الورقة الأخيرة
[الدمعة الألبانية]
محمد بن سليمان المهنا
جاءني خبر وفاة الشيخ العلامة أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر
محمد ناصر الدين الألباني بُعيد صلاة المغرب من ليلة الأحد الثالثة والعشرين من
الشهر السادس من عام ١٤٢٠هـ، فنكأ الجرح، وبعث الحزن الذي تجرعته
أنفسنا خمسة أشهر منذ وفاة شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين عبد العزيز بن باز رحمه
الله وغفر لنا ولهم. آمين.
نعم! قبض في خمسة أشهر رأسا الأمة وإماما الحديث والسنة الرجلان اللذان
رَبَّيا النشء المبارك من شباب الإسلام على الأخذ بالكتاب والسنة وتعظيمهما وعلى
اطِّراح التقليد ونبذ العصبية المذهبية والرجوع إلى كتب السنة قراءة وعناية وحفظاً. ما إن جاءني هذا الخبر حتى تلفَّتُّ يمنةً ويسرةً: ماذا أصنع؟ ومن أُعزِّي؟ ثم
انطلقتُ أنا وإخواني يُعزي بعضنا بعضاً، وقصدنا بالتعزية كبار علمائنا وجمعاً من
طلبة العلم الذين عُرفوا بالعناية المتميزة بآثار الشيخ رحمه الله.
ثم عمدت إلى أشرطة للشيخ كنت اقتنيتها قديماً، فجمعتها لأجدد العهد به
وأتعزى ببقاء عمله خالداً إلى ما شاء الله.
واستمعت إليها وكان من بينها شريط محاضرة لم يتبين لي مكان إلقائها ولا
تاريخه إلا أنها كانت بعد العصر فيما أظن والله أعلم.
والعجيب من تلك المحاضرة فاتحتها وسائرها مُعْجِبٌ فقد بُدئت بمقدمة ألقاها
شاب حسن الصوت والأسلوب، وكانت كغيرها من مُقَدمات المحاضرات شكراً
للشيخ وثناءً عليه وعلى علمه ودعاءً له بالخير والإثابة.
ولم يكن في المقدمة شيء من الإطراء والمبالغة في المدح، وإنما اشتملت
على مدح يسير وثناء متواضع على الشيخ وعلمه وجهاده، ثم ختم المقدم كلامه
ليبدأ الشيخ محاضرته.
بدأ الشيخ بخطبة الحاجة، وفي صوته ضعف، وفي لسانه حَبْسة، ثم قال:
(أشكر الأخ على كلمته وعلى ثنائه، وليس لي ما أقوله لقاء ذلك الثناء إلا الاقتداء
بالخليفة الأول أبي بكر الصديق الذي كان الخليفة الحق والأول لرسول الله) ،
ولم يكن صوت الشيخ يزداد إلا تقطعاً وضعفاً واحتباساً، ثم قال: (ومع ذلك،
فكان إذا سمع رضي الله عنه شخصاً يثني عليه خيراً وأعتقد أن ذلك الثناء مهما كان
صاحبه قد غلا فيه، فما دام أنه خليفة رسول الله فهو بحق ومع ذلك ... ) وهنا
انقطع صوت الشيخ وبكى طويلاً وسمعته يقول مُخافتاً: (الله المستعان) ثم سكت
ونشج وانتحب ثم أكمل فقال: (ومع ذلك كان يقول: اللهم لا تؤاخذني بما
يقولون) ، ثم سكت، ثم أكمل: (واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا
يعلمون) وهنا انقطع صوته مرة ثانية، وبكى، ثم قال: (هذا يقوله الصدِّيق الأكبر؛ فماذا نقول نحن من بعده؟ فأقول اقتداءً به: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، ... واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون) ثم أضاف الشيخ وهو يبكي فقال: (الحقُّ والحقَّ أقول: لست بذلك الموصوف الذي سمعتموه آنفاً من أخينا الفاضل؛ وإنما أنا طالب علم لا شيء آخر) .
ما أن سمعت تلك الكلمات الصادقات التي اختلطت بالدموع والعبرات حتى
أيقنت بما كنت مؤمناً به من قبل من صدق الشيخ، ونصحه لله ورسوله وللمسلمين
أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكِّي على الله أحداً، حتى أيقنت أن الشيخ لم يكن يردُّ
على المخالف وربما أغلظ عليه إلاَّ غيرة على الدين ونصرة لشرعة رب العالمين،
فلم يكن قصده الصعود على أكتاف العلماء، ولا التنقص من ذواتهم، ولا التفكه
بالنيل من أعراضهم، وإنما كان غيوراً وربما دفعته الغيرة إلى شيء من الغلظة
والفظاظة.
وهذا وإن لم يُستحسن أحياناً إلا أن وراءه نية صالحة وقصداً حسناً؛ والله لا
يضيع أجر المحسنين.
هذا اليقين بصدور الشيخ عن قصد حسن بعيداً عن الانتصار للنفس وحب
الشهرة والظهور لم يُستفد من هذه الواقعة آنفة الذكر فحسب؛ وإنما استفاده
المنصفون من تاريخ طويل وسيرة عريضة سارها الشيخ في خدمة السنة والذود عن
حياض الشريعة، وليست هذه الواقعة إلا مثالاً من أمثلة كثيرة تشهد على تواضع
هذا الرجل العظيم، وتدل على ما ينطوي عليه قلبه من خير وصدق وهضم للنفس، وإلاَّ؛ فعلامَ البكاء الذي قطع كلام الشيخ وأخفى صوته؟
ثم لماذا نفى تلك الأوصاف التي مدحه بها المقدِّم مع أنه يستحقها وأكثر منها؟
ثم لم يكتف بذلك؛ بل نفى أن يكون من العلماء، وقال: (إنما أنا طالب علم لا
شيء آخر) .
إنها والله أخلاق الصادقين من العلماء، ولقد تذكرت بها الإمام الرباني شيخ
الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله الذي كان آية في التواضع والخشوع مع شدة
متناهية على أهل الأهواء؛ فانظر ما يحدِّث به عنه تلميذه الإمام الحَبر الهمام ابن
القيم رحمه الله يقول: (ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من
ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: (ما لي شيء، ولا مني شيء
ولا فيَّ شيء) وكان يتثمل كثيراً بهذا البيت:
أنا المُكدِّي وابن المُكدِّي ... وكذاك كان أبي وجدي
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: (والله إني لأجدد إسلامي كل وقت، وما
أسلمتُ بعدُ إسلاماً جيداً) ، وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه وعلى
ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي
ثم ذكر بعدها تسعة أبيات ملئت تواضعاً وخضوعاً وإخباتاً لله تعالى.
هكذا فليكن العلماء، وبهذا فليتأدب الطلاب، والحمد لله الذي أرانا في علمائنا
الأنموذج الصادق ليكونوا للناس أئمة وهداة.
اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.. اللهم صلِّ على نبينا محمد وآله
وصحبه أجمعين.