٢٨) صحيفة «الرأي العام» ، ١ مايو ٢٠٠١م.
(٢٩) جنوب السودان، آفاق تحديات، جون قاي تون يوه، ص ١٨٣، ص ٢٣٢.