[العلمانية]
محمد إبراهيم مبروك
بداية أرجو من أخي القارئ ألا يضن بالجهد في متابعة هذه الدراسة؛ فبذل الجهد يُطلب بقدر خطورة الموضوع المطروح، ونحسب أن الجميع يسلّمون بأن قضية العلمانية هي أخطر قضية تواجه العالم الإسلامي منذ عقود طويلة؛ حيث إن أخطر القضايا المتعارف عليها مثل إقامة الحكم الإسلامي أو الصراع مع الغرب أو المشروع الحضاري ما هي إلا قضايا تتفرع عنها.
لكل ما سبق فليجعل أخي القارئ جهده في المتابعة قُربة إلى الله، ولا يطمئن لكفاية إدراكه للمفاهيم التقليدية الشائعة عن العلمانية، فسوف نثبت بإذن الله خطأ الكثير منها وخطورة الاعتماد عليها، وسوف نحاول أن نعرض ذلك بأبسط طريقة ممكنة؛ ولكن بشرط ألا تخل بعمق الموضوع.
- المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية:
لن نقف كثيراً عند خطأ التعريف الشائع للعلمانية بأنها «فصل الدين عن الدولة» لأن هذا التعريف لا يتحدث عن العلمانية كرؤية مبدئية أو طريقة في التفكير، وإنما يتحدث عن تطبيق جزئي لها يتفرع عن تطبيقها الأساسي «فصل الدين عن الحياة» . وما نراه أن الإسلاميين بوجه عام قد تجاوز وعيهم هذا التعريف القاصر للعلمانية.
وما نراه أن أهم المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية تتحدد في التالي:
- أن العلمانية ما هي إلا مذهب من المذاهب.
- أن العلمانية نشأت كرد فعل لاستبداد الكنيسة الغربية، واضطهاد العلماء والمفكرين في العصور الوسطى.
- أن العلمانية صنيعة الصليبية الصهيونية العالمية.
وسيتم إبراز خطأ هذه المفاهيم الشائعة من خلال عرضنا العام للموضوع، ولا يتسع المجال هنا لإيراد المصادر الأساسية لتلك الكتابات الإسلامية ومناقشتها وإن كنا نرى أن ذلك يعود في الأساس لعدم دراسة تطور الفكر الفلسفي الغربي بشكل كاف، والتثاقل إلى الأرض في الجهاد الفكري بالركون إلى نقل المواقف والرؤى الفكرية عن السابقين.
- التعريف اللغوي والمصطلحي:
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوروبية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سيكولوم saeculem» وتعني العصر أو الجيل أو القرن. أما في لاتينية العصور الوسطى فإن الكلمة تعني العالم أو الدنيا.
ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية: سكيولار: secular
١ - ينتمي للحياة الدنيا وأمورها.
٢ - مدني وعادي وزمني.
٣ - ينتمي إلى هذا العالم الآلي والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي.
٤ - يهتم بهذا العالم وحسب.
٥ - غير روحي.
أما كلمة العلمانية «سكيولاريزم secularism» فقد عرَّفها المعجم تعريفاً شاملاً هو: «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة الدنيا، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى» (١) .
ولقد استخدم المصطلح لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عام (١٦٤٨م) عند توقيع صلح (وستفاليا) وبداية ظهور الدولة القومية، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة؛ إذ أشار إلى نقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطات سياسية غير دينية.
وبحسب الدكتور عبد الوهاب المسيري فإن أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث هو جون هوليوك (١٨١٧ ـ ١٩٠٦م) فعرَّف العلمانية بأنها: «الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض» (٢) .
- تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري:
يتضح مما سبق تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري حتى لو أُخذ الأمر باعتبارها قد نشأت في عصر النهضة على حد قول من يذهبون إلى ذلك. وما نراه أنه لا بد أن نعود إلى قرون طويلة إلى الوراء لإدراك هذا الواقع الفكري، ولنستطيع على أساس تعريف العلمانية تعريفاً أكثر تحديداً مما ورد في القواميس الغربية خصوصاً من حيث علاقتها بالدين.
- الإنسان والأسئلة المصيرية:
نستطيع أن نقترب أكثر من فهم الموضوع إذا عدنا إلى الأسئلة المصيرية التي تواجه الإنسان في كل زمان ومكان مثل: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ هل خلقنا خالق أم جئنا من غير شيء؟ وما الغاية من وجودنا؟ وما نفعل؟
وكانت هناك ثلاثة طرق اتخذتها البشرية في الإجابة عن ذلك:
- التقليد واتباع الآباء أو الوثنية: أي اعتقاد ما اعتقده الآباء بغير تفكير فيما يدور حول عبادة الوثنية أو الطوطم أو الطاغية الذي يحكم البلاد أو القبيلة ويدخل في ذلك.
- التسليم بكتب الأنبياء: أي التسليم بصدق ما جاء في كتب الأنبياء من وحي وأخذ التصورات والمفاهيم والتعاليم منها.
- الاعتماد على العقل الإنساني: أي محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال إعمال العقل الإنساني في الكون والتجارب البشرية وتاريخ الشعوب.
ولا نستطيع أن نقول هذه الطرق تمثل ثلاثة مسارات منفصلة، بل غالباً ما يتم الدمج أو الجمع بين هذا وذاك في مختلف الحضارات والمذاهب، بل نستطيع القول إن الإسلام يجمع في أطر محددة ما بين الطريقين الثاني والثالث.
- كيف كان يفكر الإغريق الآباء الأوائل للحضارة الغربية؟
لم يعرف عن الحكماء الذين عرفتهم الحضارات القديمة في مختلف أرجاء العالم أنهم قد زعموا إدراك الحقائق واستخلاص التعاليم اعتماداً على إعمال العقل الإنساني فقط؛ فهم إما أرجعوا ذلك إلى حكمة الآباء وموروثاتهم الدينية والفلسفية، أو أن هناك وحي السماء قد أوحي لهم بذلك. فلم يزعم زرادشت (٦٢٨ ـ ٥٥١ قبل الميلاد) في الحضارة الفارسية على سبيل المثال أنه قد أتى بحكمته كناتج عقلي له أو حتى لمن سبقوه، وإنما أعلن أنه «يلبي نداء ربه منذ البداية» (٣) .
و (جوتاما بوذا) الذي عاش في الهند في القرن السادس قبل الميلاد أعلن موقفه بأنه ليس سوى واحد من البوذات السابقين (٤) .
وعلى الرغم مما يقوله الرواة عن تجنيب كونفوشيوس للمواضيع الدينية فإن «هناك مقولات عديدة يتحدث فيها كونفوشيوس عن السماء الإله الأساسي عند الصينيين، ويبدو أنه قد أحسن في الحقيقة بأنه قد عهدت إليه السماء شفاؤه علل العالم الصيني، وكان أمله أن السماء لا ترضي له أن يخفف» (٥) .
وإذا رجعنا إلى الديانات الوثنية القديمة فإننا نجدها تصبغ بعض الصفات الجديرة بالاحترام البشري على آلهتها القديمة مثل (أوزوريس) الذي ارتبط بالخير في الديانة المصرية القديمة.
ولكن المشكلة الأساسية في الحضارة الإغريقية أنها حضارة تعد حضارة ناشئة إلى حد كبير مقارنةً بالحضارات القديمة التليدة، وقد نشأت على يد مجموعة من البرابرة عباد الطبيعة الذين استولوا على بلاد اليونان في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد (١١٠٤ق. م) .
«وكان على الحضارة الهلينية (الإغريقية) أن تبدأ حياتها بأن تعيش على تراثين خلَّفهما البرابرة هما: الملاحم التي تنسب إلى (هوميروس) والتي أصبحت بالنسبة للمسلمين مجموعة من الآلهة التي لم تكن سوى رموز على تقلبات الطبيعة الغامضة، بل صنعت على صورة الإنسان وصورة الإنسان البربري من دون سائر البشر» (٦) .
وما تذكره الأساطير من أفعال غير محترمة لتلك الآلهة ما كان ليجعلها جديرة بالاحترام، بَلْهَ التقديس؛ فالسطو والخطف والاغتصاب والخيانة هي أمور لصيقة بها، وهو الأمر الذي كان له انعكاسه على الضمير الإنثرابولوجي (الضمير الإنساني التاريخي) الغربي، فاسم القارة نفسه (أوروبا) مأخوذ عن (إيروبا) ابنه ملك مدينة صور التي رآها زيوس (كبير الآلهة لديهم الذي لا تنتهي فضائحه) فهام بها حباً، ولكي يفوز بها تقمص شكل ثور وديع، وراح يقفز حولها حتى قفز في الماء حاملاً حبيبته إلى كيريت حيث أنجب منها ثلاثة ذكور. وبلوتو (إله العالم السفلي) يختطف الإلهة كوري ويغتصبها في مملكته تحت الأرض. وكما يقول بيريتراندراسل: «فإن مجمع الآلهة في جبل الأولمب هو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية كما تبدو في ملحمة هوميروس تكاد تكون بلا فاعلية» (١) ، ويتحدث الأستاذ يوسف كرم عن آلهة الأولمب فيقول: «نحن هنا في أحط دركات التشبيه، وبإزاء أوقح أشكال الاستهتار. نرى العاطفة الدينية ضعيفة إلى حد العدم، والمبادئ الخلقية مقلوبة رأساً على عقب» (٢) . وما نريد أن نقوله من كل ما سبق أن النتاقض بين الدين والعقلانية في الحضارة الغربية قديم قِدَم الحضارة الإغريقية ذاتها التي تعد الحضارة الغربية امتداداً طبيعياً لها.
«فلم يكن في الديانة القديمة المستمدة من الأساطير الإغريقية ما يغري العقول اليونانية الكبيرة بالإنصات إليها. وهكذا هاجم أكزينوفان (٥٧٠ ـ ٤٨٠ ق. م) النزعة التشبيهية (تشبية الآلهة بالبشر) زاعماً أن الثيران يمكن أن تصنع لنفسها أصناماً مماثلة من الثيران. وأنكر أنكساجوراس ألوهية الشمس، وذهب إلى أنها حجر أحمر ملتهب أكبر حجماً من جبل البليونيز» (٣) .
وكما يقول المؤرخ الغربي الكبير أرنولد توينبي: «كانت الطبيعة البشرية البربرية التي انعكست صورتها على مجموعة الآلهة الأوليمبية في واقعية مؤلمة، موضعاً للعبادة لا يليق على الإطلاق بمجتمع ما زال في طور التحضر، وهو الأمر الذي أدى بها إلى السقوط سريعاً في نظر العالم الهليني، وذهب الأمر إلى أن أصبحت الآلهة الأوليمبية في قصائد هوميروس ذاتها في صورتها المنقحة الأخيرة التي باتت فيها قانونية معتمدة موضعاً للتجريح والهزء. وما أن حل القرن السادس قبل الميلاد حتى حمل عليها الفيلسوف (كسينوفانيس) حملة شعواء. واضطر الهليونيون إلى البحث عن موضع للعبادة عوضاً عن الآلهة الأوليمبية، وظل هذا البحث جارياً حتى انمحت الحضارة الهلينية نفسها من الوجود» (٤) .
وهذا ما نقوله تماماً: إن الإغريق ظلوا بيحثون عن مصدر آخر للحقيقة بعيداً عن هذا الجو الديني الأسطوري الدنس الذي اتسمت به الحضارة الإغريقية. ولم يكن من المعقول أن يذهب الفلاسفة الذين وضعوا أسس الحضارة في التفكير الغربي مثل ديمقريطس وأرسطو وأبيقور ـ أن يذهبوا إلى عرَّافة دلفي (أحد أهم المعابد الإغريقية) ليسألوها عن ماهية حقائق الكون أو حتى عن حقيقة الدين نفسه حتى تروح في غيبوبة وتجيب عن تساؤلات شتى. فالديانة اليونانية لم يكن بها أي قدر من المعقولية أو القداسة، وما كان للفلاسفة سوى أن يعتمدوا على عقولهم وخبراتهم الواقعية في العمل على إدراك حقائق الوجود، وإدراك حقيقة الدين نفسه. وسواء نتج عن ذلك فلاسفة ملحدون أو فلاسفة مؤمنون فإن طريق الإبستمولوجي (المعرفي) لإدراك ذلك كان مستقلاً عن الديانة اليونانية؛ فحتى الذين ذهبوا منهم إلى الإيمان بوجود إله فإنهم ذهبوا إلى ذلك من خلال تصوراتهم، بل ومن خلال هذه التصورات العقلية حددوا تصورهم للصفات الإلهية؛ بل إن التصور الأرسطي بالذات للإله الذي لا ينشغل بالعالم وإنما بتأمل ذاتي لا نهاية له هو الذي ترك بصماته في الفكر الديني الفلسفي لدى الغرب. ونحن نتحدث هنا عن التيار الأصيل في الفلسفة الإغريقية أي تيار الفلاسفة الذين نشؤوا بين أناس يعتقدون بالعقيدة الأوليمبية، ومن ثم كان رفضهم لها وهو تيار الأيونين والإيليين والسوفسطائيين والأرسطيين والأبيقوريين. بخلاف تيار ضئيل لم ينعكس تأثيره كبيراً على الفلسفة الغربية الحديثة، وهو التيار الصوفي الذي يمثله الفيثاغورثيون (نسبة إلى الفيلسوف والعالم الشهير فيثاغورث) الذين تأثروا كثيراً بالحضارة الهندية.
- العلمانية هي السمة الرئيسة التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير:
وعلى ما سبق فإن السمة الرئيسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير الاقتصار على العقل البشري وخبراته فقط في معرفة الحقيقة وتجريد الوعي البشري من أي معرفة دينية للحقيقة أو بقول آخر البحث عن ثمار الحقيقة في غير شجرة الدين تماماً إلى الأبد.
إن عقولهم غُلف عن الاقتناع بأنه من الممكن أن يكون هناك شيء يسمى وحي يتدخل من خلاله في شؤون العالم، ويصطفي أحداً من خلقه ليقوم بمهمة إبلاغ رسالته إليهم. إنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بأن هناك شيئاً سيهبط من السماء إلى الأرض ليشق نسيج الحياة الرتيب الذي ينسج حياتهم، ويكشف لهم عن حقيقة الوجود، ويحدد لهم الدستور المعيشي الذي ينبغي أن تكون عليه حياتهم وعبادتهم.
وهذا هو المعنى الحقيقي للعلمانية الذي لا يسمح لشيء آخر غير العقل أن يتدخل أدنى تدخل في حياة الإنسان وتصوراته، ولا يترك حتى للدين نفسه أن يحدد موقعه من تلك الحياة، بل هي ـ لو أرادت ـ التي تسمح بهذا التدخل الذي تقوم بتحديد نطاقه الضيق للدين؛ بحيث يتحتم عليه عدم الخروج منه.
وهذ الذي نقوله عن كون الواقع الفكري للعلمانية هو في الأصل السمة الأساسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير والتي هي الأصل في التفكير الغربي بوجه عام له شواهده الكثيرة لدى المفكرين الغربيين أنفسهم. فعلى سبيل المثال يذكر بريتراند راسل (أحد أهم فلاسفة الغرب في القرن العشرين) أن التمرد على الجمود الفكري للفيلسوف اللاهوتي توما الإكويني في العصور الوسطى أدى إلى «سير التيار الفلسفي الرئيسي مرة أخرى في القنوات العلمانية؛ بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسود فلسفة القدماء» (١) .
ويقول ج. ج. كراوزر واصفاً ثالز (أحد علماء الإغريق) بأنه: «قد قام بتمحيص المعلومات القليلة التي بلغته عن العلوم الرياضية عند المصريين والبابليين بنفس الطريقة العلمانية التي استخدمها في التحري من مدى صدق الحكايات التي كانوا يقولون بها عن الخلق» (٢) .
وتقول الكاتبة المهتدية مريم جميلة (مارجريت ماركوس سابقاً) عن التحولات الفكرية في عصر النهضة: «وبشغف شديد تحول مفكرو عصر النهضة إلى الاستلهام من علوم اليونان والرومان القديمة، وبإحلال الإيمان بقدرة العقل البشري المجرد محل الإيمان بالله» (٣) .
كل ما سبق يؤكد أن العلمانية هي طريقة التفكير التي كان ينتهجها التيار الأساسي في الفكر الإغريقي الذي يعد الفكر الغربي بوجه عام امتداداً طبيعياً له، ولم تنشأ كما هو سائد رد فعل لجمود الكنيسة الغربية واضطهادها للعلماء والمفكرين في عصر النهضة. وإن غاية ما حدث في ذلك أن هؤلاء العلماء والمفكرين استعانوا بها مرة أخرى في مواجهة كهنوت الكنيسة واضطهادها حتى سادت تماماً واستمرت في الغرب حتى الآن.
- ما نراه في تعريف العلمانية:
وعلى هذا فإن ما نراه في تعريف العلمانية هو: «الاقتصار على العقل البشري وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة» (٤) ، وهو الأمر الذي يعني في الوجه المقابل له إقصاء أي مصادر أخرى وعلى رأسها الوحي المقدس في إدراك حقائق الوجود، والطريقة التي يجب انتهاجها في الحياة التي نعيشها.
وما أقصده بإرداف كلمة (وخبراته) بعد قولي العقل البشري أن المسألة يدخل فيها ما يقبله العقل من الجهود العقلية للآخريين في التفكير، وكذلك التجارب الحسية والعلمية التي يحكمها العقل في النهاية، فيشمل كلامي هذا تياري الفكر الغربي معاً: العقلي، والتجريبي.
- تطور الفكر العلماني:
نشب الصراع بين المسيحية منذ ظهروها وبين العقائد اليونانية القديمة، وهو ما نتج عنه في النهاية بعد قرون طويلة من الحرب والمساومة مزيجٌ عقائدي مزدوج يتمثل في المسيحية الثالوثية وطقوسها وسلطاتها البابوية، وأجهصت الفرق الرافضة لهذا الهجين الثالوثي من المسيحيين الأوائل والذين كان أبرزهم فريق الإيروسيين الذين انضم أتباعهم إلى الإسلام فيما بعد. ومع ذلك فقد منح هذا المزيج الأوروبيين بُعداً مفيداً لهم يتمثل في الوحدة الروحية الدينية تحت سلطة الكنيسة والتي تحولت فيما بعد إلى وحدة سياسية تحت سلطاتها أيضاً؛ لأن الأباطرة والملوك كان لا بد لهم أن يلتمسوا من البابا التنازل عن السلطة الزمنية (السياسية) لهم.
ومن ناحية أخرى فقد فرض هذا المزيج تاريخاً طويلاً من التمرد على اللا معقولية، وما اتسم به كهنته من استبداد وفساد.
ومثَّل الإسلام منذ ظهوره الطرف المضاد لأوروبا في صراعها التقليدي مع الشرق، ومع ذلك فقد أمدها الإسلام من خلال صلاتها المتعددة بأوروبا في شرق المتوسط وإيطاليا وبلاد الأندلس بدعوته إلى العقل، وعقيدته البسيطة الخالية من الكهنوت التي تدور حول مبدأ التوحيد، وساعد ذلك على انطلاق خطواتها الأولى في اتجاه التقدم العلمي والتحرر السياسي والنقد العقلي لعقائد الكنيسة في نهاية العصور الوسطى وتم مواجهة ذلك بأقصى درجات البطش والتنكيل، وهو الأمر الذي فجَّر الثورات المتتالية على الكنيسة مع بداية عصر النهضة وما صاحب ذلك من ظهور المنهج التجريبي وبزوغ الفكر العليم في أوروبا.
ولكن في ظل استمرار اضطهاد الكنيسة للعلماء والمفكرين في عصر النهضة؛ فإن الحركة العقلية في أوروبا اتخذت منحى متطرفاً اتجه بها إلى العداء للدين، بل الإلحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة واضطهادها؛ وذلك لأن الاضطهاد المستمر لهؤلاء قرن التحرر العقلي عندهم باتخاذ الجانب المناوئ للدين عموماً. وبات مستقراً في الضمير الغربي منذ ذلك الحين تناقض الفكر والعلم مع الأديان بوجه عام وهكذا ورّثت المسيحية الثالوثية عداء العلماء والمفكرين لها إلى الإسلام أيضاً.
وبذلك تمت استعادة الفكر الإغريقي العلماني من جديد في عصر النهضة كسلاح في وجه الكنيسة الغربية خصوصاً في جانبه المادي الإلحادي (ديمقريطس ـ أبيقور) الذي وجد صداه بعد ذلك في كتابات رواد المذهب المادي الإنجليزي (هوبز ـ لوك ـ هيوم) في عصر التنوير المتمثل في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وانتشر وذاع من خلال رواده الفرنسيين (ديدرو ـ فولتير ـ دالمبير) . ويتضح من ذلك استقلال العلمانية عن الأديان بوجه عام وإن لم ينف ذلك تلاقي مصالحها مع الصليبية والصهيونية في أحيان كثيرة.
ثم تطور الفكر العلماني إلى العديد من المذاهب الشهيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الماركسية والوضعية المنطقية والعلمانية التحليلية والبرجماتية والوجودية الإلحادية حتى بلغ مرحلة الإجهاد التام في الفكر الحداثي وما بعد الحداثي من المذاهب الغربية؛ لأنها تمثل التيار العام الذي تولدت عنه مختلف هذه المذاهب. وسنحاول شرح ذلك تفصيلاً ـ بإذن الله ـ في مقال آخر.