افتتاحية العدد
[الأصولية بين الاتهام والحقيقة]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى
يوم الدين.. وبعد:
ما زلنا وسنستمر بإذن الله دائبين انطلاقاً من رسالتنا الدعوية في الذب عن
ديننا الحنيف، وكشف كل ما يراد به من نوايا باطنة ومشكوفة للإساءة إليه ولدعاته
وعلمائه وللمنتمين إليه، وقد تطرقنا في افتتاحيات (البيان) وكثير من مقالاتها إلى
هذا الاتجاه وفضحه.
وبادئ ذي بدء: فالإسلام دين رباني يقوم على الكتاب والسنة وإجماع الأمة
بفهم سلفنا الصالح ... هذا ما ندين به، وما عداه من المنطلقات القديمة والجديدة مما
يخالف ذلك الفهم فهي منبوذة في نظرنا ولا قيمة لها البتة.
والأصولية المقصودة في رأي كثير من وسائل الإعلام الأجنبية وصداها في
عالمنا الإسلامي والعربي هي نهج فئات من النصارى ممن يَدْعُون إلى العودة
لجذورهم وأصولهم المعتبرة عندهم، وقد سبق لنا في هذه المجلة إيضاح حقيقة تلك
الأصولية، والمراد منها، والأخطاء المقصودة وغير المقصودة من إلصاق هذا
الفهم بالإسلام والمنتسبين إليه بحق، وأن الهدف النهائي الذي يدندنون حوله هو
إلصاق تهمتي (التطرف والإرهاب) بالإسلام ودعاته، مع العلم أن ما يحصل من
ذلك القبيل منسوباً لفئات إسلامية لا تمثل الإسلام الصحيح، وقد يكون سبب ذلك
انتشار الفساد في بعض المجتمعات في ظل سيطرة التطرف العلماني ...
وما نريد الوصول إليه: أن نبين للقارئ الكريم أن تهمة الأصولية إياها تأخذ
منحًى عجيباً ومفترى، يراد من ورائه إلحاق الأذى بالإسلام ودعاته، مع غض
النظر عن كل التوجهات الأصولية الأخرى في بلدان العالم التي أصبح لها حق
الوجود والعمل في وضح النهار، بما في ذلك حق الدخول في الانتخابات والمنافسة
للوصول إلى سدة الحكم، وعلى سبيل المثال لا الحصر (حزب الليكود الصهيوني) ، الذي نافس حزب العمل الحاكم في دولة يهود ووصل للحكم مرات وآخرها في
الانتخابات الأخيرة حيث أعطاه الشعب اليهودي خياره، مع العلم أن الحزبين في
نظرنا وجهان لعملة واحدة.. صحيح أن حزب (الليكود) - وهو تكتل أحزاب دينية
أصولية متطرفة - وحزب العمل ينطلقان من أسس توراتية وتلمودية معروفة (لا
تفريط في الأرض، ولا في بناء المستعمرات أو إخلاء القائم منها) و (لا تنازل عن
القدس عاصمة لهم) فضلاً عن (التحجيم لكيان الحكم الذاتي ورفض عودة فلسطينيي
الشتات) ، ومع ذلك: تقول الإدارة الأمريكية بعد فوز الليكود: على العرب ألا
يتعجلوا الحكم على حكومة (نتنياهو) .. هكذا بكل بساطة؛ لأن المسألة مراعاة
لليهود لكسب أصواتهم ذات الفعالية، أما العرب فهم آخر من يُفَكّرُ فيه.
وفي الهند وجدنا حزب (بهارتا جاناتا) الهندوسي الأصولي المتطرف له حق
الوجود، بل حرية العمل حتى وصل إلى المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة،
وقد نحى (حزب المؤتمر) العتيد، وكُلِّف رئيسه بالوزراة فعلاً، ولولا منافسة
الأحزاب الهندية الأخرى واجتماعها ضده لوصل إلى الحكم؛ فذلك الحزب
المتطرف له مواقفه العنصرية ضد أكبر أقلية في العالم وهم (المسلمون في الهند) ؛
حيث قَتَلَ الآلاف منهم وهدم المساجد، ومن أشهرها (مسجد البابري) ، وبعد فوز
الحزب أعلن رئيسه أن كشمير كلها هندية، وأنه سيعيد بناء المعبد الهندوسي على
أنقاض مسجد (أيوديا) .
هذان مثالان على التسامح الدولي مع الأصوليين غير المسلمين..
ولم تنل تلك الأحزاب المتطرفة من الإعلام الغربي بخاصة وتابعيه في
الإعلام العربي ولا (١%) من حقد وعدواة وتهويل مما وجه إلى الإسلاميين بمجرد
الإعلان عن دخولهم الانتخابات، بل وجدنا الشعار الديمقراطي جاهزاً: ضرورة
احترام اختيار الناخب (غير المسلم بالطبع!) .
وإن كان الموقف الغربي من دولة يهود معروف - وهو الانحياز الكامل لها -
لأسباب معروفة، إلا أن الهند لم يوجه إليها أي هجوم أوتحذير من خطر تمكين
الأصوليين فيها، أو التلويح لها بالمقاطعة، أو التهديد بالاجتياح إن استلم الحزب
الأصولي السلطة كما فعل (ميتران الهالك) حينما أوشك (االإنقاذيون) في الجزائر
على الوصول إلى الحكم، بل إن أمريكا أبدت استعدادها للاعتراف بالحكومة الهندية
مهما كان توجهها.
إننا نتساءل بكل صدق: أين الخوف المزعوم من الأصولية؟ ! وأين الرعب
المدّعى من خطر إمساكها بزمام الحكم؟ ! ، أم أن ذلك لا يكون إلا حينما يكون
الأمر في ديار الإسلام؟ .
وإن كان للعدو الصهيوني مكانته لدى الغرب بعامة وأمريكا بخاصة؛ وذلك
بالدفاع عنه بالتحالفات الاستراتيجية وإعطائه كل ما يريده من أسلحة الدمار الشامل، وتمكينه من صنع القنابل النووية وأسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي يحال دون
الدول الإسلامية واستيراد الأسلحة المتقدمة وتثار الزوابع ضد أي بلد مسلم يشاع
عنه محاولة اقتناء تلك الأسلحة، بل والتهديد بضربة لمجرد الاشتباه في ذلك وهذا
ما حصل بالفعل، فما معنى ذلك؟ إن المسألة هي محاربة الإسلام والمسلمين
ومحاصرتهم ووضعهم تحت سيطرة أعدائهم، بينما يعطى لعباد البقر في الهند حق
اقتناء السلاح النووي، وامتلاك ما يشاؤون؛ نكاية بجارتهم باكستان.. وإن كانت
حكومتها ذات منهج علماني، لكنها في الأخير بلد مسلم! .
الحقيقة أن الموقف الأمريكي لا يُستَغْرَب، فأمريكا وإن كانت تتبنى الاتجاه
العلماني بموجب دستورها إلا أن زعماءها يخلطون بين الدين والسياسة في علاقتها
مع دولة يهود، يقول أحد الباحثين [*] في هذا المجال: إن الموقف الأمريكي من
إسرائيل هو نموذج للخلط بين الدين والسياسة ... ، وهو الذي جعل كثيراً من
رؤساء أمريكا ابتداءً من (ولسن) ينطلقون في سياساتهم حيال (إسرائيل) من رؤى
توراتية، وهذا التناقض المكشوف لا تسلط عليه الأضواء ولا يكشف للناس؛
ليعرفوا الموقف الحقيقي لأولئك من الإسلام، وإلا.. فلماذا التسامح مع غير
المسلمين، بل دعوتهم واستقبالهم وخطب ودهم، كما فعل مع زعيم (الشين فين)
الأيرلندي الممثل لـ (منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي) صاحبة الأعمال
الإرهابية (الحضارية) الشهيرة!
إن الحرب ضد الأصولية بعامة هي في الأساس موجهة ضد الإسلام؛
لمحاولة إيقاف مده، ومنع انتشاره، ورفض أي تفوق باسمه، حتى ولو كان عن
طريق الديمقراطية (المزعومة) ، بل إنهم أوعزوا إلى أصدقائهم في بعض الدول
العربية لتقنين منع الاتجاهات الإسلامية من العمل مهما كان وزنها بدعاوى سخيفة
ما أنزل الله بها من سلطان، وليس وراءها إلا ما عرفنا، ثم الخوف والخوف وحده
من انتصار الإسلام، الذي طالما حاربوه مما ساعد على نشوء التطرف في الفكر
والغلو في الفهم، وأدى بالتالي إلي مواقف متشنجة وتصرفات متهورة رد فعلٍ لتلك
الأساليب الرديئة في الحكم، مما عاشت معه تلك البلدان واقعاً مأساوياّ معروفاً،
وكان بإمكانها تجاوز واقعها الكئيب لو عادت إلى حكم ربها وتحكيم شريعته وفتح
باب الحوار الذي يغلق كلما أراد عقلاء الأمة فتحه.
إن أسباب تلك الحرب الضروس ضد الإسلام أو ما يسمونه مكراً بـ
(الأصولية الإسلامية) راجعة لكراهية أعداء هذا الدين له، كما قال (تعالى) : [وّلّن
تّرًضّى عّنكّ الًيّهٍودٍ وّلاّ النَّصّرّى حّتَّى تّتَّبٌعّ مٌلَّتّهٍمً] لكن.. ما مبرر هذه الحرب من
أناس يحملون هويات مسلمة؟ ، لا شك أنه الانحراف والضلال وكراهية انتصار
هذا الدين، وإن سموا ذلك بالعلمانية أو العقلانية أو الحداثة، ومع أن كل الظروف
تعمل في ظاهرها ضد الإسلام والاتجاهات الإسلامية الصحيحة، ولكن النتائج
ستكون بإذن الله بعكس ما يريدون، وستتسع العودة الصحيحة إلى الإسلام، وما
حلت محنة بالأمة عبر تاريخها إلا وكانت سبباً في الرجوع إلى الله.
[وّيّمكرونّ وّيًمكر الله وّالله خّير الًماكرينّ] .
(*) البعد الديني في السياسة الأمريكية، د يوسف الحسن.