للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بوش يدفن مشروع الدولة الفلسطينية]

خليل العناني

«إن قيام دولة فلسطينية بحلول عام ٢٠٠٥م أمر يصعب تحقيقه في ظل الحقائق التي تجري على أرض الواقع..» بهذه الكلمات نطق الرئيس الأمريكي جورج بوش في حواره لجريدة الأهرام المصرية قبل أسابيع قليلة.

وكم كان مثيراً أن ينطق بوش بهذه الكلمات في الوقت الذي ظل فيه وعلى مدار أكثر من عامين يهمهم برؤيته حول الدولة الفلسطينية المزمع قيامها، ويؤكد التزامه بالمساهمة في تدشينها.

وتتعدد الدلالات التي تتناثر من هذا التصريح لعل أولها: أن بوش، وللمرة الأولى منذ طرح خارطة الطريق، قد اعترف صراحة بموت هذه الخارطة، طالما أن الدولة الفلسطينية لن ترى النور. ثانياً: أن بوش قد شيع محاولات إقامة الدولة الفلسطينية إلى مثواها الأخير انطلاقاً من محاولته تسويغ ما يحدث على أرض الواقع باعتباره عقبة في وجه مثل قيام هذه الدولة. ثالثاً: أن بوش قد أقر ـ وبَصَم ـ بحق إسرائيل في تحديد ملامح الدولة الفلسطينية (دولة غزة) وذلك من خلال اعترافه بما يجري على أرض الواقع؛ بل وشرعنته لحساب إسرائيل. رابعاً: لم يَعُدْ بوش مجرد راعٍ لطرفي النزاع وحاضر بينهما، ولكنه بات متشيعاً للإسرائيليين يدعم موقفهم ويساهم في تعزيز رؤيتهم للدولة الفلسطينية.

وبدلاً من أن يدين بوش أفعال الاحتلال الإسرائيلي ومجازره بحق الفلسطينيين، نجده يخرج علينا بتصريح ينسف كل محاولات إقامة الدولة الفلسطينية، ويسوِّغ جرائم الاحتلال بدءاً من بناء الجدار العازل، وانتهاء بخطة فك الارتباط؛ باعتبار ذلك «حقائق تجري على أرض الواقع» .

وإذا كان بعضهم يرى في مثل هذا التصريح كارثة ـ وهو بالفعل كذلك ـ إلا أن ما فعله بوش قبل أقل من شهر كان المصيبة الكبرى، ويجعل من مثل هذا التصريح أمراً هيناً؛ فعملياً فقدت الدولة الفلسطينية كل مقوماتها الممكنة، وبات الحديث عنها من قبيل الأماني؛ فخطاب الضمانات الذي وقعه بوش لمصلحة شارون حمل الكثير الكثير من مفردات وأد هذه الدولة الفلسطينية. فكيف تكون هناك دولة في حين يجري الآن اقتطاع ما يقرب من ٤٥% من أراضي الضفة الغربية، ويجري تهويد أجزاء كبيرة منها لمصلحة المستوطنين؟ وكيف تصبح هناك دولة فلسطينية وقد أُلغي حق العودة لأكثر من نصف سكانها؟

ومن المفارقات أن يأتي تصريح بوش، ومع جريدة عربية، في الوقت الذي تزداد فيه مشاعر الكراهية والضيق بالولايات المتحدة وما تفعله في العراق، وخاصة بعد تفجر فضيحة صور الأسرى العراقيين، وبدلاً من أن يلملم بوش أطراف فضيحته، ويحاول التخفيف منها، يتصرف على العكس من ذلك تماماً، ويزيد من جروح العرب ويرفض إقامة الدولة الفلسطينية.

وكعادته لم يدرك الرئيس بوش خطورة ما أطلق من تصريحات بشأن الدولة الفلسطينية، فهو لا يقع فقط في مأزق مزدوج ومناقض لتصريحاته السابقة التي أكد فيها التزامه برؤيته للدولتين، ولكنه أيضاً يدفع بالقضية تجاه الموت الحقيقي، فلا سلام بدون دولة فلسطينية، ولا أمن لإسرائيل بدون ضمانات إقامة مثل هذه الدولة.

وتظل الدوافع والذرائع التي أطلقها بوش لتسويغ مثل هذا التصريح واهية وغير مقنعة؛ فالقول بأن حقائق الواقع تفرض صعوبة ـ إن لم يكن استحالة ـ إقامة الدولة الفلسطينية؛ فهذا عذر أقبح من ذنب؛ وهذه الحقائق لم يفرضها الفلسطينيون، بل فرضها الإسرائيليون، وحوَّلوا حياة الفلسطينيين إلى كرة من اللهب أفقدتهم القدرة على التعاطي بعقلانية مع جرائم الاحتلال، وزادت من كراهيتهم للتفاوض مع إسرائيل ولو في الأمد المتوسط.

أغلب الظن أن بوش ما زال يراهن على شراء الأصوات اليهودية في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولذلك فلا مشكلة لديه في أن يبيع ما يستطيع أن يشتريه اليهود، وما زال مسلسل التضليل الذي يمارسه أفراد طاقمه مستمراً، ويدفع باتجاه تأكيد حقائق الواقع التي هي بالفعل تصب في مصلحة إسرائيل قلباً وقالباً.

وإذا كان الفلسطينيون قد تعوَّدوا من الولايات المتحدة ـ وتحديداً الإدارة الحالية ـ مثل هذا التحيز الأعمى لإسرائيل إلا أنه لم يكن يوماً بمثل هذه الفجاجة والفجور. فكل ما يقوله بوش اليوم قد يتراجع عنه غداً إذا شعر بعدم انسجامه مع المصلحة اليهودية، ومن ثَمَّ مصلحة بوش الشخصية، وما قد يُقال عن ضمانات بوش للعرب بشأن قضايا الوضع النهائي لا تعدو كونها مجرد واجهة لإخفاء ما يحصده الإسرائيليون، والعجيب أن ترى من بين العرب من يصدق هذا الهراء رغم وضوحه وعلانيته.

أطلق بوش تصريحه انطلاقاً من عدة دوافع نراها قادرة على قلب معادلة الصراع رأساً على عقب؛ لعل أولها توفير الدعم المعنوي لرئيس الوزراء الإسرائيلي إرئيل شارون، خاصة بعد إخفاقه في الحصول على تأييد أعضاء حزبه «الليكود» على خطته للانسحاب من غزة، وهنا يلعب بوش دور المنقذ لشارون؛ فهو من ناحية يدعمه من خلال السماح له بالتمادي في مشروعاته التوسعية، ومن ناحية أخرى يضمن له ألا تقوم دولة فلسطينية إلا بعد الانتهاء من هذه المشروعات والمخططات الاستيطانية.

ثانياً: أن بوش يحاول توفير أطول وقت ممكن لشارون من أجل تنفيذ خطته للانسحاب من غزة والتي قد تستغرق عاماً كاملاً، وهو ما يتعارض بالطبع مع إقامة الدولة الفلسطينية.

ثالثاً: أن بوش يحاول طمأنة شارون إلى أن ما حصل عليه الملك الأردني لم يكن سوى كلام لا أكثر، خاصة بعدما شك بعضهم في أن يكون الرئيس الأمريكي قد أعطى الملك عبد الله وعوداً مكتوبة بإقامة الدولة الفلسطينية أو ما شابه ذلك.

وقد أتت تصريحات الرئيس بوش هذه في الوقت الذي تحدثت فيه صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية عن طرح إسرائيل لخطة بديلة للانسحاب من غزة بعدما أخفقت خطتها القديمة، وتقوم هذه الخطة الجديدة على أساس انسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة وإخلاء كافة المستوطنات هناك، وأن تخصص مصر ٦٠٠ كلم مربع من الأراضي، يصل طولها إلى ٣٠ كلم على امتداد الحدود الفلسطينية المصرية، وبعرض ٢٠ كلم داخل سيناء، بما في ذلك قطاع الشاطئ الذي كانت تقوم عليه في السابق مستوطنات يميت وبيتاح رفياح. وبضم هذه المنطقة إلى الفلسطينيين تتضاعف مساحة غزة ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن، وفي المقابل تحصل مصر على منطقة بديلة مساحتها ٢٠٠ كلم مربع في منطقة وادي فران في النقب، وكذلك على نفق بري يربط بين مصر والأردن ويخضع للسيادة المصرية، أما الأردن فيحصل على منفذ إلى البحر المتوسط، عبر النفق البري وميناء غزة.

ويحصل الفلسطينيون على ٨٩% من أراضي الضفة الغربية، بينما تحصل إسرائيل على مساحة الـ ١١% المتبقية من الضفة، والكافية لضم كل الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، إضافة إلى ميناء كبير في غزة، يتم تمويله من المجتمع الدولي، وعلى مطار دولي كبير على مداخل رفح، وتتولى مصر والأردن والولايات المتحدة الوصاية على المناطق الفلسطينية. ورغم التأكيدات على نفي مثل هذه الخطة، فما تدل عليه هو أن هناك محاولات إسرائيلية ـ كما هي العادة ـ لتقطيع أوصال الدولة الفلسطينية وتفريغها من مضمونها.

ولعل ما يثير الحنق حقيقةً هو أن الرئيس بوش لم يعد يُلْقِ بالاً بمصير الفلسطينيين أو يعبأ بمستقبل دولتهم، وهو في حرصه على ضمان أمن إسرائيل يتجاهل حقائق كثيرة ليس أقلها أن هذا الأمن لن يتحقق إلا من خلال التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين، أو على الأقل تحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية والتي على أساسها تم تفصيل خارطة الطريق، وقبل بها الفلسطينيون رغم مساوئها المتعددة. ولذا فمن غير المنطقي أن يُنجِز الرئيس بوش ما وعد به في خريطة الطريق في ظل هذا التجاهل التام للفلسطينيين ولدولتهم المستحقة.

ولا شك في خطورة إطلاق مثل هذا التصريح على مستقبل الفلسطينيين ودولتهم المنتظرة؛ فمن شأنه أن يؤجج مشاعر العداء الفلسطيني، ويزيد من توتر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية. وبالفعل فقد جاء الرد العملي على تصريحات بوش من خلال العملية التي نفذتها جماعة الجهاد الإسلامي وقتل فيها نحو ستة جنود إسرائيليين، والتي تُعد بحق من أقوى العمليات الاستشهادية إبان السنتين الأخيرتين.

بوش ـ بذكائه المعهود ـ يزيد من حجم السخط العربي له يومياً، ولم يكفه ما أحدثه جنوده في العراق قبل شهور قليلة، بل يتحايل عليه، ويظهر تمادياً في خرق الحقوق الفلسطينية، وهو بتصريحاته النارية نجح في استثارة كل الشعوب العربية ضده وتأليبها ضد أي قرارات أمريكية في العراق أو المنطقة بشكل عام.

ويظل التساؤل الأجدى في هذه المرحلة هو: كيف يتعامل العرب مع مثل هذه التصريحات والأفعال التي يُقدِم عليها الرئيس بوش، سواء كان مدركاً أو غير مدرك؟ وماذا يمكن للعرب أن يقدموه لإخراج القضية من غيبوبتها؟ وهنا يجب التذكير بأمرين نعتقد بأهميتهما في ضوء أي تحرك عربي ممكن:

أولهما: أن حقبة السلام التي عاشتها المنطقة طوال عقد من الزمان، وعلى إثر اتفاقات أوسلو، لم تكن سوى حُلُم ـ وربما وهْم ـ كان يخدم إلى حد كبير معسكر المتطرفين في إسرائيل، أكثر من كونه سياجاً يحمي القضية الفلسطينية من تهرُّئها، ويعود بالحقوق الفلسطينية لأصحابها.

أما الأمر الثاني: فهو أن استراتيجية العرب التي اعتمدوها بعد اتفاقات أوسلو للتعامل مع إشكاليات القضية الفلسطينية والتي تقوم في صلبها على تحريك مسارات التسوية عبر الشريك الأمريكي من جهة، وتهيئة العلاقات مع إسرائيل من جهة أخرى، لم تعد مجدية، وكان على العرب أن يدركوا ذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات، وخصوصاً بعد وقوع أحداث سبتمبر المفزعة.

وعليه فقد بات على العرب البحث عن استراتيجية جديدة أكثر إقناعاً بأن دورهم في حل القضية لا زال حياً ويمكن التعويل عليه؛ خاصة بعد أن أخفقت ـ أو على الأقل تجمدت ـ آخر حلولهم للقضية التي لخصتها المبادرة العربية التي قُدمت في قمة بيروت قبل أكثر من عامين. ويظل التساؤل حول شكل هذه الاستراتيجية الجديدة وملامحها جد مُلحّ.

من ناحية أخرى فلا يمكن فصل أي تحرك عربي لتحريك القضية عما يجب أن يقوم به الفلسطينيون أنفسهم، وهم رغم ضعف إمكانياتهم وحصار زعيمهم، ما زالت دوافع التحرك متقدة، بل وزادت عن ذي قبل، ولم يبق للفلسطينيين سوى أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم لا بيد (عمرو) .

وهنا يجدر التذكير بأن إسرائيل باتت في حِلٍّ من كل تعهداتها، وهو ما أعلنته صراحة وضمناً على لسان رئيس وزرائها وتصرفاته، وعليه يصبح من الضروري للفلسطينيين البحث عن استراتيجية جديدة للتعاطي مع الوقائع الجديدة التي تفرضها إسرائيل كل يوم، حتى وإن وصل الأمر إلى حل السلطة الفلسطينية ذاتها، باعتبارها نتاجاً لمرحلة سابقة، وإعادة القضية برمتها إلى المربع صفر، فَلَربما يكون هذا أجدى، على الأقل حالياً، للتعامل مع مثل هذا التمادي الإسرائيلي الأمريكي.