للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قديم جديد

الحرب الصليبية في البلقان [*]

قد عرف كل قارئ وكاتب وواع وسامع حقيقة ما تسميه أوربا (المسألة

الشرقية) وهو إزالة دولة الإسلام من الشرق - وبعبارة أخرى من الأرض -وجعلها

قسمة بين الدول الغربية- وبعبارة أخرى المسيحية - وأول ما يهمهم من بلاد

المسلمين ما كان منها في أوربا فإن من طباع الأوربيين وغرائزهم الموروثة شدة

العصبية على من لم يكن منهم وعدم احتمال وجوده بينهم. بل كانوا لا يحتمل

بعضهم من بعض مخالفة في دين ولا مذهب، ولذلك أبادوا الوثنيين من أوربا لما

صار أكثرهم نصارى، وأبادوا المسلمين في غربي (الأندلس) ولا يزالون يعملون

لإبادتهم من شرقيها (تركية أوربة) .

... كانت الدولة العثمانية أقوى من جميع الدول الأوربية بأساً، ولكنها لم

تكن قط أقوى عقلاً ورأياً، فكانوا يستفيدون من قوتها بحسب دهائهم، حتى صاروا

بارتقاء العلوم والفنون وما يترتب عليها من الصناعات أقوى منها. حينئذ طفقوا

ينتقصون بلادها من أطرافها، فأزالوا سلطانها عن بلاد اليونان والرومان والبلغار،

وأسسوا من البلاد التي كانت لها عدة إمارات وممالك بجوارها تأسيساً تدريجياً،

وأخذوا على عاتقهم حمايتها منها، فإذا أغارت إحدى هذه الإمارات أو الممالك على

شيء من بلاد الدولة حتى عندما كانت تحت سيادتها ساعدتها أوربا على امتلاك ما

أغارت عليه، وإذا وقعت حرب انتصرت فيها العثمانية وأخذت شيئاً من بلاد إحدى

هذه الممالك ردته أوربا إليها ولم تسمح للعثمانية بأن تستفيد من انتصارها شيئا.

والأصل في ذلك القاعدة المتفقة (كذا، والصحيح المتفق) عليها بين دول أوربا كافة، ونقل عن اللورد سالسبوري التصريح بها وهي «ما أخذه الصليب من الهلال لا

يعود إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب» .

... وقد صرح بعض ملوك التحالف البلقاني ووزراؤه بأن هذه الحرب

صليبية محضة المراد منها إنقاذ المسيحيين من سلطة «الترك الكافرين»

وصرحت الدول العظمى في أول الأمر عندما كن يعتقدن أن الدولة العثمانية أقوى

من البلقانيين ويرجى أن تنتصر عليهم بأنهن لا يسمحن للغالب في هذه الحرب بأن

يأخذ شيئاً من ملك المغلوب، بل يجب أن تبقى البلاد كلها على حالتها الحاضرة

التي تواثقت الدول كلها على حفظها. فلما ظهرت بوادر الغلبة للبلقانيين على الترك

بدا لهم، ولم تخجل دولة ولا جريدة لدولة من التصريح بأنه لا يمكن حرمان دول

البلقان من ثمرة انتصارها.

هذا قول إجمالي وجيز في تصرف أوربا في الدولة العثمانية إلى هذا اليوم،

وهو تصرف العاقل الحكيم في القاصر الجاهل. وإنني أعتقد أن أوربا لم تكن في

الماضي ولا في الحاضر شراً علينا من أنفسنا، ولو وجد في الدولة عقلاء مصلحون

لتيسر لهم النهوض بها بمساعدة أوربا نفسها، ومن لا يصلح نفسه لا يصلحه غيره. والدولة تعرف في الجملة ما هي أوربا وهي الآن منها كالمريض بين يدي

ممرضه الذي يعالجه عند شدة الألم بالمورفين الذي يسكن آلامه في الحال، ليسلبه

الحياة في الاستقبال، ولكنه لا يرى نفسه في غنى عنه، فهي تلقي نفسها بين يدي

أوربا، وتقول لها: تصرفي كيف شئت ولكن تكرمي بالرفق واللين.

البيان: هذه هي سياسة أوربا الآن لم تتغير ولن تتغير أبداً، فكل ما يأخذه

الصرب من المسلمين في البوسنة فهو حلال، ولو انتصر المسلمون لأوقفوا القتال

بحجة عدم اعتداء دولة على دولة.


(*) المنار مجلد ١٥/جزء ١١ ص ٨١٧-٨١٨.